هل على الدولة مسؤوليات تجاة إنتهاكات القانون الدولي الإنساني ؟
جرى وصف الحرب في العصر الحديث بأنها حرب نظامية يقوم بها جيش الدولة وبقيادتها ضد جيش آخر، وذلك بهدف تحقيق أهداف سياسية. وتمثل الدولة في هذه الحرب شعبها الذي هو كيان موحد. فالدولة بناء على هذا الطرح كيان يحتكر الاستخدام المشروع للقوة داخل حدودها. ولا تتمتع الدولة هنا بالقدرات الإدارية التي تمكنها من التحكم بكل أراضيها فحسب، بل تتمتع كذلك بالشرعية والاعتراف بسيادتها من قبل الآخرين. ويعد الجيش كيانا متحدا ومنظما بشكل هرمي، يعمل وفق المبادئ العلمية التي تشمل الجوانب الإستراتيجية والتكتيك. وتتشكل العلاقة بين الأطراف الثلاثة (الدولة والشعب والجيش) على النحو التالي: تقوم العلاقة بين الشعب والدولة لحماية الأفراد، وتؤسس بين الدولة والجيش على ولاء القوات المسلحة للدولة باعتبارها جيشا مهنيا، بينما تعد العلاقة بين الشعب والجيش مبنية على التجانس، حيث يوفر الشعب القوة البشرية للجيش. وهذه العلاقة لها تبعاتها، فللشعب رأي في أعمال الدولة وتصريف شؤونها مقابل الخدمة في الجيش.
تعرض هذا الوصف للحرب في العصر الحديث لكثير من التغيير حينما انتقل العالم إلى مرحلة جديدة بدأت بسقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي عام 1991، وتفكك الكيان الذي قاد معسكرا كاملا حوالى خمسين عاماً في صراعه مع المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تمرد الجمهوريات الاشتراكية الواحدة تلو الأخرى لتنتقل من التجربة الاشتراكية إلى التجربة الرأسمالية واعتماد اقتصاد السوق، أي النقيض الحقيقي للسيطرة المركزية للدولة الاشتراكية، إذ لم تعد الدول، بعد هذا التاريخ، الوحيدة في ساحة الصراع، فقد انضمت إليها، وفي بعض الأحيان حلت محلها، شركات دولية خاصة، عسكرية وأمنية، تقدم خدماتها بناء على عقود تبرمها مع أطراف النزاعات المسلحة، في مجال تطبيق القانون الدولي الإنساني. وهذا القانون، وإن لم يكن معنياً بقانونية أو مشروعية هذه الشركات في حد ذاتها، أو بتعاقد الدول معها لأداء أنشطة معينة، إلا انه معني بتنظيم سلوك هذه الشركات حين تعمل في حالات النزاعات المسلحة. وبعبارة أوضح، إن القانون الدولي الإنساني لا يتصدى لقانونية اللجوء للقوة المسلحة، بل ينظم الكيفية التي تدار بها الأعمال القتالية. وهو كذلك لا يتصدى لمشروعية المجموعات المسلحة المنظمة، بل ينظم الكيفية التي يجب ان تحارب بها. وهكذا، تنذر هذه الشركات بنوع جديد من أنواع الحرب، تتولى فيه زمام الأمور نيابة عن الدول.
فعلى امتداد الخمس عشرة سنة الماضية، أخذت الحكومات تتعاقد على نحو متزايد مع شركات عسكرية أو أمنيه خاصة للقيام بمهام كان من الطبيعي ان تؤديها الأجهزة الأمنية أو العسكرية للدول. كان الجانب الأكبر من هذه العقود يتعلق في البداية بمهام الدعم اللوجستي أو الإداري، ولكن السنوات الأخيرة شهدت نموا لا يستهان به في انخراط الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في أداء مهام أمنية وعسكرية في حالات النزاع المسلح. ويشمل هذا الانخراط حماية الأفراد والمعدات والمنشآت العسكرية، والعمل كأفراد في نقاط التفتيش، وتدريب القوات المسلحة وقوات الأمن وتقديم المشورة لها، وصيانة أنظمة الأسلحة، واستجواب المشتبه فيهم أو السجناء، وجمع المعلومات الاستخبارية، وحتى الاشتراك في العمليات القتالية. وهذه المهام هي من صميم العمليات العسكرية. التي تصيب في كثير من الأحيان أشخاصاً يشملهم القانون الدولي الإنساني بحمايته.
تثير الشركات الدولية الخاصة، العسكرية والأمنية، بحد ذاتها، حشدا من القضايا القانونية والسياسية والعملية التي تشكل في مجموعها إشكاليات وليس إشكالية واحدة، نظراً لندرة الخوض في موضوعها من قبل المتخصصين الدوليين والمحليين وعدم إيجاد حل للإشكاليات المطروحة. أما إشكالية الموضوع فتتمحور حول شقين: يتعلق الشق الأول، بكيفية التوفيق بين أفعال موظفي هذه الشركات ومسؤولية الدولة المعنية من جهة، وبين مقتضيات القانون الدولي الإنساني من جهة ثانية. أما الشق الثاني، فيتمثل في تحديد طبيعة مسؤولية الدولة المعنية من جهة، وإمكانية مقاضاة الدولة المسؤولة امام محكمة العدل الدولية وتحديد الجبر الممكن تقديمه إلى الدولة المتضررة، من جهة أخرى.
اترك تعليقاً