العدالة الإجرائية في الفقه الإسلامى
1- مفهوم العدالة وأهميتها وصورها :
يتمثل العدل في وضع الشيء في موضعه وهو ضد الظلم ، والعدل في الحكم هو تحري المساواة والمماثلة بين الخصمين أو هو اعطاء كل ذي حق حقه أو اعطاء كل شخص ما يستحقه ، فجوهر العدالة هو حصول كل إنسان على حقه مما يحقق التوازن بين مصالح أفراد المجتمع ويكفل الاستقرار للمجتمع وتقدمه، فالنظام لا يستقر في أى مجتمع دون عدالة. فمن أهم مقاصد الشريعة الإسلامية – وكذلك القانون الوضعي- تحقيق العدل بين أفراد المجتمع ، مع إقرار النظام فيه فالمقصد الذى تدور حوله عامة أحكام التشريع الاسلامي أو أصوله هو العدل ، وخاصة في التشريع الجنائى أو الاجرائي الاسلامي، ذلك أن أحكام الشريعة أوامر ونواه ولكل أمر أو نهي جزاء ، والعدل لا ينفك عن الجزاء، لذلك درج الفقهاء على القول أن العدل عماد الشريعة، كما أن التوحيد عماد العقيدة، والعدل مركوز في الفطرة الإنسانية ولذلك فالشرائع كلها تقره ولا تقرره أى أنها تنزل على حكمه ولا تنشئه ، وإذا كان للجسد حواس فللعقل مثلها، ومن هذه الحواس حاسة العدالة، ولما كان الاسلام دين الفطرة فمن الطبيعى أن تكون أحكامه أكثر انسجاماً مع فكرة العدل.
وإذا كان اعطاء كل صاحب حق حقه بصورة مطلقة هو العدل وعكس ذلك هو الظلم (الذى هو الجور ومجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه)، فإن اعطاء الأفراد حقوقهم على ضوء الظروف والأحوال والملابسات الخاصة لكل منهم يمثل العدالة ، فالعدل (الذى هو أحد أسماء الله الحسنى)، وهو مقصد الشريعة والقانون والناس كافة، وهو مطلق، هو أمر إن كان الجميع يبحث عنه إلا انه غاية صعبة المنال ، لذلك يحاول الكل تحقيق العدالة – التي تحرص على أن يحصل الانسان على ما يستحقه على ضوء ظروفه وأحواله وظروف وأحوال غيره في المجتمع.
ولاشك أن للعدالة أهميتها، إذ بدونها يشعر الأفراد بالظلم، مما يدفعهم إلى الحقد على غيرهم وعدم احترام النظام والقانون في المجتمع، ويكون ذلك سبباً قوياً لانهيار النظام والأمن في أى دولة. فإذا كان النظام لا غنى عنه لبقاء المجتمع وتقدمه، إلا أن تحقيق هذا النظام في المجتمع لا يمكن أن يتم دون تحقيق العدل. وتنهار الدول، أو يعيش أفرادها أشقياء، إذا لم تحقق العدل بين أفراد المجتمع.
وللعدالة صور كثيرة: ومن أهم صورها العدالة الموضوعية والعدالة الاجرائية، فالقواعد التي تنظم حياة الأشخاص وحقوقهم وواجباتهم ، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الجنائية، هي قواعد ترمي – في الأصل – إلى تحقيق العدالة الموضوعية ، أى العدالة فى حقوق أفراد المجتمع ، بحيث لا يحصل فرد على أكثر أو أقل من حقه. على أنه لا تكفى القواعد الموضوعية التى تقرر للأشخاص حقوقاً متساوية، لقيام العدالة، وإنما يجب أن تكون هناك قواعد إجرائية – تكفل حماية هذه الحقوق إذا تم الاعتداء عليها . ذلك أن الحق دون حماية لا قيمة له. وهذه الحماية تتم من خلال القضاء في الدولة ، حيث توجد القواعد التى تنظم اجراءات التقاضى في الدولة، وهذه القواعد يجب أن تستهدف تحقيق العدل بين الأفراد، فيتم تنظيم الاجراءات المتبعة أمام المحاكم بصورة تضمن أن يحصل كل صاحب حق على حقه، دون خطر ضياع هذا الحق أو انتقاصه. ولا قيمة للقواعد التى ترسي العدالة الموضوعية دون القواعد التى تكفل تحقيق العدالة الاجرائية ، فهذه القواعد الأخيرة هي السياج الذى يحمي حقوق الأفراد ويضمنها.
2- ضرورة أن تكون العدالة ناجزة :
لا يكفى – لضمان حقوق الأفراد – تحقيق العدالة ، بأن يحصل كل صاحب على حقه ، وإنما يجب أن تكون هذه العدالة عدالة ناجزة ، أي أن يحصل صاحب الحق على حقه بسرعة، أو في وقت مناسب أو ملائم أى دون تأخير. فينبغى العمل على سرعة تحقيق العدالة حتى تستقر الحقوق لأصحابها ولردع المعتدين وحتى يسود الأمن فى المجتمع. أى يجب سرعة دفع الاعتداءات على الحقوق حتى لا يلجأ الأفراد للقصاص الخاص وحتى يكون في أحكام القضاء إشباع كامل وسريع لرغبات وحريات الأفراد.
فالعدالة البطيئة (وهى شائعة الآن فى مختلف الدول) وإن كانت تؤدي في النهاية إلى حصول صاحب الحق على حقه ودفع الاعتداء، إلا أنها معيبة لأنها لا تحقق الاشباع الكامل لحقوق المتقاضين، حيث إن صاحب الحق يرمى، من الالتجاء إلى القضاء، إلى رد الاعتداء على حقه والحصول على هذا الحق دون انتقاص وبطريقة سهلة ميسرة ودون أعباء مالية أو عوائق اجرائية . وإذا لم يتحقق له ذلك فإنه يعاني في سبيل الحصول على حقه ، الذى إن حصل عليه فى النهاية فإن ذلك يكون بعد فترة طويلة (تزيد أحياناً على عشر سنوات) منقوصاً (لتآكل قيمة الحق مع الزمن) وبشق الأنفس ، بل أن حقه يتهدده الضياع بسبب طول الاجراءات وتعقدها وتعسف الخصم وسلبية القضاة ، وهو ما يشعره فى النهاية بالظلم ، لذلك قيل بحق أن العدالة البطيئة نوع من الظلم .
لذلك ، وحرصاً على حصول كل صاحب حق على حقه ، يجب أن تكون اجراءات التقاضى ميسرة وغير مكلفة ، وبسيطة، بحيث يحصل صاحب الحق على ما يستحقه فى وقت قصير (يجب إلا يزيد على سنة ، كما يحدث فى أغلب دول العالم) وسبب بطء التقاضى هو العيوب التى تعترى اجراءات التقاضى ، أو تعيب العدالة الاجرائية، فليس العيب فى قواعد العدالة الموضوعية، وإنما السبب الرئيسى فى تأخر حصول صاحب الحق على حقه هو طول اجراءات التقاضى وتعقدها ، لذلك من الضرورة أن تكون هذه الاجراءات بسيطة وسريعة حتى تساهم الاجراءات فى حصول صاحب الحق على حقه فى وقت مناسب ، فالإجراءات ما هى إلا وسيلة لحماية الحق ولا ينبغى أن تكون بأى حال سبباً فى ضياع هذا الحق أو انتقاص قيمته.
وحتى يحصل صاحب الحق على حقه ، فى وقت مناسب ، يجب أن تكون العدالة عدالة ناجزة أى سريعة وبسيطة وهو ما تكفله القواعد التى تنظم اجراءات التقاضى أى قواعد العدالة الاجرائية . وحتى تتحقق العدالة الاجرائية على هذا النحو، يجب احترام المبادئ الاجرائية الأساسية التى تحكم اجراءات التقاضى ، كما ينبغى تبسيط الاجراءات المتبعة أمام القضاء ، بالإضافة إلى استحداث نظم تساهم فى سرعة تحقيق العدالة . ونعرض لهذه الأمور الثلاثة فى الواقع الذى تعيشه أغلب الدول الاسلامية ثم فى الفقه الإسلامي .
3- المبادئ التى تساهم فى تحقيق العدالة الإجرائية :
تحكم الاجراءات أمام القضاء مبادئ هامة تضمن تحقيق العدالة فى التقاضى، وهى مبادئ أساسية تلتزم بها الدول فى قوانينها ويلتزم القضاة باحترامها حتى دون النص عليها ، إذ أنها مبادئ قرينة العدالة ، أى انها مبادئ ضرورية لتحقيق العدالة الاجرائية سواء أمام القضاء أو التحكيم أو غيرهما من طرق فض المنازعات ، ولا يستقيم القضاء – أو التحكيم – بدونها . وأهم هذه المبادئ مبدأ المواجهة ، ومبدأ المساواة ومبدأ العلانية ، ومبدأ احترام حق الدفاع ومبدأ التقاضى على درجتين .
ومبدأ المواجهة يعنى أن تتخذ جميع الاجراءات فى مواجهة الخصوم (أطراف الدعوى) بحيث يعلمون بها عن طريق اجرائها فى حضورهم – كإبداء الطلبات وإجراء التحقيق – أو عن طريق اعلانهم بها أو تمكينهم من الاطلاع عليها ومناقشاتها. ويجب احتراما لهذا المبدأ تمكين الخصم من الحضور – بإعلانه – لإبداء دفاعه وسماع وجهة نظره ، فالعدالة تقضى بعدم جواز الحكم على انسان من غير سماع اقواله ،وهو ما يستلزم أن القاضي لا يمكن أن يحكم دون سماع جميع الاطراف، فبغير سماعهم لا يمكنه معرفة الحقيقة ، كما أن من حق كل خصم أن يبلغ بالأوراق التى يقدمها الخصم الاخر للمحكمة ويبدى ملاحظاته عليها، وهو ما يقتضى ايضاً أن ادلة اثبات الحق يتولاها الخصوم ، فليس للقاضى أن يقضى بعلمه. ومبدأ المواجهة هو حجر الزاوية فى الاجراءات وهو الضمانة الاساسية لكل عنصر يمكن أن يوصف بالعدل ، فإذا غابت المواجهة غابت العدالة ( ) .
ومن المبادئ الاجرائية الهامة والتى تقتضيها العدالة الاجرائية مبدأ المساواة أمام القضاء ، إذ به تتحقق ثقة الناس فى القضاء ويصبح موضع طمأنينتهم ، بل أن المساواة هى اول لبنة يقوم عليها أي صرح قضائي عادل ، ذلك انها تتفق وما فطر عليه الانسان. وحتى تتحقق المساواة يلزم : أن يكون لكل مواطن الحق فى الالتجاء إلى القضاء ، كما يلزم عدم التمييز بين المتقاضين واحترام حق كل مواطن فى الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى ( ). فعلى القاضي أن يساوي بين الخصمين فى جميع الحقوق والإجراءات التى يتخذها، وان يستمع اليهم جميعاً ويعطيهم كل الفرص الممكنة لعرض وجهة نظرهم وتقديم أدلتهم ومناقشتها معهم ، وألا يفرق فى معاملة كل منهم ، سواء فى جلسات المحكمة أو فى فحصه للأوراق والمستندات وأدلة كل خصم أو فى اصداره لحكمه ، وان يحرص على أن يعطى صاحب الحق حقه .
كذلك من المبادئ الإجرائية الأساسية التى تقترن بالعدالة الاجرائية مبدأ العلانية ، وهو يعنى أن القضاء يجب أن ينظر الدعاوى فى جلسات علنية يسمح فيها بالحضور لكل شخص ، وان يتم تحقيق الدعوى والمرافعة فيها فى جلسات يتاح لعامة الشعب – من يريد – أن يحضرها فى قاعات مفتوحة ، دون أن تغلق فى وجه أحد. وهو ما يقتضى أيضا النطق بالحكم فى جلسة علنية ، وأن يسمح بنشر المناقشات والمرافعات ومنطوق الأحكام فى الصحف وسائر وسائل الاعلام ، كما أن مبدأ العلانية يقتضى أن يسبب القاضى حكمه ، أى أن يذكر أدلته القانونية والواقعية. وهذه العلانية تكفل حسن آداء القاضى لعمله وتؤكد نزاهته ، كما تثبت فى نفوس المتقاضى الثقة والطمأنينة فى عمل القاضى وتكفل للرأى العام مراقبة عمل القاضى.
أيضاً من أهم المبادئ والحقوق الاجرائية مبدأ احترام حق الدفاع، فعلى القاضى أن يُمَّكن كل خصم من تقديم دفاعه بالصورة التى يراها ، شفاهة (بالمرافعة) أو كتابة (بتقديم مذكرات ومستندات) أو من خلال الاستعانة بمحام ، يساعده فى عرض وجهة نظره ، يكون افصح لساناً من الخصم وأقدر منه على عرض حقه وأدلته ومناقشة الخصم الآخر ، كما يلزم السماح للخصم بتقديم كافة الدفوع التى يرى تقديمها وكذلك أوجه الدفاع المختلفة والرد على ادعاءات خصمه ، وان يناقش القاضى هذه الدفوع وأوجه الدفاع ، فإما أن يستجيب لها أو يرفضها بعد الرد عليها .
ويجب ضمان حق الدفاع للخصوم طوال مراحل المحاكمة أو الخصومة . وعلى المحكمة أن تتيح للخصم الآخر العلم بما قدمه خصمه من أوراق أو مذكرات والاطلاع والرد عليها . سواء قدمت فى حضوره ، هنا يطلع عليها ولا يعلن بها ، أو فى غيابه ، وهنا يجب اعلانه بها . والدفاع ليس واجباً على الخصم بل هو حق له ، ويجب على المحكمة أن تمكنه من ايداع دفاعه ، أما ابداؤه بفاعلية فهو أمر يتوقف عليه ، فللخصم أن يباشر دفاعه أو لا يباشره حسبما يرى ، ولا يلتزم القاضي بأن يلفت نظره إلى حقه فى هذا الدفاع أو إلى مقتضياته ، وإذا لم يقدم الخصم الدليل على دفاعه فإن للقاضى أن يغفل الرد على هذا الدفاع . ويشترط إلا ينحرف الخصم فى استعماله لهذا الحق فى الدفاع أو يتجاوز بنسبة أمور شائنة لخصمه ماسة باعتباره وكرامته وألا كان مسئولاً عما ينشأ عن خطئه هذا من ضرر.
وخامس المبادئ ، التى تكفل تحقيق العدالة الاجرائية ، مبدأ التقاضي على درجتين، ويعنى أن الدعوى (النزاع) تنظر مرتين ، الأول أمام محكمة الدرجة الأولى وتنظر ثانية أمام محاكم الاستئناف أو محاكم الدرجة الثانية ، ويقصد به اتاحة الفرصة للخصم (لصاحب الحق) الذى حكم لغيره صالحه بعرض النزاع أمام محكمة أعلى درجة لتفصل فيه من جديد ، دفعاً للظلم الذى يراه واقعاً عليه وتحقيقاً للعدالة فلا يجوز تحصين أى حكم أو قرار ضد الطعن . فهذا المبدأ يكفل حسن سير العدالة، إذ يحث قضاة محكمة الدرجة الأولى على العناية بأحكامهم والتأنى فى اصدارها خشية إلغائها أو تعديلها من محاكم الدرجة الثانية ، وهى تُشكل عادة من قضاة أكثر عدداً من قضاة أول درجة ، وأكثر خبرة ودراية . كما يسمح هذا المبدأ للخصوم بتصحيح ما قد يقع فيه القاضى من اخطاء وتدارك ما فاتهم من أوجه دفاع أمام محكمة الدرجة الأولى باعتبار أن الحكم عمل بشرى قد يرد فيه خطأ أو نسيان ، فضلا عن انه يشبع غريزة العدالة فى نفس المحكوم عليه بإتاحة الفرصة امامه بعرض النزاع من جديد أمام محكمة أعلى درجة قضائها أكثر عدداً وخبرة.
هذه هى المبادئ الاجرائية التى تضمن تحقيق العدالة الاجرائية ، ويلتزم بها القضاء فى عمله . ونعرض الآن لهذه المبادئ فى الفقه الإسلامي .
4- المبادئ الاجرائية فى ضوء الفقه الإسلامي :
تحكم المبادئ الاجرائية – التى تساهم فى تحقيق العدالة الاجرائية – عمل القضاة . وقد كان القضاء فى صدر الاسلام يتولاه الحاكم أو الخليفة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قاض فى الاسلام ، فكان يفصل بين المسلمين فى جميع نوازلهم ويقيم الحدود على المذنبين بمقتضى القرآن الكريم والوحى والاجتهاد والإلهام الربانى ، قال تعالى (فاحكم بينهم بما انزل الله) . وكثيراً ما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستأنس برأى الصحابة ، فقد كانوا اشبه بالمستشارين فى العصر الحديث. وكان نظام القضاء فى عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأخذ الشكل المعروف الآن ، إذ كانت سماته تتجلى فى أن يُسأل فى أمر من أمور الناس فيجيب على المسألة وفقا لما يوحى به إليه . وكان طريق القضاء سهلا وبسيطاً يتناسب والبداءة التى كانت سمة ذلك العصر ، فلا كتبة ولا محضرون ولا اعلانات ولا مذكرات ولا دفوع ولا معارضات ولا استئنافات ، بل كان الخصوم يرتضون حكم الرسول ويتخذونه طوعاً ، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الميل إلى اصلاح ذات البين ، فقد كان يقول “ردوا الخصوم كى يصطلحوا” ( ) .
وتولى القضاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون وكان نظام القضاء عندهم متمثلاً فى الأخذ من كتاب الله وسنة رسوله، سائرين فى ذلك على نفس المئوال ومهتدين بهدى الرسول الكريم. ولما اتسعت رقعة الدولة الاسلامية وتعددت امورها السياسية والدولية اعطى ولاه الامصار حق استقضاء القضاء وتوليتهم دون الخليفة . وسار القضاة فى عهد بنى امية على طريق الخلفاء الراشدين من استنباط الاحكام من الكتاب والسنة والإجماع ، وكان القضاة يجتهدون برأيهم . وفى العصر العباسي اتسعت الحضارة الاسلامية وانتشر الاسلام شرقاً وغرباً وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها فى الامصار، واقتضى العمران وتشعب المعاملات لدى الامم التى دخلت فى الاسلام اتساع دائرة القضاء. وسار القضاة فى الامصار على نهج السابقين، من الاحتكام للقرآن والسنة والإجماع ثم الاجتهاد( ) .
وقد حرص الحكام والولاة على اختيار أصلح الناس لتولى القضاء ، باعتبار أن القضاء امانة يجب أن يتولاها الاكفاء والأصلح دون توريث ( ) . ويجب أن تتوافر فى القاضى شروط انعقاد الولاية ، ولعل أهمها العدالة – فلا تصح ولاية الظالم وإن عين غير العدل وجب عزله ، اما ولاية الفاسق ففيها خلاف . كذلك يجب توافر العلم فى القاضى ، فلا تصلح ولاية الجاهل – وإن كان القاضى مجتهداً فإنه يقضى بالراجح عنده وإن كان مقلدا جاز له أن يحكم بالمشهور من مذهبه وإن لم يكن راجحاً عنده . اما اتباع الهوى فى الحكم فحرام ، ولا يشترط أن يبلغ القاضى مرحلة الاجتهاد( ) . ولقد عظم الاسلام منصب القضاء ، ففى الحديث الصحيح سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه اولهم الامام العادل ، وقال صلى الله عليه وسلم هل تدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة – قالوا الله ورسوله اعلم قال الذين إذا اعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وإذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لأنفسهم. ولكن فى نفس الوقت حذر الاسلام من تولى القضاء ، فقد قال صلى الله عليه وسلم من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين ، فهذا الحديث الشريف فيه تحذير من القضاء من الظلم ويعتبر فى نفس الوقت دليلا على شرف القضاء وعظيم منزلته وان المتولى له مجاهد لنفسه وهواه وهو دليل على فضيلة من قضى بالحق ، وقد كان على بن ابى طالب ومعاذ بن جبل قاضيان ، فالتحذير عن الظلم لا عن القضاء ، فالجور فى الأحكام وإتباع الهوى فيه من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر . وحديث القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة فيقصد بالقاضيان اللذين فى النار الجائر العالم والجاهل اما المجتهد فله اجران . وقال عبد الله بن مسعود لأن اقضى يوما احب إلى من عبادة سبعين عاما.
وقد حرص القضاة ، طوال العصور الاسلامية، على تحقيق العدل بين الناس، بقمع الظالم ونصر المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. استجابة لقوله تعالى ” أن الله يأمركم أن تؤادوا الأمانات إلى اهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” وقوله ” أن الله يأمر بالعدل والإحسان” وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أن الله مع القاضى ما لم يجر ، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان) وقوله عليه الصلاة والسلام ( من حكم بين اثنين تحاكما إليه وارتضياه فلم يقض بينهما بالحق فعليه لعنة الله) وقوله (عدل ساعة فى حكومة- أي في حكم- خير من عبادة ستين سنة) وقال كذلك (أن اعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من أمر أمة محمد شيئاً ثم لم يعدل بينهم).
وحتى يحصل صاحب الحق على حقه ، ويتحقق العدل ، يجب على القاضى، وهو ينظر فى الخصومات ، أن يتمسك بمبادئ العدالة الاجرائية – المساواة والمواجهة وحق الدفاع والعلانية والتقاضى على درجتين – ولقد اكد الفقه الإسلامي على ذلك سواء فقه أهل السنة (المالكية ، الحنفية ، الشافعية ، الحنابلة) أو فقه الشيعة (الامامية والزيدية والاباضية) ، وحرص القضاة، منذ فجر الاسلام على هذه المبادئ الأساسية فى التقاضى التى نعرض لها الآن .
5- مبدأ المساواة فى الفقه الإسلامي :
القضاء – الذى هو اخبار عن حكم شرعى على سبيل الإلزام – حرص على احترام مبدأ المساواة ، ففى رسالة القضاء لعمر بن الخطاب إلى قاضيه ابى موسى الاشعرى (وآسو بين الناس فى مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا ييأس الضيف من عدلك ولا يطمع الشريف فى ضعفك) . فعلى القاضى إذا حضر الخصمان بين يديه أن يسوى بينهما فى النظر اليهما والتكلم معهما ، ما لم يتعد احدهما فلا بأس أن يسوء نظره إليه تأديباً له ويرفع صوته عليه لما صدر منه من اللدد ، وليقعد الخصمان بين يديه ضعيفين كانا أو قويين أو ضعيف مع قوى ولا يقرب احدهما إليه ولا يقبل عليه دون خصمه ولا يميل إلى احدهما بالسلام فيخصه به ولا بالترحيب ولا يرفع مجلسه ولا يسأل احدهما عن حاله ولا عن خبره ولا عن شيء من اموره ولا يسارر احدهما فى السر ، فيجب على القاضي أن يسوى دائما بين الخصمين ولو كان احدهما ذمياً.
من ذلك نجد حرص الفقه الاسلامى على وجوب مراعاة القاضى لمبدأ المساواة بين الخصمين : فى الجلوس والإقبال والإشارة والنظر ، لا فرق فى ذلك بين الكبير والصغير والخليفة والرعية والدنئ والشريف والأب والأبن والمسلم والذمى والكافر . ويمتنع على القاضى مسارة أحد الخصمين والقيام له والضحك فى وجهه وضيافته إلا إذا كان معه خصمه، ولا يكلم احدهما بلغة لا يفهمها الآخر، ولا يخلو القاضى بأحد الخصمين فى منزله، ولا يضيف أحد الخصمين إلا أن يكون خصمه الآخر معه ، وبالجملة لا يفعل مع احدهما فعلا يتهم به ويكسر قلب الآخر حتى لا يقوى على القيام بججه . وعلى القاضى أن يسمع الخصمين معا ، وأن يأمر كاتبه أن يكتب كلام الخصمين كما سمعه ولا يزيد عليه أو ينقص لئلا يوجب حقاً لم يجب أو يسقط حقا واجباً ، وعليه سماع شهود الخصمين مع احترام الشهود لقوله صلى الله عليه وسلم (اكرموا الشهود فإن الله يحمى بهم الحقوق) ( ) .
فالشريعة الاسلامية لا تفرق بين الناس أمام القضاء بحسب الأصل أو الحسب أو المكانة أو العقيدة ، فهى تطبق على جميع المتقاضين نفس الاجراءات وتحيطهم بذات الضمانات. فلا يجوز التمييز بين المتقاضين لأى سبب أو بأى طريقة، ومتى خص القاضى أحد المتخاصمين – بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس أو الاقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه ، كان ذلك عنوان حيفه وظلمه، وفى تخصيص احد الخصمين لمجلس أو اقبال أو اكرام مفسدتان: احداهما فى أن يكون الحكم له فيقوى قلبه وجناته ، والثانية أن الخصم الآخر ييأس من عدله ويضعف قبله وتكسر حجته ، كما قال ابن القيم.
6- مبدأ المواجهة فى الفقه الاسلامى :
أما عن مبدأ المواجهة -(ضرورة علم الخصم بما قدم ضده وتمكينه من الحضور والرد على ادعاءات خصمه) فإن الفقه الاسلامى حرص على ذلك بتأكيد أن القاضى لا ينبغى له أن يجيب أحد الخصوم فى غيبة الآخر، وهو ما يعنى أن القاضى يجب أن يعلم الخصم بما قدم ضده وان يسمع الخصمين معاً وإذا غاب أحد الخصمين فيجب اعذاره وإنذاره بالحضور للدفاع عن نفسه . وفى معين الحكام “وينبغى للقاضى أن لا يحكم على احد حتى يتعذر إليه برجل أو رجلين . ويحكم القاضى بعد أن يسأل ابقيت له حجة – والمتبادر للذهن انه يوجه ذلك إلى المدعى عليه فإن قال بقيت لى حجة انظره القاضى”.
فلا يجوز للقاضى أن يسمع بينة أحد الخصمين دون الآخر ، مما يستلزم أن يكون المدعى عليه حاضراً حتى يمكن اقامة الحجة عليه وإتاحة الفرصة له ليرد دعوى المدعى ، فإن قضى عليه دون حضوره فإن ذلك يعتبر – بحسب الأصل – مصادرة على المطلوب وحكما فى الواقعة دون سماع أقوال كل من طرفيها وهو ما لا يجوز. وروى عن عمرو بن عثمان بن عقال قال “اتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه فقال له عمر تحضر خصمك ، فقال له : يا أمير المؤمنين اما بك من الغضب إلا ما أرى ؟ فقال له عمر ، لعلك قد فقأت عينى خصمك معاً ، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا فقال : إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء” حيث دل هذا الأثر على أن عمر ابن الخطاب قد اشترط حضور الخصم حتى يقضى عليه ولا يعلم له فى ذلك مخالف من الصحابة فيكون اجماعاً ( ) . كما لا يجوز القضاء على الغائب إلا عند الضرورة كما إذا توجه القضاء على الخصم فاستتر.
وحينما ولى الرسول صلى الله عليه وسلم على بن ابى طالب على اليمن قال له : يا على أن الناس سيتقاضون اليك ، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضين لإحدهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه احرى أن يتبين لك القضاء وتعلم الحق”) . فالحق لا يتبين للقاضى ، ولا يمكن لحكمه أن يكون عادلاً إلا بعد أن يسمع كلا الخصمين ، وهو ما يكفله مبدأ المواجهة، الذى يساهم فى تحقيق العدالة الاجرائية.
وفى القرآن الكريم ، يقول تعالى فى سورة ص (الآيات 21 – 24) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ”. فهذه الآيات تخبر عن خصومة عرضت وقائعها أمام نبى الله داود عليه السلام ادعى احد طرفيها انه قد ظلم من الطرف الآخر ، وقدم حججه مقرونة بأن خصمه قد عزه فى الخطاب ، أى كان اقوى منه ابانة فى تحقيق مراده على حساب الحق الواضح للمدعى .
وفى هذه القصة القرآنية مارس المدعى حق الدفاع عن نفسه ، فبين مدى ما لحقه من ظلم فعله به خصمه ، حيث انه لا يملك إلا نعجة واحدة ، كما قال جمهور المفسرين ، وخصمه تسعاً وتسعين ، ومع ذلك طمع فى نعجة المدعى ، وطلب منه أن يتنازل عنها له ، وبعد أن قدم حجته وعرض قضيته ودافع عن حقه ، قرر نبى الله داود عليه السلام انه أن كان الأمر كما يقول المدعى يكون المدعى عليه ظالما ، حيث حكم بعد سماع حجة المظلوم ودفاعه دون أن يسمع رد الآخر وكان سبباً للوقوع فى ذنب استغفر ربه وخر راكعاً وإناب. على أن مجمل القضية يدل على أن الحكم القضائى قد جاء بعد دفاع وإبانة ، وهو ما يجب أن يكون ، فإن القضية وإن كانت منقولة عن شرع من قبلنا ، إلا انه من المقرر شرعا أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يوجد دليل ناسخ ، وليس فى شرعنا ما ينسخ هذا الحكم بل العمل عندنا على وفقه.
7- مبدأ احترام حق الدفاع فى الفقه الاسلامى :
ومن أهم المبادئ الاجرائية – قرينة العدالة – فى الفقه الاسلامى مبدأ احترام حق الدفاع : ففى رسالة القضاء لعمر بن الخطاب إلى ابى موسى الأشعرى (أجعل للمدعى حقاً غائباً أو بينة اجلاً ينتهى إليه فإن احضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك اجلى للعمى وأبلغ فى العذر…) ، فالقاضى يجب أن يترك للخصوم الدفاع عن أنفسهم وتقديم حججهم وأدلتهم على الحق – وقال ابن الحاجب ومالك : أن القاضى يحكم بعد أن يقول المحكوم ابقيت لك حجة فيقول لا ، فإن قال نعم انظره ما لم يتبين له لدده ، ولا يقبل منه حجة بعد انفاذ القضاء.
فحق الدفاع فى الاسلام هو من المسلمات ، فللمتهم أن يدافع عن نفسه ، ولكل من المدعى والمدعى عليه أن يقدم دفاعه ، بينته ، مع تفنيد حجج خصمه ويجب على القاضى أن يساوى بين الخصوم فى حق الدفاع ، فلا يعطى احدهما حقه فى الدفاع عن دعواه ويحرم الآخر من هذا الحق ، فذلك لو حدث سيكون نوعاً من الارهاب والتسلط والإذعان القائم على القهر والظلمة والإذلال من طرف لآخر وهذا لا يستقيم مع شرع الله ولا مع مبادئ العدالة.
ومن مظاهر حرية الدفاع فى الاسلام الامهال والتأجيل لكل من المدعى والمدعى عليه ، فينبغى على القاضى أن يوسع على الخصوم ويمهلهم ولا يتعجل بالحكم ويعطيهم الوقت الكافى الذى يستطيعون فيه تحضير حججهم وتهيئة دفوعهم وإكمالها وحتى يتمكنوا من بسط ادعاءاتهم وتدعيمها بالأدلة الكافية والحجج والقوية. ومن هذه المظاهر ايضا حق المشهود عليه فى عرض شهادة الشهود عليه ليقوم بدفعها عنه مما لا يرضى بها ، كذلك يجب أن يُمَّكن الخصم من الاطلاع على الأوراق والمستندات والوثائق التى يقدمها خصمه وان يأخذ منها نسخاً ليتمكن من الدفاع عن نفسه وخصومه ، وفقهاء الاسلام اقروا بحق الخصم فى الدفع اكثر من مرة وجوزوا دفع الدفع إلى أن تنتهى القضية.
ولا يقتصر واجب القاضى فى الشريعة الاسلامية على الحفاظ على حقوق الخصوم فى الدفاع والمساواة بينهما فى ذلك ، وإنما القاضى يساعد الخصم فى اظهار حججه وأدلته ، فلا بأس أن يلقن أحد الخصوم حجة عمى عنها (وإنما كره له أن يلقنه حجة الفجور) وصورة ذلك أن يقول لخصمه يلزمك على قولك كذا وكذا فيفهم خصمه حجته ولا يقول لمن له منفعة قل له كذا ، فلا بأس أن يلقن القاضى الخصم حجة لا يعرضها (كما قال ابن عبد الحكم) ، فينبغى للقاضى (كما قال ابن الماجشون) تنبيه كل خصم على تفنيد ما ينتفع به من قول خصمه انه غفل ولا ينبه بعضاً دون بعض.
وحق الدفاع، الذى هو مجموعة من الاجراءات أو التصرفات التى تستهدف تبصير العدالة والانتصار للحق والتماس الأسباب التى تؤدى إلى رفع الظلم أو منع وقوعه ( ) هو حق لكل خصم ، يباشره بنفسه ، ويمكن أن يوكل شخصاً آخر- أكثر قدرة وخبرة ودراية بمباشرته عنه ، يسمى الوكيل بالخصومة ، وهو فى الغالب محام. وأصبح الاستعانة بمحام ليتولى حق الدفاع ضرورة الآن ، حيث يتولى عرض مظالم المتظلمين وحججهم أمام القضاء ، لأن الشخص العادى قد يعجز عن ابداء الحجج التى يستند إليها فى سبيل الوصول إلى حقه أو قد يعجز عن معرفة قوة دلالتها فيحتاج إلى خبير للقيام بذلك ، لأن الأحكام التى يصدرها القضاة تقوم على الحجج التى تقدم لهم. فاستخدام الكلام هو ارقى وسيلة للدفاع عن الناس ، والمحاماة كانت مهمة الرسل عليهم السلام لخير الناس ، فى عاجل حياتهم وفى آجلها ، فالدين النصيحة لله وللرسول ولائمة المسلمين وعامتهم ، ولذلك كرر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره “بإبلاغ حاجة من لا يستطيع ابلاغها ، فإن من ابلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع ابلاغها ثبت الله قدميه يوم تزل الاقدام ” “وإلا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذا علمه ” “وان الناس إذا رأوا الظالم ولم يضربوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعذاب” “وخير الجهاد كلمة حق تقال فى وجه سلطان جائر” “وانصر أخاك ظالما أو مظلوماً”.
فعن طريق المحاماة يتم مباشرة حق الدفاع، وقد حث الاسلام على ممارسة هذا الحق، أو الواجب، ويقوم واجب الدفاع فى الشريعة الاسلامية على التكافل الاجتماعى والتعاون على اقامة العدل والقضاء على الظلم استنادا إلى قوله تعالى (وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) “المائدة 20″ . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من مشى مع المظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الاقدام”. لذلك استقر غالبية المجتهدين المحدثين على أن الاشتغال بالمحاماة إذا كان فيه احقاقاً للحق وإبطالاً للباطل شرعاً ورد الحقوق إلى أصحابها ونصرة المظلوم فإنه مشروع لما فيه من التعاون على البر والتقوى ، مع الالتزام بالضوابط الشرعية ، فيجب أولا على الموكل أن يصدق محاميه وعلى المحامى تحرى الدقة فى وكالته فلا يتوكل فيما يعلم انه باطل ، وعلى المحامى دائما أن يعاون القاضى للوصول إلى الحقيقة ، وله أن يقر على موكله ، وإذا قدم الموكل إلى محاميه وثائق أو معلومات جديدة وجب على المحامى أن يبرزها مباشرة ولو كانت تضر قضية موكله.
8- مبدأ العلانية فى الفقه الإسلامى :
أما رابع المبادئ الاجرائية التى تضمن تحقيق العدالة فهو مبدأ العلانية . فنظراً لأن القضاء كان يتولاه الحاكم – خاصة فى عهد الرسول والصحابة – فإن العلانية كانت تتحقق دائما ، ففى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفى عهد الخلفاء من بعده كان القضاء علنياً- حيث كان يحضره عامة الناس ولا يقتصر الحضور على الخصوم فقط ، كما كان يحضر مجلس القضاء الفقهاء والمجتهدون. وقال البعض انه لا يقضى القاضى إلا بحضرة أهل العلم ومشورتهم لأن الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم “شاورهم فى الأمر” إلا أن يخاف القاضى المضرة من جلوس أهل العلم ويشتغل قلبه بهم والحذر منهم ، وقال غيرهم انه لا ينبغى للقاضى أن يكون معه فى مجلسه من يشغله عن النظر كانوا أهل فقه أو غيرهم فإن ذلك يدخل عليه الحصر والاهتمام بمن معه.
وكانت جلسات القضاء – المحاكمة – تنعقد فى منزل الحاكم (أو القاضى) أو فى المسجد . وكان يجلس فى المسجد مستقبلا القبلة ، وبذلك يكون مجلسه اقرب على الناس فى شهودهم ويصل إليه الضعيف والمرأة فمجلس القضاء يكون حيث الجماعة ، جماعة الناس ، وفى المسجد الجامع إلا أن يعلم ضرر ذلك بالنصارى وأهل الملل والحيض فيجلس فى رحبة المجلس ، وان كان البعض يرى أن القاضى لا يقضى فى المسجد لان فيه تضييق على الناس فمنهم الحائض والجنب وأهل الذمة، وفيه امتهان للمسجد بكثرة اللغط واللجاج وما يقع من الخصوم ، كما أن بعض العوام يدخل المسجد ورجل فيها بلل وربما كانت غير طاهرة ، لذلك يرى البعض أن يعقد القضاء فى بيت القاضى، أو داره شريطة فتح ابوابها وجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة من غير منع ولا حجاب ، كما ينبغى أن تكون دار القاضى وسط البلد فى موضع لا يشق على الناس القصد إليها ، كما ينبغى أن يتخذ القاضى لجلوسه للقضاة وقتاً معلوماً لا يضر الناس فى معايشهم ، ولا ينبغى أن يحكم فى الطريق إلا فى أمر استغيث فيه ، ويجب أن يجعل للرجال مجلساً والنساء مجلساً ، فإذا اجتمعت الرجال والنساء فى مجلس واحد لخصومة عرضت لهم افرد لهم مجلساً وينبغى للقاضى أن يمنع رفع الصوت عنده فإن ذلك مما يبرمه ويضجره ويحيره.
بذلك نجد أن مبدأ العلانية – نظر الدعاوى فى حضور عامة الناس دون قصر الحضور على الخصوم – هو أمر مستقر فى الفقه الاسلامى منذ بداية ظهور الدولة الاسلامية ، وهو ما يدفع القاضى إلى الاهتمام بعمله ويضفى نوعا من الرقابة للشعب على القضاء . على أن هذا لا يمنع القاضى من نظر بعض الدعاوى بصورة سرية (لا يحضرها سوى الخصوم) إذا وجد مبرراً لذلك ، من حفظ الآداب والأخلاق، خاصة فى دعاوى الأسرة – أو الأحوال الشخصية ، وفى كل الأحوال فإن القاضى يبسط سلطته على الحضور ، ويفرض النظام والهدوء فى مجلس القضاء. ولا تقتصر العلانية على نظر الجلسات وإنما عند إلى اصدار الأحكام ، كما أن من مظاهر العلانية نشر الأحكام والجلسات فى وسائل الاعلام المختلفة . وللقاضى أن ينظم حضور الجمهور للجلسات ، فله منع الدخول إذا امتلاءت القاعة أو ينظم الدخول ببطاقات أو دعوات تعطى لمن يريدها .
9- مبدأ التقاضى على درجتين فى الفقه الاسلامى :
من أهم المبادئ الاجرائية مبدأ التقاضى على درجتين ، الذى يكفل العدالة بإتاحة الفرصة لقضاة آخرين بمراجعة الحكم وتعديله إذا خالف العدالة ويشيع لدى أصحاب الحقوق الطمأنينة على حقوقهم والثقة فى القضاء . فالحكم من عمل البشر وقد يخطئ القاضى وقد يصيب فيجب فتح الباب أمام مراجعته أو نقضه ، تصحيحاً للخطأ وصوناً لحقوق الناس وأعراضهم وحرياتهم . وفى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “إنما انا بشر وأنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقض له على نحو ما اسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق اخيه فلا يأخذ منه فإنما اقطع له قطعة من النار ( ) .
فهذا الحديث يدل على أن الرسول حينما يقضى بين الناس إنما يقضى بصفته البشرية الانسانية العادية دون الصفة النبوية ، مثله فى ذلك مثل أى قاض من البشر ، وان مناط الحكم الدليل والحجة ويحذر المتخاصمين من الادعاء بغير حقوقهم ( ) . ويستفاد من هذا الحديث أن القاضى – وهو بشر (إنما انا بشر) قد يصيب وقد يخطئ ، وان القاضى إنما يقضى بناء على ظاهر الحال أمامه (اقضى على نحو ما اسمع) وبالتالى إذا اخطأ القاضى – وهو أمر وارد – فلا يجب على من قضى له الحق أن يحصل عليه (ارجع الرسول صلى الله عليه وسلم هنا المحكوم له إلى وازعه الدينى وحذره من عذاب يوم القيامة) أى أن قضاء القاضى يقبل المراجعة والرد هنا دفعاً للظلم وحتى يحصل صاحب الحق على حقه .
وقد أرسى عمر بن الخطاب كذلك مبدأ مراجعة الحكم فى رسالته إلى ابى موسى الأشعرى – رسالة القضاء – حيث جاء فيها (ولا يمنعك قضاء قضية فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق) ، فهو بذلك لا يرى مانعاً من أن يراجع القاضى حكمه فيعدل عنه أو يعدل فيه تحقيقا للعدل ودفعاً للظلم الذى وقع فيه، وهو ما يفيد – من باب أولى- أن لغير القاضى مصدر الحكم (قاض اعلى أو عدة قضاة) تعديل حكم القاضى ويلغيه أن وجده ظالماً .
كما أن فكرة رفع الحكم (القضاء) إلى قاض أعلى درجة هى فكرة لها أصولها فى القضاء الاسلامى . فقد روى أن على بن ابى طالب رضى الله عنه لما ولى أمر اليمن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حدث أن حفر الناس حفرة لأسد يقع فيها، فلما وقع الأسد بالحفرة تزاحم الناس حولها لينظروه فوقع واحد منهم فى الحفرة فامسك بثان فوقع ، والثانى بثالث والثالث برابع حتى وقع الأربعة فى الحفرة وقتلهم الأسد. فاحتكم أهل القتلى إلى على رضى الله عنه فقضى للأول بربع الدية وللثانى بالثالث وللثالث بالنصف وللرابع بدية كاملة ، وأوجب هذه الديات على عواقل المزدحمين حول الحفرة . فلم يرتح أهل القتلى لهذا الحكم ، واتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فى موسم الحج وعرضوا عليه الأمر فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء على وقال : هو ما قضى بينكم. فالرسول هنا بمثابة محكمة طعن ، تطرح عليه الاقضية المفصول فيها من القضاة فيؤيد الصحيح منها ويلغى أو يعدل ما شابه خطأ أو بطلان.
وحينما تولى عبد الله ابن مسعود قضاء الدولة من قبل عمر بن الخطاب ، اتى برجل من قريش وجده مع امرأة فى ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك ، فضربه عبد الله بن مسعود أربعين وعرفه للناس أى اذاع أمره بين الناس ، فغضب قوم الرجل من هذا الحكم وذهبوا إلى عمر بن الخطاب قائلين لقد فضح عبد الله رجلاً منا، فسأل عمر عبد الله ابن مسعود فى ذلك فقال اتيت به وقد وجد مع امرأة فى ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك ، فضربته أربعين وعرفته للناس ، فقال عمر : أرأيت ذلك قال عبد الله نعم ، فقال عمر الرأى ما رأيت.
فمبدأ مراجعة الحكم – الذى اصدره القاضى – من غيره (وإن كان الحاكم ، الذى كان يعتبر القاضى الأول) هو أمر معروف منذ بداية القضاء فى الاسلام . كما أنه يجوز مراجعة الحكم ونقضه فى بعض الحالات لدى الفقه الاسلامى، كما إذا صدر من قاض غير مختص أو متهم بالفسق أو الرشوة أو لا يجوز قضاؤه ، ونقض الحكم فى هذه الأحوال واجب. كما يجوز نقض الحكم لمخالفته نص فى الكتاب أو السنة أو الاجماع مثل القضاء بحل متروك التسمية عمدا ومثله الحكم بإدخال لحوم لم تذبح وفق أحكام الشريعة الاسلامية أو أن يقدم الحكم حق وارث على سداد الدين أو أن يحكم القاضى بحل المطلقة ثلاثاً بعقد الزواج الثانى بلا دخول حقيقى لمخالفته حديث العسيلة ، أو الحكم بحل نكاح المتعة أو الحكم بتوريث ذوى الارحام مع وجود اصحاب الفروض أو العصبات. وكذلك يجوز نقض الحكم إذا بنى على سبب يظن القاضى وجوده وهو ليس موجوداً مثل الحكم بناء على شهادة زور لا يعلم القاضى بتزويرها . فهذه امثلة لحالات يجوز نقض الحكم فيها تدل على أن مبدأ نقض الأحكام والتقاضى على درجتين من الأمور المقررة فى التشريع الاسلامى.
من ذلك نجد أن حكم القاضى يجوز فى الفقه الاسلامى أن ينقضه غيره ، ولا يحاج هنا بالقول بأن الاجتهاد لا ينقضه اجتهاد( ) ، خاصة فى مجال القضاء ذلك أن الاجتهاد الظالم – وهو اراد كثيراً – يجب رفعه صونا للحقوق وتحقيقا للعدل وحتى لا نصل لقاض مستبد ، خاصة إذا ذكر القاضى فى حكمه الوجه الذى بنى عليه حكمه فوجد مخالفاً لنص أو اجماع ، أو إذا وقع من الخطأ سهو أو غلط ، فحكم القاضى العادل الجاهل ينقض إذا تبين خطأه ، اما القاضى الجائر فى احكامه إذا كان معروفاً بذلك وكان غير عدل فى حاله وسيرته – عالما كان أو جاهلاً ظهر جوره أو خفى – فإن أحكامه كلها ترد صوابا كانت أو خطأ لانه لا يؤمن حيفه ، عدا حكمه فيه صواب وكذلك باطن أمره فيكون صحيحاً .
10- أهمية تبسيط الاجراءات وسرعتها لتحقيق العدالة (ضرورة التقاضى الالكترونى) :
لا يكفى لتحقيق العدالة حسن تنظيم القضاء ، ووجود قاض عادل يحل خلافات الناس ، ويلتزم الشريعة الاسلامية ، ويحترم المبادئ الاجرائية الأساسية فى عمله ، وإنما يجب أن تكون الاجراءات المتبعة فى نظر القضية بسيطة وسريعة، حتى يحصل صاحب الحق على حقه فى أسرع وقت وبأقل تكلفة ومشقة، حتى لا يشعر بالظلم ، خاصة مع تزايد عدد المحاكم وأنواعها ، وتضخم القوانين – الموضوعية والاجرائية- وتعدد النصوص التى تنظم الحقوق وإجراءات التقاضى ، وذلك مع التزايد فى اعداد القضايا والمنازعات وتعقدها ، خاصة الهامة منها.
وإذا كانت مشكلة بطء الاجراءات وتعقدها لم تكن قائمة فى عصور الاسلام الأولى ، نظراً لقلة عدد القضايا وعدم تعسف الناس فى ادعاءاتهم حيث كان يغلب على علاقاتهم احترام الالتزامات والعهود ومراعاة الجانب الخلقى واحترام احكام الشريعة وحيث كان القاضى يعقد مجلسه فى أى مكان ، فى المسجد أو فى بيته – دون تعقيدات أو عرائض أو مذكرات أو دفوع أو محضرين أو محامين أو اعلانات معقدة ، وكانت القواعد التى يطبقها محددة وواضحة وكان يستشير فيها اهل العلم. لذلك لم تظهر بقوة مشكلة تعقد اجراءات التقاضى وصعوبتها وتكليفها إلا أن الوضع اختلف الآن، خاصة مع تغير طبائع الناس وكلما ضاقت دائرة الاخلاق اتسعت دائرة القانون.
ولما كانت هذه المشكلة تعانى منها مختلف الدول الاسلامية – خاصة كثيرة العدد قليلة الامكانيات – وأصبحت تهدد حقوق المتقاضين وتهدد العدالة وهو ما من شأنه أن يشعرهم بالظلم ويهدد الأمن والاستقرار . لذلك بدأت الدول تتجه إلى ايجاد حلول لمشكلة بطء التقاضى – وتأخر العدالة وصعوبة الحصول عليها . ويهدف سرعة حصول صاحب الحق على حقه دون تكاليف كبيرة . وإذا كانت أسباب بطء التقاضى عديدة ، إلا أن من أهمها تعقد الاجراءات وتعددها .
وبالاستفادة من تجارب مختلف الدول – وبالذات الدول المتقدمة (علمياً) – أصبح من الضرورى الاستعانة بالوسائل الالكترونية الحديثة فى التقاضى ، خاصة بعد أن قامت دولاً عديدة منها عدة دول اسلامية – بإنشاء الحكومة الالكترونية. ذلك أن تبنى أدوات الحكومة الالكترونية يعنى أن القضاء مدعو لفض المنازعات من خلال انزال الحكم على الوقائع فى إطار المتغير الجديد . فاستخدام وسائل الاتصال الحديثة فى التقاضى يساعد على تبسيط الاجراءات المتبعة أمام المحاكم ويؤدى إلى اختصار الوقت الذى تستغرقه القضية للفصل فيها ، كما ييسر عمل القاضى ويساعده على حسن نظر النزاع وسرعة الفصل فيه ، بالإضافة إلى التخفيف على الخصوم فى اعداد القضية ومتابعتها والاطلاع على أوراقها ، بجانب التخفيف عن المحاكم مما يساعد فى النهاية على تحقيق العدالة الناجزة .
فالوسائل الالكترونية – التى أصبحت تتمثل فى الحاسب الآلى المتصل بالانترنت واستخدام شبكات التواصل الاجتماعى (الفيس بوك ، تويتر…) فى اجراءات التقاضى متاح أمام كافة الدول ولم يعد حكراً على الدول المتقدمة . فإذا كانت هذه الدول قد قطعت شوطاً كبيرا فى التقاضى الالكترونى، فإن عدداً من الدول الاسلامية بدأت تخوض هذه التجربة وقطعت شوطاً لا بأس به فى استخدام وسائل الاتصال الحديثة فى التقاضى ، حيث بدأت المملكة العربية السعودية الأخذ بهذا النظام سنة 2000 وقطعت شوطا طويلاً ، ومحكمة جدة تخوض تجربة جدية للعمل بنظام التقاضى الالكترونى باستخدام النظام الشامل بدءاً باستقبال المعاملات والاستدعاءات الكترونيا وانتهاء باستخراج الصك القضائى ، ويتولى المجلس الأعلى للقضاء فى السعودية حالياً تطوير عملية التفتيش القضائى باستخدام الكمبيوتر ، كذلك الوضع فى الامارات العربية المتحدة حيث بدأت عام 2013 حملة تحت شعار المحكمة الذكية تقوم على محاور أربعة – نظام القاضى الذكى، المحامى الذكى ، التسجيل الذكى ، ونظام كاتب العدل ، وفى دبى تم وضع نظام الكترونى للنيابة العامة . وقريب من ذلك الوضع فى المغرب وسوريا ولبنان والكويت.
ولاشك فى أن الأخذ بالوسائل الحديثة للتقاضى الالكترونى هو أمر تقتضيه طبيعة العصر ، وفوائده عديدة وأهمها سرعة تحقيق العدالة مع توفير الشفافية والنزاهة فى العمل القضائى . وهى اعتبارات لها اهميتها فى الاسلام ، وليس فى ذلك أى مخالفة لمبادئ الشريعة الاسلامية ، بل أن هذه المبادئ تدفع إليها ، فالإسلام يرمى دائما إلى التيسير على الناس ، وما خير الرسول صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا وأختار ايسرهما . كما أن التخفيف على الناس وضمان حقوقهم هى أمور يحض عليها الاسلام ، بالإضافة إلى أن مقصد العدل (الذى لا يعنى فقط أن يحصل صاحب الحق على حقه وإنما أن يحصل عليه فى وقت مناسب قصير) هو من أهم مقاصد الشريعة الاسلامية .
11- ضرورة تخصص القضاء واستحداث نظم اجرائية :
إذا كان مبدأ التقاضى على درجتين ، أو مراجعة الحكم يقتضى أن توجد محاكم دعاوى (محاكم درجة أولى) ومحاكم طعون (محاكم درجة ثانية) لضمان تحقيق العدالة ، فإن تعدد الدعاوى وتنوعها ، يقتضى اختلاف المحاكم وتنوعها ، فهناك محاكم مدنية (تنظر كذلك الدعاوى العمالية والدعاوى التجارية ودعاوى الأحوال الشخصية) التى تفصل فى الدعاوى حول الحقوق المدنية والتجارية والعمالية والأسرية. وهناك محاكم جنائية (تفصل فى الجرائم التى ترتكب ضد الأفراد أو ضد الدولة) بالإضافة إلى المحاكم الادارية (وهى محاكم تفصل فى الدعاوى التى تكون الدولة طرفا فيها) .
عل أن الذى يسود القضاء المدنى هو عدم تخصص القاضى ، فالقاضى يمكن أن ينظر – أثناء عمله – دعاوى جنائية ودعاوى مدنية ودعاوى الأسرة ودعاوى عمالية أو اقتصادية – بجانب دعاوى مستعجلة ودعاوى تنفيذ . ولاشك فى أن ذلك من شأنه أن يهدد العدالة حيث انه يصعب على القاضى أن ينظر دعاوى مختلفة الأنواع ، فيشتت جهده بين القوانين المدنية والجنائية والعمالية وقوانين الأحوال الشخصية وغيرها ، وهو ما من شأنه أن يؤدى فى النهاية إلى صدور أحكام ضعيفة أو غير محققة للعدالة ، لأنه مع تعدد القوانين وتعقدها يصعب أن يلم القاضى فى ذات الوقت بها ويطبقها التطبيق الصحيح على دعاوى مختلفة شديدة التنوع ، فهى تتطلب قاضيا موسوعة !
لذلك فإن تخصص القضاء هو ضرورة عصرية ، لحسن سير القضاء ، ولتحقيق العدالة . بأن يتفرغ القاضى المدنى لنظر الدعاوى المدنية طوال عمله فى القضاء ، ويتفرغ القاضى الجنائى للقضايا الجنائية وحدها فقط ، ويتخصص قاضى ثالث فى دعاوى الأحوال الشخصية ، ورابع فى الدعاوى العمالية وخامس فى القضايا الاقتصادية ، وهكذا . وهذا ما أخذت به دول عديدة متقدمة ، ولكن الوضع فى أغلب الدول العربية والإسلامية لا يسير عليه . فمن الضرورى العمل على تخصص القضاء – ولا يكفى أن توجد دوائر متخصصة بالمحكمة ، فهى لا تعتبر محاكم مستقلة ، وإنما يجب تخصص القاضى نفسه فى فرع معين فى فروع القانون طوال عمله ، وبالتالى يكون هناك محاكم متخصصة .
ولا يكفى حتى وجود محاكم متخصصة إن لم يوجد قاض متخصص . فأفراد محاكم للأسرة يعبر عن محاكم متخصصة والحقيقة غير ذلك ، لأن هذه المحاكم وإن كانت لا تنظر إلا دعاوى الأسرة (الأحوال الشخصية) إلا أن القضاة بها غير متخصصين ، فمنهم من كان يعمل قبل ذلك فى الدعاوى المدنية وسيعمل بعد فترة فى الدعاوى الجنائية أو العمالية ، وهكذا . كذلك الحال فى المحاكم التجارية أو الاقتصادية ، هى محاكم مخصصة للدعاوى التجارية والاقتصادية ولكنها ليست متخصصة بمعنى أن القضاة بها لا يتخصصون فى الدعاوى التجارية والاقتصادية وإنما يعملون فى قضايا أخرى . نفس الوضع فى المحاكم العمالية ، ودوائر التنفيذ ، وكذلك الحال فى المحاكم الجنائية .
فالقاضى هو أهم عضو فى المحكمة – بل أن المحكمة هى المكان الذى يجلس فيه القاضى للفصل فى منازعات الناس ، فلا محكمة بلا قاض . وهذا القاضى يجب أن يكون قادرا على الفصل فى الدعاوى وتحقيق العدل . ومهما كان القاضى كفؤا فإنه لا يستطيع أن يفصل فى دعاوى مختلفة متنوعة متباعدة معقدة . أو أن يلم بقوانين عديدة متنوعة . ذلك يجب أن تعمل الدول الاسلامية على تطبيق نظام تخصص القاضى حتى يكون القاضى قادراً على تحقيق العدل بين الناس . ولاشك فى انه لا يوجد فى الفقه الاسلامى ما يحول دون تخصص القضاء.
أ.د. أحمد عوض هندى
أستاذ قانون المرافعات عميد كلية الحقوق – جامعة الاسكندرية سابقاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ورقة عمل قدمت لمؤتمر
“الفقه الإسلامى: المشترك الإنسانى والمصالح”
(تطور العلوم الفقهية – فقه رؤية العالم والعيش فيه
سلطنة عمان 6 – 9 ابريل 2014 )
** لقد قمنا بحذف المراجع وخاتمة البحث لضيق مساحة النشر (المحرر)
اترك تعليقاً