هل تقع على الاطفال مَسْؤُولِيَة جِنَائِيَة
المَسْؤُولِيَة الجِنَائِيَة لِلطفْل: قِراءَة فِي القَانُون الجِنَائِي لِسَنَة1991 وقَانُونِ الطِفْل لِسَنَة2010
لؤي عبدالغفور تاج الختم
لَم يَرِد في القانون الجنائي لسنة 1991م تعريف للمَسؤولية الجنائية, إلا أنه يُمكنُنا القول بأن المسؤولية الجنائية تَعنِي تَحَمُل الشخص للأثر القانوني المُتَرَتِب علي ارتكابه فِعل أو إمتِنَاع مُخالف للقانون. وحسب المادة8 من القانون الجنائي لا مسؤولية جنائية إلا علي الشخص المُكَلَف المُختار, وذلك عند ارتكابه عن قَصد, أو بإهمال لفعل غير مشروع. والشخص المُكلف يُقصد به الشخص البالغ العاقل, فضلاً عن ذلك لابد أن يكون الشخص حُر الإرادة غَيرَ مُكرَه علي الفعل, فوفقاً للقانون الجنائي المسؤولية الجنائية تنشأ متي ما توافرت شروط مُعينة وهي: أن يُشَكِل الفعل المُرتكب جريمة يعاقب عليها القانون, وأن يكون مُرتكِب الفعل شخصاً بالغاً, عاقلاً, مُختاراً.
بالتالي فالمسؤولية الجنائية في القانون الجنائي مُرتَبطَه ببلوغ الشخص الحُلم, والبالغ حسب تفسير المادة الثالثة من القانون الجنائي “يعني الشخص الذي ثبتَ بلوغه الحُلم بالامارات الطبيعية القاطعة وكان قد أكملَ الخامسة عشرة من عُمره, ويُعتبر بالغاً كُل مَن أكملَ الثامنة عشرة مِن عُمره ولو لَم تظهر عليه امارات البلوغ”. مايعني أن كُل شخص بَلَغ الحُلم وكان قد أكملَ الخامسة عشرة مِن عُمره, عند ارتكابه فعلاً يُعاقب عليه القانون, فهو يُعتبر مسؤولاً جنائياً عن فعله, وستُطَبق عليه العقوبة -أي عقوبة مُحددة- عَدا عقوبة الإعدام التي لايجوز الحُكم بها علي مَن لَم يبلُغ سِن الثامنة عشرة فيما عَدا جرائم الحدود والقصاص “المادة 27/2”. وعليه فلا مسؤولية جنائية علي الشخص غير البالغ الذي لَم يبلُغ الثامنة عشر من عُمره, وفي ذلك نصت المادة9 من القانون الجنائي “لا يُعَد مُرتكباً جريمة الصغير غير البالغ, علي أنه يجوز تطبيق تدابير الرعاية والإصلاح الواردة في هذا القانون علي مَن بَلَغَ سِن السابعة مِن عُمره حسبَما تراه المحكمة مُناسباً” والتدابير التي تُطَبق هي: توبيخ الصغير بحضور وَلِيَهُ في الجلسة, الجلد علي سبيل التأديب لِمَن بَلَغَ سِن العاشرة بما لا يجاوز عشرين جلدة, تسليم الحَدَث لوالده أو أي شخص مُؤتمن بعد التعهُد بحُسنِ رعايته, أو إلحاق الحَدَث بإحدي مؤسسات الإصلاح والرعاية الإجتماعية بقَصد إصلاحه وتهذيبه لمدة لا تقِل عن سنتين ولا تزيد علي خمس سنوات”المادة 47 من القانون الجنائي”. بالتالي ووفقاً للقانون الجنائي كُل مَن بَلَغ سِن السابعة ولَم يبلُغ سِن الثامنة عشرة –إن لَم تظهر عليه علامات البلوغ بإكماله الخامسة عشرة- وإرتكب فِعلاً يُعاقب عليه القانون, لا تُطبَق عليه عقُوبة تلك الجريمة, فالفِعل رغم أنُه يُعَد جريمة, إلا أن العقوبة ترتفع عن الصغير لأنه لا يُعتبر مسؤولاً جنائياً عن فعله, وتُطبق عليه تدابير الرعاية والإصلاح التي نص عليها القانون. وبالإضافة لهذه التدابير فالمَحاكِم تحكُم بالدية في جرائم القتل والجراح التي تسَبَب فيها غير البالغ “المادة43/د القانون الجنائي” وهي هُنا تجِب علي عاقلته.
وهُنا يَثور التساؤل, في حال ارتكبَ شخص في سِن السادسة عشر ولَم يبلُغ الحُلمَ بَعد فعلاً مُخالفاً للقانون, هل مِن حقه الإستفادة مِن أي دَفع قانوني؟ كالدفع بأنه كان يُمارس حقه في الدفاع الشرعي مثلاً, أم أن الدفوع القانونية لن تشفَعَ له؟ لأن المحكمة لن تنظُر فيه, علي أساس أن حق الدفاع الشرعي هو دفع للمسؤولية الجنائية, والشخص غير البالغ وفقاً للقانون الجنائي –إن لَم يكمل الثامنة عشر مِن عمره- هو غير مسؤول جنائياً! وهذا ما دَرَجَت عليه المحاكم. وإن كان ذلك كذلك, ألا يعني ذلك أن أي شخص غير بالغ إرتكب فعلاً يُعاقب عليه القانون, فلا مَحال سَتَطالُه تلك التدابير غض النظر عما يثيرهُ من دفوع قانونية؟! وهو ما يعني أن الدفوع القانونية مُرتَبِطَه فقط بِمَن هُم أهْل لِتَحَمُل المسؤولية الجنائية. ولكن أليسَ من الواجب هنا تمييز الطفل تمييزاً ايجابياً, إن لَم نَفْرِض له حماية قانونية علي قَدَم المُساواة مع الأخرين؟! حتي لا نحرمَهُ بذلك من حق قانوني مكفول للجميع “حق الدفاع الشرعي” وبالتالي نَهدِر حقه الدستوري في المُساواة أمام القانون, ثم كيف تحمي الدولة حقوق الطفل كما وردت في الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي صادق عليها السوادن وفقاً للمادة 32/5 من الدستور الانتقالي, والتي من ضمنها اتفاقية الطفل لسنة 1990, بينما يتضمن إعمال ذلك -في رأيي- تمييزاً ضد الطفل! ألَم يَكُن مِن الصواب تَمييز الأطفال حسب فئاتهم العُمرية ليستفيد بذلك مَن هُم فوق السِن المُحدد؟ خاصةً أن القانون الجنائي كَفل للشخص البالغ الحق في مُمارسة حق الدفاع الشرعي تجاه طفل مُعتدِي, وهو ما قد يؤدي للحُكم ببراءة الشخص البالغ إن مارس هذا الحق وفقاً للقانون! أيستقيم عقلاً أن يكون مِن حق البالغ إعمال هذا الحق دونَ أن يكون للشخص غير البالغ الذي لَم يكمل الثامنة عشر حق الإستفادة من ذلك!! مع الأخذ في الإعتبار أن القانون الجنائي أعطي الشخص المُعتَدَي عليه تَعَمُد تسبيب موت الشخص المُعتَدِي عليه إذا كان الخطر المُراد دفعُه يُخشي منه إحداث الموت أو الأذي الجسيم أو… إلخ “المادة 12/4”, بالتالي وفقاً لنص المادة فحق الدفاع الشرعي قد يَبلغ حّد تَعَمُد تسبيب الموت إذا خُشيَّ مِن الإعتداء إحداث الموت أو الأذي الجسيم.
وفي هذا فقد جاء في التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة الآتي “يري مالك والشافعي وأحمد أن الإنسان إذا صال عليه صبي أو مجنون أو حيوان يكون في حالة دفاع, فإذا قَتل الصبي أو المجنون أو الحيوان ولَم يكُن في وسعه أن يحمي نفسه من الصيال إلا بالقتل فلا مسؤولية عليه من الناحية الجنائية أو المدنية, لأنه كان يؤدي واجبه في دفع الصائل عن نفسه, ولكن أبا حنيفة وأصحابه عدا أبا يوسف يَرَونَ أن يكون المصُول عليه مسؤولاً مدنياً عن دية الصبي والمجنون وقيمة الحيوان وحُجتهم في ذلك أن الدفاع شُرِع لدفع الجرائم وعَمل الصبي والمجنون لا يُعتبر جريمة وكذلك فعل الحيوان الأعجم, ومِن ثمَ فلا وجود للدَفع في صيال الصبي والمجنون والحيوان ولكن للمُعتدَي عليه في هذه الحالة الحق في قتل الصائل أو جرحه أو إيذائه علي أساس الضرورة المُلجئة والقاعدة أن الضرورة المُلجئة لا تَعفِي مِن الضمان وإن أعفَت مِن العقاب في حين رأي أبو يوسف أن المَصُول عليه يكون في حالة دفاع إذا صال عليه صبي أو مجنون وفي حالة ضرورة مُلجئة إذا صال عليه حيوان بالتالي يكون مسؤولاً عن قيمَة الحيوان فقط. في حين يري شراح القوانين الوضعية أنه يجوز إستعمال حق الدفاع ضد المجنون والطفل ولو أن كليهما معفي من العقاب لأن الدفاع الشرعي ليس عقاباً يقع علي المُعتَدِي وإنما هو دفع لعدوانه وهذا يتفق مع ما يراه أغلب الفقهاء “الجزء الأول ص476 , 478”. وعليه, عندما يبيح القانون الجنائي للشخص المُكلف المُختار إستعمال حق الدفاع الشرعي في مُواجهة الطفل والمجنون وتنتفي العقوبة عندها لإباحة الفعل, فمِن الأولي إستعمال هذا الحق من قِبَل طفل -لنقُل بعد بلوغه سِن الثانية عشرة- في مُواجهة شخص صائل لدفع الإعتداء عنه. ألا يُعَد كُل ذلك قصوراً في القانون الجنائي؟
رغم أن قانون الطفل لسنة2010 قد حسم ذلك –في رأيي- عندما أفرد نصاً واضحاً تضمَنته المادة5 الفقرة2/ل والتي سنتناولها لاحقاً, إلا أنه حتي الآن لَم تَجِد تلك المادة حظَها مِن الإنتشار التطبيقي. فلا زال البعض يَركِن لنصوص القانون الجنائي فيما يتعلق بالمسؤولية الجنائية بإعتبار أن البلوغ هو الحاسم والفيصل في ذلك, رغم أن المادة الرابعة من قانون الطفل عرفت الطفل بأنه يُقصَد به كُل شخص لَم يتجاوز سِن الثامنة عشر, ورغم أن المادة الثالثة من قانون الطفل نصت علي سيادة أحكام قانون الطفل علي أي حُكم في أي قانون آخر يتعارض معه تأويلاً لمصلحة الطفل إلي المدي الذي يُزيل ذلك التعارض. وهو ما يعني أن العِبرَة في قانون الطفل ليست بالبلوغ وذلك عكس ما يذهب إليه القانون الجنائي. هذا بالإضافة إلي أن قانون الطفل هو قانون خاص والقانون الجنائي قانون عام, وكما هو مَعلوم فالخاص يُقَيِّد العام.
مَيَز قانون الطفل بين الطفل الذي لَم يبلُغ سِن الثانية عشرة وبين الطفل الذي أتمَ الثانية عشر ولَم يَبلُغ الثامنة عشر, حيث عَدَ الأول طفلاً مُعَرضاً للجنوح, ولا تُتخذ في مُواجهته أي إجراءات جنائية وتُطبق عليه التدابير الأتية: أ- التأثير المعنوي أو العدالة الأخلاقية أو أي اسلوب مُناسب يُوصي بها خبير إجتماعي أو نفسي مُختص ب- تسليم الطفل إلي والديه أو وليه الشرعي أو أي شخص يتعهد برعايته ج- أو تسليمه إلي جمعية خيرية لتربية الأطفال أو أي جهة خيرية اخري, وتتخذ شرطة حماية الأسرة والطفل ونيابة الطفل أو الرعاية الإجتماعية هذه التدابير بعد الحصول علي إذن مكتوب من محكمة الطفل”المادة68من القانون”, وهذا ما يتماشي وإتفاقية الطفل لسنة 1990 حيث نصت المادة 40/3/أ “تحديد سِن دنيا يفترض دونها أن الأطفال ليس لديهم الأهلية لانتهاك قانون العقوبات” وجاء في البند (ب) منها “استصواب إتخاذ تدابير عند الاقتضاء لمعاملة هؤلاء الأطفال دون اللجوء إلي إجراءات قضائية, شريطة أن تُحترم حقوق الإنسان والضمانات القانونية احتراماً كاملاً”. بالتالي يجب الركون للمادة 68 من قانون الطفل في حالة الأطفال دون الثانية عشرة من العُمر وعدم الإلفتات مُطلقاً للمادة التاسعة والمادة 47 من القانون الجنائي خاصة وأن ما نص عليه القانون الجنائي لا يتماشي واتفاقية الطفل.
هذا وقد عَدَ القانون الطِفل الذي أتم الثانية عشر ولَم يبلُغ الثامنة عشر طِفلاً جانحاً, وذلك عند إرتكابه فِعلاً مُخالفاً للقانون, وعرفت المادة4 الطفل الجانح بأنه كل طفل أتم الثانية عشر ولَم يبلُغ الثامنة عشر من عُمرِه عند ارتكابِه فِعلاً مُخالفاً للقانون”. وقد حددت المادة 69 من القانون التدابير التي يجوز تطبيقها علي الطفل الجانح, وهي (أ)التوبيخ والتحذير. أو (ب)وضعه تحت المراقبة الاجتماعية في بيئته الاجتماعية. أو (ج)الإلزام بأداء خدمة للمجتمع أو الالتحاق بدورات تدريبية مهنية أو ثقافية أو رياضية أو اجتماعية مناسبة. أو (د) إيداع الطفل الجانح دُور التربية. ومدة التدبير الإصلاحي هُنا سُلطة تقديرية للمحكمة, تفرضُها للمُدة التي تراها ضرورية ومُناسبة, مع مُراعاة سِن الطفل. وفي رأيي فهذه التدابير هي التي يجب أن تَسُود وليست التدابير التي نص عليها القانون الجنائي في المادة47. رغم أنه لا يوجد كبير إختلاف بينهما, بخلاف تَضَمُن القانون الجنائي (لعقوبة الجلد) التي لا مكان لها في قانون الطفل, وحسناً فعل المُشَرِع ذلك, لما فيها من إهانة للكرامة الإنسانية ولو كان ذلك علي سبيل التأديب كما جاء في القانون الجنائي.
وبالعودة للتساؤلات التي أثرناها في مُقدمة المقال وبإستقراء نص المادة 5 الفقرة2/ل من قانون الطفل والتي جاء فيها “للطفل الذي يُدَعَي أنه انتهك القانون الجنائي أو يُتَهَم بذلك أو يثبت عليه ذلك, الحق في أن يُعامل بطريقة تتفق مع رفع درجة إحساسه بكرامته وقَدره, وهو برئ إلي أن تثبت إدانته وتَهدِف مُحاكمته إلي تكييفه اجتماعياً ولا يُسأل جنائياً ما لَم يبلُغ الثانية عشر من عمره بل يخضع لأحد تدابير الرعاية وفقاً لأحكام هذا القانون” وبإستصحابنا لتعريف قانون الطفل للطفل الجانح, نستطيع القول بأن الطفل متي ما بَلغ سِن الثانية عشر يصبح مسؤولاً جنائياً عن فِعله المُخالف للقانون, إلا أن عقوبة الجريمة ترتفع عنه لصِغر سِنه وتُطبق عليه التدابير, ولا أحدَ يستريب في أن تطبيق التدابير علي الطِفل الجانح, يستلزم أن يكون ما إرتكبهُ مِن فِعل يُشَكِل جريمة يُعاقب عليها القانون وإلا فلا تدابير تُطبق عليه. وهذا ما يعني ضرورة النظر في أي دَفع قانوني مُثَار مِن قِبَله حتي تُكَيّف الواقعة التكييف القانوني السليم.
خُلاصة القول, إن المسؤولية الجنائية في القانون الجنائي تدور وجوداً وعَدَما عند إجابتنا للسؤال هل بَلَغ الشخص الحُلم؟ فإذا كانت الإجابة بنعم وذلك بشرط إكماله سِن الخامسة عشر, فهو عندها لا يُعَد طفلاً أو صغير حسب القانون الجنائي وبالتالي يُعتبر مسؤولاً جنائياً عند ارتكابه لأي فعل يُعاقب عليه القانون, مع الأخذ في الاعتبار أن الشخص يُعتبر بالغاً متي ما أكمل الثامنة عشرة من عمره ولو لَم تظهر عليه علامات البلوغ. أما في قانون الطفل, فالطفل يُسأل جنائياً ببلوغه الثانية عشرة, إلا أن عقوبة جُرمه ترتفع عنه وتُطبق عليه التدابير, فبما أنه لَم يتجاوز سِن الثامنة عشر فهو يُعتبر طفل في نظر القانون, وذلك غض النظر عن بلوغه الحُلم مِن عَدَمه.
وبالتالي فإن أكثر مايُثير القلق هو تَضارُب الاحكام القضائية الصادرة مِن محكمة إلي اُخري, فقد يُحكَم علي شخص بالغ لَم يتجاوز سِن الثامنة عشر بالإعدام قصاصاً مثلاً, وذلك وفقاً للقانون الجنائي, بينما هنالك شخص اخر في نفس سِنِه ارتكب ذات الفعل قد تَطَاله التدابير, إعمالاً بقانون الطفل, سواء بَلغ الحُلم أم لا!! قد يرجع البعض مَردَ ذلك إلي حداثة قانون الطفل الذي صدر في العام 2010م, ولكن عندما تَنْحي بعض الدوائر بالمحاكم الأعلي ذات المَنحَي المُستَنِد للقانون الجنائي فهذا يستدعي الوقوف عنده, ما يتطلب تدخل القائمين علي أمر التشريع, علي الأقل بإصدار منشورات تحسم هذا الجدل, رغم أن المادة الثالثة من قانون الطفل حسَمَت ذلك كما أسلفت.
ختاماً تبقي هذه مُحاولة, أردت من خلالها تسليط الضوء علي هذا الموضوع المُهم, الذي يَكتَسِب أهمِيَته مِن كَونه مُتعلقاً بحق مِن حقوق الطفل, علي آمل أن يستَدعِي ذلك حراكاً قانونياً, في سبيل النهوض بحقوق الطفل.
اترك تعليقاً