ولاية تفسير الدستور عن طريق هيئة الرقابة الدستورية بطريق مباشر أو غير مباشر
مقدم من : المستشار : سعد محمد عقيلة
المحكمة العليا الليبية .
مشاركة فى الملتقى العلمى الثامن لإتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية المنعقد فى مملكة البحرين الفترة من : 17 ـ 20 فبراير 2013
الفصل الأول : التعريف بولاية تفسير الدستور :
مقدمة :
من المقرر فى كل الأنظمة الدستورية والقانونية أن لا تنع…قد ولاية أو اختصاص لسلطة القضاء بمختلف محاكمه ودرجاتها وأنواعها إلا حيث يوجد نص يقرر هذه الولاية ويحدد الاختصاص من حيث كافة قواعده الموضوعية والإجرائية ، ولما كانت الدساتير هى المعنية فى المقام الأول بهندسة قواعد تحديد وتوزيع الاختصاصات والوظائف بين السلطات فى الدولة التى أعتمد نظامها السياسي تقسيم السلطات ، وذلك من خلال بيان حدود كل سلطة وتخومها آخذة فى اعتبارها التطور المستمر لمفهوم تقسيم السلطات فى رحاب الفكر السياسى والديمقراطى المعاصر الذى وصل إلى ما يعرف بالفصل المرن بين السلطات المبنى على القواسم المشتركة والمعتمد على التعاون والتآزر فيما بينها ، دون جور أو تغول لإحداها على الأخرى .
ولما كان القضاء الدستورى هو ضمانة الضمانة الدستورية للحقوق والحريات وضمانة الفصل بين السلطات وتوازنها فى إطار الممارسة ، وهو لا يضطلع بهذا الدور الأساسى والهام فى ظل الأنظمة الديمقراطية بلا قواعد أساسية يضطلع الدستور ببيانها ويحدد حدودها . فتصبح قواعد إجرائية دستورية تعلو منزلة عن كافة القواعد الإجرائية المنصوص عليها فى القوانين .
وبالنظر الى ما أنتهجه المشرع الدستورى العربى فى الدساتير العربية التى اعتمدت مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين والأنظمة واللوائح ، نجد اختلافات بينة فيما نصت عليه هذه الدساتير فى فصل الرقابة القضائية على دستورية القوانين وذلك من حيث : ـ
1 ـ تفصيل أو إيجاز قواعد الرقابة القضائية .
2 ـ الجهة القضائية المختصة بالرقابة وتكوينها { محكمة دستورية عليا ـ مجلس دستورى ـ محكمة عليا ـ محكمة إتحادية عليا . }
3 ـ آلية اتصال القضاء الدستورى بموضوع الدستورية { الدعوى الأصلية ـ الدفع الفرعى ـ الطلب ـ }
4 ـ صاحب حق اللجؤ الى القضاء الدستورى { لكل ذى مصلحة ـ لكل فرد ـ لرئيس الدولة ـ لرئيس الوزراء ـ لوزير العدل ـ لرئيس مجلس النواب ـ لرئيس مجلس الشيوخ أو الشورى ـ لعدد معين من أعضاء البرلمان ـ لرؤساء الطوائف المعترف بها قانونا . }
5 ـ نوع الرقابة والاختصاص : { السابقة ـ اللاحقة ـ رقابة الأنظمة الداخلية للبرلمان ـ رقابة المعاهدات والاتفاقيات الدولية ـ طعون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ـ تنازع الاختصاص القضائى ـ محاكمة الرئيس ونائبه ورئيس الوزراء والوزراء ونوابهم ـ التفسير المباشر لنصوص الدستور . }
ولما كان البحث معنيا باختصاص القضاء الدستورى بالتفسير المباشر وغير المباشر لنصوص الدستور لذا وجب بيان هذا الإختصاص وطرح ما يدور حوله من إشكاليات قضائية وفقهية فى المباحث التالية .
المبحث الأول : الولاية المباشرة للقضاء الدستورى فى تفسير نص الدستور
يقصد بالولاية المباشرة لتفسيرنص الدستور ما يقرره القضاء الدستورى من رأى فى طلب تفسير نص دستور بغرض إزالة ما غم منه على الطالب ولتوضيح مراد المشرع الدستورى من النص ، وسميت بالولاية المباشرة للتفسير بحكم موضوع طلب التفسير المحدد فى تفسير نص الدستور ، وفى تقديرنا يتميز هذا الاختصاص بتفرده وقصره على القضاء الدستورى دون غيره ، بمعنى لا يتصور تقديم طلب تفسير نص دستور للمحاكم الدنيا دون وجود قضية منظورة أمامها ، بل لا يقرر اختصاصا للمحاكم الدنيا بنظر طلب تفسير نص الدستور حتى بمناسبة وجود قضية منظورة إذا حور طالب التفسير طلبه فى صورة دفع فرعى طالبا من المحكمة المطروحة عليها الدعوى الفصل فى موضوع طلبه الفرعى قبل الفصل فى موضوع الدعوى المنظورة .
والجدير بالإشارة فى هذا الإختصاص هو وجوب تقيد المحكمة الدستورية بقواعد وآليات نظرها لطلب التفسير المباشر لنص الدستور وذلك من حيث :
1 ـ بحثها أولا فى شروط قبول هذا الطلب من ناحية مطابقته للقواعد الشكلية والإجرائية المنصوص عليها قانونا .
2 ـ ومن حيث فحصها الظاهرى لمؤدى الطلب المعروض عليها والذى يجب أن تستظهر منه المحكمة الدستورية أنه : ـ
أ ـ يتضمن أهمية جوهرية بالنظر الى النص المطلوب تفسيره ترتبط بطبيعة الحقوق التى ينظمها ووزن المصالح المرتبطة بها .
ب ـ أن يكون هذا النص فوق أهميته قد أثار عند تطبيقه خلافا حول مضمونه تتباين معه الآثار القانونية التى يرتبها فيما بين المخاطبين بأحكامه ، بما يفضى عملا الى الإخلال بوحدة القاعدة القانونية الصادرة فى شأنهم والمتماثلة مراكزهم القانونية إزاءها ، الأمر الذى يحتم رد هذه القاعدة الى مضمون موحد يتحدد على ضوئه ما قصده المشرع منها عند إقرارها ضمانا لتطبيقها تطبيقا متكافئا بين المخاطبين بها
3 ـ والأهم فى الإختصاص المقرر للقضاء الدستورى بالتفسير المباشر لنص الدستور هو ألا يقود المحكمة الدستورية للانزلاق عن اختصاصها بأن يؤدى بها الى تعديل النص من خلال التفسير وألا يكون الاختصاص بتفسير الدستور يقود الى فتح الباب أمام السياسيين لاستخدام المحكمة الدستورية كأداة من أدوات المناورة السياسية وهو أمر يجب تنزيه القضاء منه ، وفى هذا الصدد نورد ما واجهته المحكمة الدستورية العليا فى جمهورية مصر العربية فى إحدى مدوناتها الشهيرة فى أسباب حكمها بقولها : { … متى كان ما تقدم وكان من المقرر أنه سواء كان الدستور قد بلغ غاية الآمال المعقودة عليه فى مجال تنظيم العلاقة بين الدولة ومواطنيها ، أم كان قد أغفل بعض جوانبها أو تجنبها ، فإن الدستور يظل دائما فوق كل هامة معتليا القمة من مدارج التنظيم القانونى بإعتبار أن حدوده قيد على كل قاعدة تدنوه بما يحول دون خروجها عليها ، وهو ما عقد للدستور السيادة كحقيقة مستعصية على الجدل ….. }
ثم إختتمت أسباب حكمها بقولها : { إن الدستور وقانون المحكمة الدستورية العليا كلاهما إذ قصر ولاية المحكمة الدستورية العليا فى مجال مراقبة الشرعية الدستورية على النصوص القانونية دون غيرها سواء فى ذلك تلك التى أقرتها السلطة التشريعية أو التى أصدرتها السلطة التنفيذية فى حدود صلاحياتها الدستورية ، فإن قالة إخضاع الدستور لهذه الرقابة تكون مجاوزة حدود هذه الولاية مقوضة لتخومها ……………}
المبحث الثانى : ولاية القضاء الدستورى غيرالمباشرة بتفسير نص الدستور :
الولاية غير المباشرة للقضاء الدستورى لتفسير نص فى الدستور هى ما يطلق عليها فقهاء القانون الدستورى ” التفسير التبعى ” ، وهو التفسير القضائى الذى تجريه المحكمة الدستورية وصولا للفصل فى المنازعة الدستورية حول شأن دستورى لا يتعلق بتفسير النص الدستورى ، وإنما بطلب مطابقة نص الدستور ، مثل منازعة دستورية القوانين ، وطعون الانتخابات وغيرها من موضوعات اختصاص المحكمة الدستورية المبينة فى الدستور وقانونها الخاص .
ويظل الفارق بين طريقتى تفسير نص الدستور المباشرة وغير المباشرة إن الأولى يقوم به اختصاص أصيل للقضاء الدستورى ينص عليه الدستور أو يحيل فى تقريره لقانون المحكمة الدستورية ، بينما الثانية لا تحتاج للنص عليها سواء فى الدستور أو غيره من القوانين ، ذلك لأنه من مقتضيات سلطة الفصل ولزومها ، وهى على هذا النحو تشترك فيه المحكمة الدستورية مع باقى أنواع المحاكم ودرجاتها فى الفصل فيما يعرض عليها حسب إختصاصاتها المحددة قانونا ، والتى تستخدم التفسير القضائى للنصوص الدستورية وغير الدستورية فى حسمها للنزاع الدائر أمامها ، كما أن لإختصاص التفسير المباشر لنص الدستور قواعد إجرائية وشكلية منصوص عليها فى الدستور وقانون المحكمة الدستورية وما يحيل اليه الأخير من قواعد إجرائية فى قانون المرافعات ، وكلها قواعد واجبة الإتباع من القضاء الدستورى أثناء عرض طلب التفسير المباشر لنص فى الدستور ، بينما ليس ثمة قواعد شكلية أو إجرائية فى سلطة المحكمة وتقديرها فى التفسير غير المباشر لنص الدستور وصولا منها الى وجه الحق فى الطعن الدستورى المطروح عليها .
وفى التطبيقات القضائية قد يثور الغموض واللبس فى فهم وتفسير نص الدستور المقرر لإختصاص التفسير المباشر للمحكمة الدستورية بمناسبة طرح طلب تفسير نص آخر فى الدستور ، خصوصا عندما تواجه المحكمة الدستورية دفعا بعدم إختصاصها من خصم طالب التفسير المباشر ، الأمر الذى يوجب على المحكمة الدستورية الرد من خلال تطرقها لتفسير النص الدستورى المقرر لإختصاصها فى التفسير المباشر لنص الدستور ، أو الى ما تراه أنه مقررا لإختصاصها ، ويصبح التفسير الدستورى فى هذه الحالة فصلا مركبا من تفسيرين الأول يدور بشأن الإختصاص المدفوع به أمامها ، والثانى بشأن التفسير المباشر لنص الدستور المقدم به طلب التفسير .
ولتقريب هذه المسألة نورد القرار التفسيرى للمحكمة الدستورية العليا الكويتية رقم : 3 لسنة 1986 ـ حيث تقدم لها مجلس الوزراء بطلب تفسير نص المادة : [ 173 ] من الدستور وذلك لبيان مدى ولاية المحكمة الدستورية التى عينها الدستور فى هذه المادة وما إذا كانت هذه الولاية تشمل بحكم اللزوم تفسير نصوص الدستور وإستجلاء المعنى الذى قصده المشرع الدستورى منها وإلزام جميع السلطات به سواء أكان ذلك بطلب تفسير نص دستورى عند وقوع خلاف حوله بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو حتى داخل أى منهما ، مما يقتضى رفع الأمر الى هذه المحكمة لحسم الخلاف وبيان التفسير السليم لهذا النص ، أم أن الولاية مقصورة فقط على الطعن فى قانون معين بدعوى أن هذا القانون مخالف للدستور ، وكان مجلس الوزراء يرى أن إختصاص المحكمة الدستورية فى تفسير نصوص الدستور هو إختصاص مستمد مباشرة من نص المادة : 173 من الدستور ، بينما يرى دفاع مجلس الأمة بأن المحكمة الدستورية لم تتلقى من الدستور الا إختصاصا واحدا هو الفصل فى المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين ، وإن المحكمة وهى تملك بالتبعية لهذا الإختصاص الوحيد الأصيل ولاية تفسير نصوص الدستور بقصد إستبيان حكمه فى المنازعات المعروضة عليها .
وقد خلصت المحكمة الدستورية الكويتية فى قرارها التفسيرى بقولها : { أن ولاية تفسير النصوص الدستورية قد أسندت الى المحكمة الدستورية وحدها بأمر من المشرع الدستورى وإرادته فى المادة : 173 من الدستور وما جاء فى المذكرة التفسيرية الشارحة لها ، وليس من المشرع العادى مما لا يسوغ معه تعديل هذا الإختصاص أو سلبه الا بنص دستورى معدل للنص الدستورى المقرر لذلك الإختصاص ….. وحيث أنه لما كانت الفقرة الأولى من المادة : 173 من الدستور قد جرى نصها على أن : ” يعين القانون الجهة القضائية التى تختص بالفصل فى المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح ” وإذا كان من مقتضى التفسير تحرى القصد التشريعى والنزول من ظاهر النصوص الى مكنوناتها بغية التعرف على فحواها الحقيقى وأنه على هدى هذه المعانى فإنه بتمحيص عبارة ” المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح ” يبين أنها تضم فى مدلولها ونطاقها المنازعة فى فهم النص الدستورى مما يعنى إختلاف الرأى فى معانى النص ومراميه ، سيما وأن من المسلم به أن الدعوى الدستورية فى عمومها هى دعوى عينية تستهدف تشريعا ما لبيان مدى مطابقته لأحكام الدستور ، فهى خصومة بشأن النص الدستورى تنطوى فى إطارها الخلاف المتعلق بمجال إعماله بما يقتضى لزوم إستبانة نطاقه وصولا لوجه الرأى فيما يثيره فى التطبيق من إختلاف ، وعلى ذلك فإن المنازعة الدستورية التى أشارت اليها المادة : 173 من الدستور ليست قاصرة على مجرد الطعن فى دستورية تشريع ما وإنما تتسع أيضا لتشمل تفسير النص الدستورى بصورة مستقلة ، ذلك أن طلب تفسير نص دستورى إنما يحمل فى ثناياه وجود منازعة حوله وتبيان وجهات النظر فيما تعنيه عباراته ، ويكفى فى هذا الشأن أن يدور حول النص أكثر من رأى على نحو يغم معه إعمال حكمه سواء فيما بين الجهات المعنية ” مجلس الأمة والحكومة ” أو فى داخل أى منهما ، ليسوغ معه الإتجاه الى الجهة القضائية المختصة ” المحكمة الدستورية ” لتجلية غموضه وذلك ضمانا لوحدة التطبيق الدستورى وإستقراره ……………………………………….}
الفصل الثانى : أهمية الإختصاص بتفسير الدستور :
للإختصاص المقرر للقضاء الدستورى بتفسير نصوص الدستور أهمية فى كثير من الجوانب التطبيقية ، بغض النظر عن الجدل المثار فى الفقه الدستورى حول عدم صحة إختصاص المحاكم الدستورية فى التفسير المباشر لنص الدستور من خلال طلبات التفسير المباشرة ، وقد يكون لما يستند عليه هذا الإتجاه الفقهى من إعتبارات تتمثل فى عدم جر القضاء الدستورى بعيدا عن مجال الإختصاص الأصيل له فى مراقبة دستورية القوانين ، وكان من سوابق هذا الإتجاه موقف المحكمة الإتحادية العليا بالولايات المتحدة الأمريكية حينما قدم الرئيس ” واشنطن ” اليها سلسلة من الأسئلة المتعلقة بتفسير المعاهدات المعقودة مع فرنسا لإبداء رأيها فيها فأجابت المحكمة : ” بأنها لا ترى من المناسب إعطاء رأى فى أمور لم تنشأ عن قضية مطروحة أمامها ” وفى هذا تطبيقا لقاعدة : ” أن القاضى لا يستفتى ” .
وفى هذا الإتجاه علق الأستاذ : محمد عبدالقادر الجاسم فى مقالة بموقع الميزان حول القرار التفسيرى للمحكمة الدستورية العليا بالكويت المشاراليه فيما سبق من الدراسة بقوله : ” بأن الإختصاص التفسيرى للمحكمة الدستورية يثير العديد من المشكلات متل مدى إختصاصها بتفسير نصوص الدستور ، وحدود ونطاق وضوابط التفسير بما يستدعى التفكير الجدى فى نزع هذا الإختصاص من المحكمة الدستورية ……”
ومع كل ما سبق فإن هذا الجدل حول الإختصاص التفسيرى لنص الدستور ، يثور فيما إذا كان الدستور لم ينص على هذا الإختصاص أو نص عليه على نحو غامض يحتاج تفسيره الى إجتهاد قضائى على النحو الذى سلكته المحكمة الدستورية العليا الكويتية فى تفسيرها لنص المادة : 173 من الدستور الكويتى ، الا إن هذا الجدل لا يمنع من تقرير جدوى القرارات التفسيرية إذا صدرت بإختصاص دستورى واضح وإتخذ القرار التفسيرى وفق مبادئه وقواعده التى لا تخرجه عن سياقه وهدفه ، ونعرض لبعض من جوانب أهمية هذا الإختصاص التفسيرى للقضاء الدستورى فيما يلى :
المبحث الأول : حسم الخلافات بين سلطات الدولة فى شأن تفسير الدستور :
إن رقابة تنازع السلطات العامة هى رقابة دستورية بالمعنى الواسع لهذه الرقابة وطبقا لغالبية الدساتير العربية التى تنص كمبدأعام على أن القضاء الدستورى هو الضامن لسمو وإحترام الدستور ، وأنه من يسهر على ضمان عدم تجاوز السلطة التشريعية لما هو محدد لها دستوريا وعدم إعتداء السلطة التنفيذية على المجال المخصص للمشرع ، وبالتالى فإن التنازع والإختلاف حول تفسير نص فى الدستور بين السلطتين أو حتى داخل إحداهما ، يجعل من الأهمية والضرورة اللجؤ الى جهة محايدة لحسم الخلاف ضمانا لحسن تطبيق الدستور وإحترامه ، وإنهاءا لأى خلاف يدور حول فهم معانيه ومقاصده ، والقضاء الدستورى القيم دستوريا بهذا الدور يحقق ليس مجرد سير السلطات فى الدولة بلا تنازع بينها أو تجاذب وإنما يهدف أيضا الى أداء وظيفته الأساسية وهى تحقيق العدالة الدستورية .
المبحث الثانى : تحديد إختصاصات السلطات ومنع التصادم بينها :
إن التطورات التى ذهبت بإتجاه الحد من الفصل بين السلطات من خلال إيجاد قواعد للتوازنات بينها تقتضى ضمان حد معين من الفصل بينها وبالتالى من إستقلالية هذه السلطات فى إطار توازنى وتعاونى ، وهذا ما يوفره القضاء الدستورى من خلال بيانه وتحديد مرامى المشرع الدستورى من خلال قرارات تفسيره لنصوص الدستور درأ للخلاف والتنازع بين السلطات ، وقد إتجه القضاء الدستورى فى العديد من الأنظمة الدستورية المعاصرة الى إعتبار مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها مبدأ له قيمة دستورية ينبغى إلتزامه من قبل المؤسسات الدستورية ، بحيث لا يجوز للسلطة التشريعية أن تتجاوز حدود صلاحياتها ، أو تتنازل ضمنا عن صلاحياتها فى التشريع للسلطة التنفيذية عن طريق وضع قوانين تترك للسلطة التنفيذية مهام إكمالها أو سد الثغرات فيها ، كما لايجوز للسلطة التشريعية أن تتجاوز حدود صلاحياتها بممارسة رقابة على الأحكام القضائية أو التدخل بأعمال القضاء بإى شكل كان بما يجب عليها الإلتزام بإحترام إستقلالية القضاء ، وبهذا النحو يصبح دور القضاء الدستورى حاسما ومهما فى منع أى تصادم بين السلطات فى الدولة .
المبحث الثالث : توحيد مفهوم أحكام الدستور :
أن إختصاص القضاء الدستورى بتفسير الدستور يضفى توحيدا لأحكامه ، وهذه الأهمية تتطلب : ـ
أولا : ـ النص فى الدستور على إختصاص القضاء الدستورى بتفسير نص الدستور بالطريق المباشر من خلال طلبات التفسير .
ثانيا : ـ النص على القوة الإلزامية لقرارات القضاء الدستورى فى تفسير نص الدستور .
والدساتير العربية إتخذت مواقفا متغايرة فى هذين الشرطين فمنها من نص صراحة على إختصاص التفسير المباشر للمحكمة الدستورية ، وبين آليات وقواعد عرض الطلب التفسيرى على المحكمة الدستورية ، ومنها من سكت عن هذا الإختصاص محيلا فى نص عام الى ما ينص عليه قانون المحكمة الدستورية من إختصاصات لم يشملها الدستور . ومن هذه الدساتير أيضا ما نص صراحة على إلزام السلطات والكافة بالقرارات التفسيرية الصادرة عن المحكمة الدستورية ، ومنها من لم ينص على ذلك .
ومتى كان الإختصاص التفسيرى المباشر لنص الدستور مقررا دستوريا للقضاء الدستورى ، وأن قراراته ملزمة للكافة ، فإنه لا شك من أن ذلك سيكون ركيزة لتوحيد مفاهيم الدستور وأحكامه ، بما تشكله قراراته التفسيرية سوابق قضائية ومبادئ ملزمة للكافة بما فى ذلك القضاء بمختلف أنواعه ودرجاته .
الفصل الثالث : الطبيعة الموضوعية لولاية تفسير الدستور :
إن آلية وطبيعة العمل التفسيرى لنص الدستور الذى تتخذه المحكمة الدستورية وصولا الى نتيجة قرارها التفسيرى ، وإن كانت من تقديرات وإطلاقات المحكمة الدستورية فى إتخاذها حرية البحث والتنقيب سواء فى ألفاظ النص أو عباراته ، أو فى مرامى المشرع من إقراره ، ومن الوسائل التوضيحية زمن وضعه من مذكرات توضيحية ومضابط جلسات مناقشته ، كل تلك السبل والأدوات تتخذها المحكمة الدستورية فى تفسيرها لنص الدستور ، ولا إلزام دستورى أو تشريعى للأخذ بطريقة أو آلية معينة حين تفسير المحكمة لنص الدستور ، الا إن الفقه القانونى بشكل عام قد خاض فى طبيعة تفسير النص التشريعى بشكل عام ، وإستقرت قواعد فقهية فى بيان مدارس وطرق وأنواع التفسير ، كما أن للإجتهاد القضائى دوره فى تحديد قواعد وطبيعة العمل التفسيرى للنص التشريعى ، ولبيان كل ذلك نتطرق للقواعد العامة فى التفسير وما تفرضه الطبيعة الخاصة لتفسير النص الدستورى وذلك فى المبحثين التالين ـ
المبحث : الأول القواعد العامة فى التفسير :
يعرف الفقه القانونى التفسير على أنه : ” التعرف من ألفاظ النص أو فحواه على حقيقة الحكم الذى تتضمنه القاعدة القانونية بحيث تتضح منه حدود الحالة الواقعية التى وضعت القاعدة القانونية من أجلها . ”
وللتفسير أنواع بحسب الجهة التى تقوم به [ تفسير تشريعى ـ تفسير قضائى ـ تفسيرفقهى ـ ] كما أن للتفسير مذاهب وطرق عرفها الفقه القانونى منذ القدم وكان تقسيمها الى [ مدرسة الشرح على المتون ـ المدرسة التاريخية والإجتماعية ـ المدرسة العلمية . ]
وما يعنينا مما تقدم فى مجال بحثنا هو التفسير القضائى فى صورة قواعده العامة التى يشترك فيها القضاء الدستورى مع بقية انواع القضاء حين يجرى تفسير النص المعروض عليه ، وعلى ذلك يأخذ القضاء الدستورى فى تفسير نص الدستور بالقواعد العامة التالية : ـ
أولا : ـ تغليب المعنى الظاهر فى عبارة النص .
وهذا بطبيعة الحال لا يتأتى الا فى النص الواضح الدلالة وهو : ” ما دل على المراد منه بذات صيغته من غير توقف على نص خارجى ” ، وعندما كانت مراتب الوضوح فى دلالة العبارة تتفاوت فى مراتب الوضوح على أساس إحتمال التأويل وعدم إحتماله ، وكان التأويل فى إصطلاح علماء أصول الفقه الإسلامى هو:
” صرف اللفظ عن ظاهره بدليل ” وبالتالى فإن القاعدة تجرى على أنه إذا كان النص واضح الدلالة وجب العمل بما هو واضح الدلالة عليه ، وهذا يعنى فى الفقه القانونى أيضا تغليب الظاهر فى عبارة النص ، وهو من موجبات صحة التفسير وصحة القرار التفسيرى أو الحكم المترتب عليه .
ثانيا : ـ وحدة وتكامل أحكام الدستور .
ومن خلال هذه القاعدة التى تتطلب أن يجرى القضاء الدستورى تفسيره لنص الدستور بالنظر الى وحدة وتكامل بنيان قواعده وفهمها على أنها ” كل من غايات جمعية إرتبطت بوحدة هدف البناء السياسى والإجتماعى والإقتصادى وفق مراد المجتمعات وغاياتها من الدستور ” .
ثالثا : إعمال قاعدة الناسخ والمنسوخ .
ومن خلال هذه القاعدة العامة فى التفسير يتعين على القضاء الدستورى حين تفسيره لنص الدستور أن يتبين من النص مدى إستقراره أو توقيت العمل به لمدة يصار بعدها الى قاعدة دستورية أخرى تغاير فى حكمها ما عليه سابقتها وتصبح هذه القاعدة ناسخة لما قبلها ، ويحدث ذلك إما فى التعديلات الدستورية وإما فى ذات الدستور المشتمل على مواد مدرجة فى فصل المرحلة الإنتقالية ، والتى يقرر الدستور نفسه أن تكون خلال فترة معينة بديلا للقواعد والنصوص التى أدرجها سواء فى بيان السلطات أو تركيبتها ، أو حتى شكل الدولة ، ومن ذلك على سبيل المثال ما نص عليه دستور جمهورية السودان لسنة 2005 الصادر فى ظل اتفاقية السلام الشامل وإدراجه نصوص تتعلق بالمرحلة الإنتقالية المتعلقة بمصير الإستفتاء على إستقلال جنوب السودان .
رابعا : تغليب حكم الخاص على العام .
ومن قواعد تفسير النص تخصيص العام بحيث إذا ورد فى النص لفظ عام دل ذلك على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الحالات ، الا إذا قام دليل على تخصيص الحكم ببعضها ، فإذا لم يقم دليل على التخصيص وجب حمل اللفظ على عمومه وإثبات الحكم لجميع ما يصدق عليه من الحالات .
والجدير بالملاحظة أن تخصيص العام ينطوى فى الوقت ذاته على إلغاء جزئى للقاعدة العامة بقدر ما جاءت به القاعدة الخاصة .
وبهذا يتقيد القضاء الدستورى فى تفسيره لنص الدستور بقاعدة تخصيص العام سواء صدرت بهما القاعدة فى وقت واحد أو كانت قاعدة الخاص قد أعقبت القاعدة العامة .
المبحث الثانى : القواعد الخاصة فى تفسير نص الدستور .
بالإضافة الى القواعد العامة فى التفسير توجد قواعد خاصة لتفسير نص الدستور بالنظر الى طبيعة النص المفسر وعلو مرتبته التشريعية عن باقى القواعد القانونية سواء بالنظر الى جهة تشريعه أو الموضوع الذى ينظمه ، وبالتالى لابد من تميز إختصاص تفسيره وقواعده ، ونبين ذلك بمايلى :
أولا : إستظهارمرامى النص وتغليب حكمه .
ومن خلال هذه القاعدة يتطلب من القضاء الدستورى الغوص فيما يبتغيه المشرع الدستورى من وراء النص المراد تفسيره ، وذلك بالرجوع الى المذكرات الإيضاحية للدستور ومضابط جلسات حوارات ومداولات الهيئة التأسيسية ، لبيان غايات المشرع من وراء نص الدستور ، بالإضافة لما يبين منها من ظروف تاريخية وسياسية وإجتماعية التى كانت محيطة بواضعيه وأنزلوها فى قواعد الدستور ، وبهذا يكون تفسير القضاء الدستورى لنص الدستور قد بلغ مرامى النص وغلبها فى تفسيره .
ثانيا : تغليب التفسير المتفق مع أهداف الدستور .
وهذا أمر منطقى لصحة تفسير نص الدستور ، ذلك لأن الحيدة عن أهداف الدستور ومبادئه العامة فى تفسير نصه يؤدى الى خروج القضاء الدستورى عن ولايته فى التفسير الدستورى ، بل وينزلق به الى تعديل نص الدستور بالتفسير المغاير لأهدافه وهو ما لايجوز له وفقا لنص وحكم الدستور .
وفى بيان ذلك على نحو أكثر دقة ووضوح نسوق من أسباب حكم المحكمة الدستورية العليا بجمهورية مصر العربية فى القضية رقم : 22 / 8 ق دستورية ـ بتاريخ : الرابع من يناير 1992 ـ حيث أوردت قولها : { أن الأصل فى النصوص الدستورية إنها تؤخذ بإعتبارها متكاملة وان المعانى التى تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التنافر أو التعارض ، هذا بالإضافة الى أن هذه النصوص إنما تعمل فى إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجا متآلفا متماسكا بما مؤداه أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص إستقلالا لا يعزلها عن بعضها البعض وإنما يقيم منها فى مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما أرتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها فى المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، ولا يجوز بالتالى أن تفسر نصوص الدستور بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها ، ولا أن ينظر اليها بوصفها هائمة فى الفراغ ، أو بإعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الإجتماعى ، وإنما يتعين دوما أن تحمل مقاصدها بمراعاة أن الدستور وثيقة تقدمية ، لا ترتد مفاهيمها الى حقبة ماضية وإنما تمثل القواعد التى يقوم عليها والتى صاغتها الإرادة الشعبية ، إنطلاقة الى تغيير لا يصد عنه التطور آفاقه الرحبة ………} .
ثالثا : الترجيح بين القيم المختلفة إستنادا الى أهداف المجتمع ” المبادئ التى أقرتها الأمم المتحدة ومبادئ الشريعة الإسلامية .
ان قيم وأهداف المجتمعات هى ركيزة المواثيق التى تنطلق للإعلان عنها ، وتنال مرتبة سامية وحاكمة لمسيرة أى أمة ، وما الدساتير التى تصدر الا تكريسا للقيم والمبادئ التى صدرت بها هذه المواثيق ، وعادة ما تتضمن ديباجة هذه الدساتير تأكيدا على ما تضمنته تلك المواثيق والإعلانات ، وتمزج تلك القيم بما يوافقها من قيم الأمم ومواثيقها الدولية ، بتناغم يهدف الى العيش الإنسانى فى وئام وسلام وتعاون وعيش مشترك تتبادل فيه قيم الحضارات بإحترام للعقائد وللخصوصيات الحضارية لكل مجتمع إنسانى ، وعلى هذا النحو ترد مبادئ الدساتير فى نصوصها ما يؤكده ، بل أحيانا ترد فى مقدمة الدساتير ديباجة تتضمن إستشراقا لهذه القيم والمبادئ وتقرر أنها جزء لا يتجزأ من الدستور ، وعلى هذا النحو وردت ديباجة الدستور المعدل لمملكة البحرين ، نقتبس منها هذه العبارات التى لخصت فى قوة وإحكام قيم المجتمع وعلاقتها بغيرها من مبادئ وقيم المجتمعات وما نصت عليه المواثيق الدولية ، حيث ورد فى ديباجة دستور المملكة البحرينية ما يلى : ” ….. ولقد إنبثقت تعديلات الدستور من أن شعب البحرين العريق مؤمن بأن الإسلام فيه صلاح الدنيا والآخرة وأنه لا يعنى الجمود ولا التعصب ، وإنما يقرر فى صراحة تامة أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وإن القرآن الكريم لم يفرط فى شئ وتحقيقا لذلك كان من الضرورى أن نمد السمع والبصر الى كل تراث الإنسانية شرقا وغربا لنقتطف منه ما نراه نافعا وصالحا ومتفقا مع ديننا وقيمنا وتقاليدنا وملائما لظروفنا إقتناعا بأن النظم الإجتماعية والإنسانية ليست أدوات أو آلات جامدة تنتقل دون تغيير من مكان الى آخر ، وإنما هى خطاب الى عقل الإنسان وروحه ووجدانه تتأثر بإنفعالاته وظروف مجتمعه ، وبذلك جاءت هذه التعديلات الدستورية ممثلة للفكر الحضارى المتطور لوطننا الغالى … }
والقضاء الدستورى حين نظره الى أى منازعة دستورية ، لا يخرج عما تضمنه الدستور من قيم غلبها ورسم حدودها وبين من عباراته وجه الإلتقاء مع كل المبادئ الإنسانية ، سواء كانت منصوصا عليها فى ديباجة الدستور أو متنه ، بل وتلك المنصوص عليها فى المواثيق والإعلانات التى تعاهد عليها المجتمع ، وتلك المواثيق والإعلانات الدولية المشتركة والموافقة لقيم المجتمع وعقائده .
وإن ثار الجدل الفقهى الدستورى حول القيمة القانونية للمواثيق ولإعلانات الحقوق فيما إذا إحتلت مرتبة السمو على الدستور أو إنها تنزل منزلته بإعتبارها وثائق ذات طبيعة دستورية ، وقد غلبت المذكرة الإيضاحية للتعديل الدستورى بمملكة البحرين علو مرتبة المواثيق والإعلانات على الدستور بأن ورد فيها : { …. وإن الإتجاه الغالب قد ذهب الى أن هذه الإعلانات وتلك المواثيق تعتبر ملزمة لواضعى الدستور وتأخذ مرتبة أعلى منه ، لأنها تمثل الإتجاهات الكبرى التى إرتضاها الشعب وتتضمن المبادئ الدستورية المستقرة فى الضمير الإنسانى للمجتمع ، ومن ثم وجب أن يتقيد بها المشرع الدستورى والمشرع العادى على حد سواء} .
الفصل الرابع : آلية مباشرة ولاية تفسير الدستور .
إن آلية مباشرة ولاية القضاء الدستورى فى تفسير نص الدستور تعنى قواعد وإجراءات إتصال المحكمة الدستورية العليا بنظر موضوع طلب التفسير وحتى الفصل فيه ، وإذا كانت غالبية الدساتير العربية المقررة لإختصاص التفسير المباشر لنص الدستور للقضاء الدستورى قد حددت ” الطلب ” كوسيلة لإتصال المحكمة الدستورية بموضوعه ، الا إن ذلك لا يعنى أن الطلب مجرد عن أى قواعد شكلية وإجرائية ، على النحو المقرر فى الدعوى الدستورية بشكل عام والمنصوص عليها عادة فى قانون المحكمة الدستورية وما يحيل اليه من قواعد إجرائية فى قانون المرافعات ، وإن كان إستخدام لفظ ” الطلب ” طبقا للقواعد العامة فى قانون المرافعات لا يحمل المعنى الدقيق للدعوى من الناحية الشكلية والإجرائية فى قواعد المرافعات ، وكان للطلب إعتبارا فيما تنهض به الدعوى أو ما يثيره الخصوم من طلبات أمام المحكمة بجلسة المرافعة ، الا إن خصوصية القواعد الدستورية ومنازعاتها تفترض نوعا خاصا من القواعد والإجراءات التى تلائم طبيعة المنازعة الدستورية المتميزة عن أى منازعة قضائية أخرى كونها تتعللق بتلك المبادئ العامة الجمعية للقيم والحقوق .
وعلى ما تقدم فإن كان الطلب الوسيلة المحددة دستوريا لنظر القضاء الدستورى المختص بتفسير نص الدستور ، فإنه لا يخلو من مضمون المنازعة الدستورية بحكم وجود خلاف حول تفسير النص واللجؤ الى المحكمة الدستورية لحسم الخلاف .
ولن يكون طلب تفسير نص الدستور وسيلة إستفتائية للسلطات لا تتقيد فى تقديمه بإى إجراءات ، أو لا تتقيد بقرارالمحكمة الدستورية الصادر فى طلب تفسير نص الدستور .
وقد ثار الجدل الفقهى لما كان عليه الوضع فى ليبيا فى ظل الدستور الإتحادى والذى نص فى المادة : 152 على أن ” للملك إحالة مسائل دستورية وتشريعية هامة الى المحكمة العليا لإبداء رأيها فيها ، وللمحكمة النظر فى الأمر وإبلاغ فتواها للملك مع مراعاة أحكام هذا الدستور . ” وقد أثار هذا الإختصاص الإفتائى جدلا فقهيا لما هو بين من أن رأى المحكمة العليا هنا إستشاريا لا يلزم السلطة المستشيرة ولا يرتب القانون عليه أثرا ، الأمر الذى إنتهى بالمشرع الدستورى الى إنهاء هذا الوضع الشاذ بما تعاقبت عليه إعلانات الدساتير وقانون المحكمة العليا الحالى .
وخلاصة آلية مباشرة القضاء الدستورى للإختصاص المقرر دستوريا بالتفسير المباشر لنص الدستور ، فإن ثمة قواعد إجرائية خاصة يجب إتباعها ، ولا يمنع المحكمة الدستورية من تقرير عدم القبول شكلا لطلب التفسير إذا حاد عما هو مرسوم له من قواعد إجرائية فى عرضه على المحكمة الدستورية ، كما تتقيد المحكمة الدستورية بصفة رافع الطلب اليها ومما أجاز له دستوريا أو بقانون المحكمة الدستورية بتقديم الطلب سواء كانت إحدى السلطات العامة أو من الأفراد .
المبحث الأول : الطلب التفسيرى المرفوع من السلطات العامة .
ان بعض الدساتير العربية التى نصت على إختصاص القضاء الدستورى بولاية التفسير المباشر لنص الدستور، قد حددت صاحب الحق فى تقديم طلب التفسير وأحالت فى تقديمه الى القواعد المقررة فى قانون المحكمة الدستورية المختصة ، ومن هذه الدساتير التى لم تنص صراحة على إختصاص المحكمة الدستورية بالتفسير المباشر للدستور ، ونصت على أن يحدد قانون المحكمة الدستورية إختصاصاتها الأخرى وبتنظيم الإجراءات أمامهاالمتعلقة بالمنازعة الدستورية بشكل عام .، وعلى سبيل المثال بالنسبة لموقف الدساتير التى حددت هذا الإختصاص وطالبه ، فقد نص دستور جمهورية السودان لعام 2005 فى المادة : 122 بالفقرة أ : ” تفسير النصوص الدستورية بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو الحكومة القومية أوحكومة جنوب السودان أو حكومة أى ولاية أو المجلس الوطنى أو مجلس الولايات . “
ونص دستور إتحاد الإمارات لسنة 71 بالمادة 99 على أنه : ” تختص المحكمة الإتحادية العليا بالفصل فى الأمور التالية : …………….4 ـ تفسير أحكام الدستور إذا ما طلبت اليها ذلك إحدى سلطات الإتحاد أو حكومة إحدى الإمارات ويعتبر هذا التفسير ملزما للكافة ..”
ونص دستور المملكة الأردنية المعدل فى سنة 2011 بالمادة 59 فقرة : 2 بأن :
” للمحكمة الدستورية حق تفسير نصوص الدستور إذا طلب إليها بقرار صادر عن مجلس الوزراء أو بقرار يتخذه أحد مجلسى الأمة بالأكثرية المطلقة ويكون قرارها نافذ المفعول بعد نشره فى الجريدة الرسمية . ”
أما عن تلك الدساتير التى أحالت بعبارة عامة فى نص إختصاص المحكمة الدستورية بما يحدده لها قانونها من إختصاصات أخرى ، من هذه الدساتير على سبيل المثال دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2012 حيث نص بالمادة : 175 على أن ” المحكمة الدستورية العليا جهة قضائية مستقلة ومقرها مدينة القاهرة وتختص دون غيرها بالفصل فى دستورية القوانين واللوائح ويحدد القانون إختصاصاتها الأخرى وينظم الإجراءات التى تتبع أمامها . ” وقد نص القانون رقم : 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا فى مصر بالمادة 33 على أن : ” يقدم طلب التفسير من وزير العدل بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء أو رئيس مجلس الشعب أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية ، ويجب أن يبين فى طلب التفسير النص التشريعى المطلوب تفسيره وما أثاره من خلاف فى التطبيق ومدى أهميته التى تستدعى تفسيره تحقيقا لوحدة تطبيقه . “
المبحث الثانى : الطلب التفسيرى المرفوع من الأفراد .
ان الدساتير العربية التى نصت صراحة على جهات عامة ومعينة ممن يجوز لها تقديم طلبها الى المحكمة الدستورية للتفسير المباشر لنص فى الدستور ، لا نرى من خلال تحديدها لهذه الجهات العامة جوازا لغيرها من الجهات أو الأفراد أن يسلكوا هذا السبيل من أنواع الرقابة الدستورية ، فإذا كان إلتقاء معظم الدساتير العربية وغيرها فى تقرير حق الفرد فى الطعن على دستورية القوانين سواء بطريق الدعوى الأصلية أو بالدفع الفرعى ، الا إننا لا نرى أى من هذه الدساتير تقرر حقا للأفراد فى الطلب التفسيرى المباشر لنص الدستور ، وإن كان جواز اللجؤ بهذا الطلب من الإفراد للمحكمة الدستورية يتحقق لا فى صورته المباشرة ، وإنما بمناسبة قضية منظورة وطعن مثار بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه عل النزاع المقامة عنه الدعوى ، وعلى هذا النحو نص قانون المحكمة العليا الليبية رقم : 6 لسنة 1982 فى المادة : 23 منه على أن : [ تختص المحكمة العليا دون غيرها منعقدة بدوائرها المجتمعة برئاسة رئيسها أو من يقوم مقامه بالفصل فى المسائل الآتية : ـ …………….الفقرة : ثانيا : ـ أية مسألة جوهرية تتعلق بالدستور أو بتفسيره تثار فى قضية منظورة أمام أية محكمة . ]
وإن ورد النص على نحو غامض فى تحديد ماهى المسائل الجوهرية المتعلقة بالدستور أوتلك غيرالجوهرية ، خصوصا إذا ما عرفنا إن كل مسائل الدستور هى من المسائل الجوهرية حسب بنية الدستور وموضوعاته التى ينظمها ، وفى غير ذلك يتضح لنا من النص المشار اليه إن طلب التفسير الذى يتقدم به الأفراد لا يكون الا تفسيرا تبعيا طالما قيد النص تقديمه بقضية منظورة أمام أية محكمة ، ذلك لأن مثل هذا الطلب يتطلب إحالة الدعوى المنظورة الى المحكمة العليا منعقدة بدوائرها المجتمعة ، ومن هنا نكون أمام دعوى دستورية القانون والتى يتطلب الفصل فيها أن تجرى المحكمة الدستورية تفسيرا لنص الدستور وصولا لوجه الرأى فى الدعوى .
الفصل الخامس : حجية قرار تفسير الدستور .
المبحث الأول : الحجية فى مواجهة السلطات العامة والأفراد :
حجية القرار التفسيرى المباشر لنص الدستور والصادر عن المحكمة الدستورية يحوز حجيته المطلقة على الكافة ، سواء نص الدستور أوقانون المحكمة الدستورية على هذا الأثر المترتب عل صدور القرار التفسيرى المباشر لنص الدستور، أو لم ينص أى منهما على ما يترتب من أثر على صدور هذا القرار ، وكل ذلك وفقا للقواعد العامة التى تقضى بقوة الأمر المقضى به على ما يصدر من القضاء من أحكام وقررات فاصلة ومنهية لموضوع المنازعة المطروحة .
ومع ذلك نصت بعض الدساتير العربية على ترتب أثر إلزام الكافة بما يصدر عن القضاء الدستورى من قرارات نورد منها على سبيل المثال ما نص عليه دستور المملكة المغربية / تعديل 2011 فى الفصل : 134 بنصه عل أن : ” …لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أى طريق من طرق الطعن ، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية . “
وبالمثل نص دستور المملكة الأردنية / تعديل 2011 فى المادة : 59 / 1 بنصها على أن : ” تختص المحكمة الدستورية بالرقابة على دستورية الوانين والأنظمة النافذة وتفسير نصوص الدستور وتصدر أحكامها بإسم الملك ، وتكون أحكامها نهائية وملزمة لجميع السلطات وللكافة كما تكون أحكامها نافذة بأثر مباشر ما لم يحدد الحكم تاريخا آخر لنفاذه وتنشر أحكام المحكمة الدستورية فى الجريدة الرسمية خلال خمسة عشر يوما من تاريخ صدورها . 2 ـ للمحكمة الدستورية حق تفسير نصوص الدستور إذا طلب اليها ذلك بقرار صادر عن مجلس الوزراء أو بقرار يتخذه أحد مجلسى الأمة بالأكثرية المطلقة ، ويكون قرارها نافذ المفعول بعد نشره فى الجريدة الرسمية . ”
كما نص دستور إتحاد الإمارات لسنة 1971 بالمادة 99 على أنه : ” تختص المحكمة الإتحادية العليا بالفصل فى الأمور التالية : …………..4 ـ تفسير أحكام الدستور إذا ما طلبت اليها ذلك إحدى سلطات الإتحاد ، أو حكومة إحدى الإمارات ويعتبر هذا التفسير ملزما للكافة . “
أما عن موقف الدساتير العربية الأخرى التى لم تصرح بحجية القرار التفسيرى لنص الدستور ، فإن ذلك لا يعنى بان القرار التفسير لا يحوز حجية الأمر المقضى به ، وإنما تركت ذلك للقواعد العامة على نحو ما أشرنا اليه ، بالإضافة الى أن القضاء الدستورى فى كل الأنظمة الدستورية العربية وغيرها ، ليس جهة إستشارية لباقى السلطات أو الأفراد ، وإنما يضطلع بسلطة الحكم على ما يعرض عليه من نزاعات دستورية ، وإن إتخذ الحكم صيغة القرار التفسيرى فيما يعرض من طلبات تفسير نصوص الدستور ، والتى وإن كان لا يحمل فى ظاهره طابع المنازعة ، بما هو عليه الوضع فى المنازعة الدستورية حول دستورية أى قانون من عدمها ، الا إن طلبات التفسير تحتوى على مسألة خلافية بين السلطات أو فى داخل إحداها على مضمون نص الدستور وفحواه وبالتالى تحمل طلبات التفسير معنى المنازعة الدستورية وحكمها بمعناها الواسع ن وعلى كل ذلك فإن ما يصدر عن المحكمة الدستورية بالبت فى طلبات التفسير ، إنما يكون فى قوة الحكم البات بما له من قوة الإلزام للكافة بما فى ذلك المحكمة الدستورية والقضاء بشكل عام .
المبحث الثانى : العدول عن القرار المفسر لنص الدستور .
فى مثل هذه الحالة يكون هناك قرار تفسيرى قد صدر عن المحكمة الدستورية فى إحدى طلبات التفسير المباشر لنص الدستور ، ثم عرض عليها طلب مماثل لما سبق وإن فصلت فيه بقرار تفسيرى نهائى وبات ، وإرتأت المحكمة الدستورية أن تصدر قرارا تفسيريا مغايرا لما سبق أن قررت به فى ذات النص الدستورى ، فهل نذهب الى القول بأن المحكمة الدستورية وإن كانت فى أعلى مراتب السلم القضائى ، الا إنها من جانب آخر سلطة حكم من درجة واحدة ، بما يمكن أن يؤدى ذلك الى القول بجواز عدولها عما إتخذته من أحكام وقرارات تفسيرية سابقة فى ذات النص الدستورى المعروضة بشأنه المنازعة الدستورية المطروحة عليها ؟
فإن سلمنا جدلا بصحة هذا الإتجاه بجواز عدول المحكمة الدستورية عن سابق أحكامها وقراراتها التفسيرية التى أصدرتها وحازت قوة الشئ المقضى به وأثره ، فإننا نطرح السؤال مرة أخرى ، حول مصير ما رتبت عليه سلطات الدولة كنتيجة لإلتزامها بالقرارا التفسيرى المباشر السابق لنص الدستور الصادر عن المحكمة المحكمة الدستورية ، وبنت عليه هذه السلطات مؤسساتها الدستورية ورتبت عليه آثاره البنيوية فى هياكل الدولة وسياساتها ؟ بل والأبعد من ذلك حين يطرح السؤال من جانب آخر حول مدى إستقرار القواعد الدستورية ومبادئه التى تحورها القرارات التفسيرية للمحكمة الدستورية فى كل مرة تعدل عما سبق أن فسرته وعلى نحو يثير إضطراب المبادئ الدستورية وتضاربها ؟
لكل ما سبق لا نرى وجاهة لرأى جواز عدول المحكمة الدستورية عن قراراتها التفسيرية لنص الدستور ، لما سبق أن بيناه ، بالإضافة الى ما يؤدى له عدول المحكمة الدستورية عن سابق تقريراتها من إنزلاق تحوير وتعديل نصوص الدستور بما يؤدى الى خروجها عن ولايتها المنصوص عليها فى الدساتير التى تنظم الرقابة الدستورية لا على أساس تغول القضاء المختص بها وإنما على مبدأ حراسة الدستور وصونه .
ولا يغير من هذا ما نص عليه المشرع الليبى فى قانون المحكمة العليا رقم : 6 لسنة 1982 بنص المادة : 23 عل أنه : ” تختص المحكمة العليا دون غيرها منعقدة بدوائرها المجتمعة برئاسة رئيسها أو من يقوم مقامه بالفصل فى المسائل الآتية : ـ
……………………………….خامسا : ـ العدول عن مبدأ قانونى قررته أحكام سابقة بناء على إحالة الدعوى من إحدى دوائر المحكمة . ”
والعدول المقرر بهذا النص إنما يتعلق بالأحكام السابقة الصادرة عن الدوائر الأخرى بالمحكمة العليا والتى ليس من إختصاصها النظر فى المنازعات الدستورية ، ولما كانت الدوائر مجتمعة هى المختصة بالنظر فى المنازعات الدستورية ، بالإضافة لما لها من إختصاصات محددة بالنص المشار اليه ، ولم يقرر المشرع فى قانون المحكمة العليا سلطة عدول هذه الدوائر المجتمعة فيما أصدرته من أحكام وقررات فيما أختصها بنظره والفصل فيه ، وبالتالى لا أرى حتى فى ظل قانون المحكمة الليبية جوازا لعدول المحكمة الدستورية الممثلة فى القانون الليبى بالدوائر المجتمعة للمحكمة العليا عن حكم تفسيرى للدستور سابق صدوره عنها .
المراجع
5
1 ـ القانون الدستورى د : إسماعيل مرزة
دراسة مقارنة للدستور الليبى ودساتير الدول العربية
منشورات الجامعة الليبية 1969
2 ـ الكتاب السنوى المجلد 5 د : عصام سليمان
رئيس المجلسالدستورى
المجلس الدستورىلبنانى
ثقافة العدالة الدستورية
3 ـ قراءة قانونية فى موضوع الإحالة د : إبراهيم الحمود للمحكة الدستورية . كلية الحقوق جامعة الكويت
4 ـ العدالة الدستورية فى النظام القانونى أ : عادل بن عبدالله
الجزائرى / مجلة الإجتهاد القضائى
العدد الرابع
5 ـ أصول القانون د : عبد المنعم فرج الصدة
الدساتير والقوانين والوثائق والأحكام القضائية
1 ـ الدساتير العربية من مواقعها الرسمية
2 ـ المذكرة التفسيرية لدستور مملكة البحرين / 2002
3 ـ قانون المحكمة العليا الليبية
4 قانون المحكمة الدستورية العليا لجمهورية مصر العربية
5 ـ من أحكام المحكمة الدستورية العليا المصرية / موقع المحكمة
6 ـ من أحكام المحكمة الدستورية العليا الك
اترك تعليقاً