هل الأحكام القضائية عنوان الحقيقة حقاً؟
نصار عبد الله
ثمة عبارة كثيرا ما يتداولها المشتغلون بالقانون، على نحو يخرج بها عن إطارها الصحيح الذى يجب أن تقف عنده ولا تتعداه فيما أتصور، ألا وهى عبارة: «القانون عنوان الحقيقة»!!، التى كثيرا ما يفهمها البعض على أنها تعنى أن أى واقعة صدر بصحتها حكم قضائى نهائى، فإن ما قرره الحكم يمثل الحقيقة الكائنة بالفعل!..
وأبسط ما يمكن أن يُقال عن مثل هذا الفهم أنه فهم مغلوط، لأنه لا يفرق بين الحقيقة الواقعية التى جرت فعلا، والتى يعلمها علم اليقين مَن عايشها، حتى وإن كان- لسبب أو لآخر- قد عجز عن إثبات حدوثها أمام القضاء، وبين الحقيقة القضائية، وهى تلك التى ثبتت للقضاء فى ضوء ما هو مطروح أمامه من أوراق، ومن ثَمَّ يتوجب على سلطات الدولة جميعا، بما فى ذلك السلطة القضائية ذاتها، أن تحترمها ولا تعتدّ بما يخالفها.. وعلى هذا، فإن الإطار الصحيح لعبارة: «الحكم عنوان الحقيقة» ليس هو الحقيقة على إطلاقها، ولكنه فقط الحقيقة القضائية وحدها، أى تلك الحقيقة التى يُعتَدّ بها أمام القضاء!..
صحيح أن الحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية متطابقتان فى معظم الأحيان، بحيث يصبح استخدام العبارة الشهيرة على إطلاقها حينئذ سائغا ودقيقا.. لكنهما كثيرا ما لا تتطابقان لأسباب شتى، ألمحنا فى بداية حديثنا إلى جانب منها، غير أن ما يعنينا هنا، وهو ما دفعنا فى الحقيقة إلى كتابة هذه السطور، هو تزايد عدد المسؤولين الذين سبق أن اتُّهموا بالفساد، وتم إقصاؤهم عن مواقعهم بقرارات تأديبية غير نهائية، ثم لجأوا بعد ذلك إلى المحكمة الإدارية العليا، التى قضت بإعادتهم إلى مواقعهم، فأصبح فى أيديهم حكم يصفونه بأنه: «عنوان الحقيقة»! ويُشهرونه، حتى فى وجوه ضحاياهم ممن يعلمون الحقيقة الواقعية، التى عايشوها فعلا لكنهم عجزوا عن إثباتها فى ساحة القضاء!..
ومن الغريب والمحزن أن بعض نماذج أولئك المسؤولين كثيرا ما يعودون بعد فترة من الكمون إلى ارتكاب نفس النوعية من الفساد الذى سبق أن اتُّهموا به. والمأساة الحقيقية أن السيناريو حينما يتكرر، وكثيرا ما يتكرر!، فليس بوسع أحد أن يشكك فى براءة مسؤول صدر ببراءته حكم نهائى من محكمة عليا، لأن: «الحكم عنوان الحقيقة »!.. حتى لو كانت البراءة مترتبة على بطلان فى الشكل أو الإجراءات وليس على عدم صحة الوقائع المسندة إلى المسؤول.. المسألة هنا أكبر من مسؤول تُراد مساءلته فى واقعة فساد لأنها تتجاوزه إلى مجتمع يُراد ضمان تحقيق العدالة له ككل.. والتمسك بالشكل والإجراءات ضمانة من الضمانات الأساسية لتحقيق هذا الهدف، حتى لو ترتب على ذلك إفلات فاسد بعينه من العقاب فى واقعة معينة لا شك فى أنه قد ارتكبها، لكن السلطة المختصة لم تلتزم بالشكل والإجراءات المطلوبة..
هنا ينشأ تنازع بين مطلبين يبدوان متعارضين، وإن كان تعارضهما ليس مستعصيا على الحل فيما أتصور: أولهما حق المتهم والمجتمع ككل فى الالتزام بالأشكال والإجراءات الضامنة للعدالة، وثانيهما حق المجتمع فى معرفة الحقيقة الواقعية حينما يختلف مضمونها عن الحقيقة القضائية، التى يُعَدّ الحكم القضائى عنوانا لها طبقا للعبارة الشهيرة..
هنا يأتى دور الإعلام كجهاز مكمل لكافة الأجهزة، التى تتمثل وظيفتها فى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، وفى مقدمة ما ينبغى عليه أن يقوم به فى هذا الخصوص هو أن يتعقّب خيوط الحقيقة الواقعية أينما كانت، وأن يوضح للمتلقين أن الحكم ببراءة مسؤول ما- لأسباب إجرائية أو شكلية- لا يعنى بالضرورة أنه برىء واقعيا.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً