مقال قانوني حول جرائم انتهاك احكام القانون الدولي و مسؤولية الدولة
للأستاذ : زهير كاظم عبود
في العديد من الحالات التي ترتكب فيها الدولة جريمة أو تحدث ضررا للفرد ، فأن فأن القانون الدولي هو الذي يحكم معيار الفعل الجرمي والضرر ، وغالبا ما يلجأ الأفراد الى القانون الدولي في حال وجود الأشخاص المتمسكين بالسلطة في الحكم ، حيث يشكل وجودهم في السلطة مانعا وعائقا يمنع مقاضاتهم أو تحميلهم التعويضات والأحكام المقررة ، كما من غير الممكن تطبيق القانون الدولي من قبل القضاء الوطني ، أو أن يقوم القضاء الوطني بالأحالة الى القضاء الدولي ضمن تلك الظروف التي تمنع أقامة الدعوى .
يقسم الفقه الجنائي الدولي الجرائم التي ترتكبها الدولة الى نوعين ، الأول ما يرتكبه بعض الأفراد أثناء توليهم المسؤولية في تلك الدولة ، والثاني ماتقوم به الدولة من جرائم جراء سياستها تجاه جماعة من ابناء شعبها لإهلاكهم كليا أو جزئيا أو العمل على ابادتهم وترويعهم وتعذيبهم واستعمال الأساليب والوسائل غير القانونية التي تدخل في باب الجرائم ،أو ضد ابناء شعوب أخرى ، ومنها جرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحروب .
كما إن هناك ثمة اتفاقيات ومعاهدات ملزمة للدول ، و هذا الإلزام ينسحب على التزامها في عدم استعمال الأسلحة المحرمة دوليا على سبيل المثال لاالحصر ، ولهذا فأن الدولة المخالفة لهذه الاتفاقيات والمعاهدات لاتقع ضمن دائرة الإدانة القانونية فحسب ، بل تخضع في مسؤوليتها المدنية الى تعويض الضحايا وورثتهم ، ولهذا تلتزم الدولة ككيان قانوني بتعويض المتضررين ،وتكون مسؤوليتها مسؤولية مباشرة في تحمل الفعل في حال أتباع سياسة من شأنها أحداث جريمة أو أضرار بحق الأفراد ، غير أنها تكون مسؤولية بشكل غير مباشر في حال ارتكاب الأفراد تلك الجرائم أثناء توليهم المسؤوليات في الدولة .
وفي كل الأحوال فأن مسؤولية الدولة مسؤولية مدنية بالنظر لكون الدولة شخص معنوي اعتباري لايمكن إنزال العقوبات المادية التي تقع على الأفراد عليها ، فيتم مسائلة الدولة ايضا عن الأضرار التي تنتج جراء الأفعال العدوانية والجرائم التي حددها القانون الدولي .
وحيث لايمكن أيقاع المسؤولية الجنائية على الدولة التي تقوم على فكرة الشخص المعنوي ، وهي شخص غير حقيقي ، و لإن العقوبات في كل الأحوال تقع على الأشخاص الذين تمت إدانتهم بارتكاب الفعل الإجرامي ، وثمة من يقول إن تحميل الدولة تلك التعويضات لايمت للواقع بشيء حيث لم تكن للدولة أية ارادة في ارتكاب الفعل الضار ، وبالتالي فهي تتحمل فعل لم تقم به أصلا ، وانما تم ارتكابه من قبل اشخاص يمتلكون الأرادة والتصميم ، ومن الأجدر تحميل هؤلاء مسؤولية الجرائم والأفعال الضارة ، الا انه لايمكن ايقاع الجزاء كالإعدام والسجن والحبس على الدولة ، وان العقوبة بالغرامة أو التعويض ستنسحب على الشعب الذي لم يكن له اية علاقة بهذه الجرائم ، بل قد تكون جماهير الشعب ممن لايتقبل هذه الأفعال ويقاومها ويناضل بالضد منها ، وبالتالي فأن عقوبة الأعدام والحبس والسجن والغرامة ينبغي إن تقع على الفاعل الأصلي الذي انتهك القانون الدولي والإنساني ، وان الاتجاه السائد في الفقه الجنائي الدولي أن يتم اسناد المسؤولية على الأشخاص الطبيعيين وليس على الدولة .
وحيث إن الدولة شخص من شخوص القانون الدولي فأن المسؤولية هنا تقع حتما على الأفراد الذين ارتكبوا تلك الإفعال التي جرمتها القوانين والمعاهدات ، بالأضافة الى ما تتحمله الدولة من تعويض الأضرار الناتجة من فعل الأفراد الذين كانوا يمثلون الدولة ، أو كانوا في السلطة عند حدوث الضرر .
وقد اولى القانون الدولي اهتماما خاصا بجرائم الأبادة الجماعية التي روعت البشرية في الفترة الأخيرة ، وطبقا للأتفاقية الدولية المؤرخة في 9 كانون الأول – ديسمبر 1948 ، وضعت الأسس والنصوص التي تعاقب مرتكبي هذا الفعل الأجرامي ، كما نصت اتفاقية جنيف المؤرخة في 12 آب 1949 على جرائم الحرب ، ومثل ذلك جاءت نصوص الأتفاقية التي منعت الجرائم ضد الإنسانية ، ولهذا جاءت النصوص التي تؤكد على عدم اعتبار تلك الجرائم من الجرائم السياسية ، فمثل هذه الجرائم البشعة ضد الجنس البشري لايمكن إن تنضوي تحت غطاء العمل السياسي ، كما أنها سحبت غطاء التقادم المسقط أو الحماية التي تضفيها الدساتير والقرارات على المسؤولين المتهمين بهذه الجرائم ، من خلال الحصانة والقرارات التي تمنع محاسبتهم أو محاكمتهم ، بالأضافة الى التأكيد على عدم جواز منح المتهمين بهذه الأفعال الحماية واللجوء في الدول التي تحترم حقوق الانسان والقانون الجنائي الدولي ، على عكس ما يحدث في منطقتنا العربية من خرق للأتفاقيات والمعاهدات الدولية حيث يتم السماح للمتهمين باللجوء الى دول معينة لأسباب مالية أو سياسية أو طائفية .
المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات يرتكز على صفة الالزام التي تقوم عليها ، وتظهر تلك الالتزامات عند تنفيذ بنود الأتفاقية ، أو عند خرق نصوص تلك الأتفاقيات حيث يعد الفعل غير مشروع ويرتب المسؤولية الدولية ، والمسؤولية في هذا الحال أصلا تنشأ من الفعل الخاطيء الذي عده القانون الدولي انتهاكا خطيرا يدعو الى معاقبة مرتكبيه وأصلاح ما حصل من أضرار ، غير أنه في أحيان كثيرة يصعب أعادة الحال عند قيام الدولة بأزهاق الأرواح ، كما إن التعويضات لاتعني العقوبة بأي حال من الأحوال .
حيث أن الأتفاقيات الدولية وخصوصا أتفاقية جنيف خاطبت الدول لتضمين قوانينها العقابية نصوصا تعاقب مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الأبادة الجماعية وجرائم الحروب ، بما فيها القتل والنفي والأبعاد القسري والحرمان الشديد واخذ الرهائن وقتل الأسرى وغيرها ، وأن تكون تلك النصوص التي يعاقب عليها القانون الجنائي الدولي نصوصا وطنية ، ولاسمو للقانون الدولي على الوطني في حال التطبيق ، اما في حال الأحالة على المحكمة الجنائية الدولية فأن الأمر يعتبر اكمالا لدور المحاكم الوطنية في أنجاز المحاكمات بحق مرتكبي تلك الجرائم .
ولهذا فأن العلاقة تقوم وفقا للقانون الدولي بين الدولة وبين المجني عليهم المتضررين جراء افعالها العدوانية التي جرمها القانون الدولي ، وهذه العلاقة تحكمها أقليمية القانون بالأضافة الى تطبيق الاحكام العامة للقانون الجنائي ، وعليه فأن مبدأ قانونية الجرائم والعقوبة يجد اثره من خلال التزام تلك الدول بهذه الأتفاقيات والمعاهدات ، كما تؤكد الشرائع الدينية التي تقر بها الدولة من خلال التزامها الدستوري ، بأن الأفعال التي ارتكبتها الدولة بحق المجني عليهم تشكل جسامة الجريمة ووحشيتها تعريضا للجنس البشري وانتهاكا للحياة الإنسانية وخرقا فاضحا لمسؤوليتها في الحفاظ على حياة المواطن ، حيث تدعو تلك الديانات الى تجريم الفاعل ومعاقبة المرتكب وفقا لجسامة الفعل الأجرامي .
وحسنا فعل المشرع الجنائي الدولي حين تحوط الى مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي على الماضي ، حيث إن الجريمة تخضع الى القانون الذي وقعت في زمانه ، الا إن الجرائم المستمرة تمتد لتدرك نفاذ القانون لتقع تحت سلطان القوانين الجديدة ، كما إن القوانين لاتحمي المجرمين أنما جاءت لتمنع الجريمة وتعاقب الجاني ، ولهذا لم يكن بأمكان المجرمين في قضايا الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الأبادة الجماعية وجرائم الحرب التمسك بتطبيق مبدأ عدم رجعية القوانين ، ومن حق المشرع إن يخالف المبدأ فيخضع تلك الجرائم للمحاسبة تطبيقا للعدالة .
وإذا كانت الجريمة بشكلها العام ظاهرة أجتماعية خطرة ، فهي تعني تهديد العلاقات الأجتماعية بسلوك جرمه القانون وهو سلوك غير مشروع ، ولهذا فأن اركان الجريمة تتوفر ضمن تلك الجرائم التي جرمها القانون الدولي ، في ركنيها المادي والمعنوي ، وكما يتوفر فيها القصد الجنائي ، والعقوبات التي تقع على الأفراد الذين ارتكبوا تلك الجرائم بأسم الدولة ، أو اثناء توليهم المسؤولية في الدولة تمثل حالة الردع والأجراء المادي الذي يوقعه القانون على الجاني يجسد ذلك .
وظهرت مسؤولية الدولة تجاه الأفراد عن الجرائم المرتكبة في القانون الدولي بشكلها الواضح في جرائم النازية بعد الحرب العالمية الثانية ، وبرزت بشكل اكثر وضوحا في الجرائم الناتجة عن الأفعال الخاطئة بحق الأفراد أو التي ترتكبها الدولة عن الإفعال الأجرامية العمدية التي ترتكبها الدولة بحق الافراد ، والتي تمس وتهدد الجنس البشري وتمس المصالح الأساسية للمجتمع الدولي وترتقي الى مستوى الجريمة الجنائية الدولية .
ولعل الأحكام الصادرة من المحكمة الجنائية العراقية الأولى والثانية في قضيتي الدجيل والأنفال تشيران الى حق ورثة الضحايا والمتضررين عن الجرائم التي لحقت بهم و المطالبة بحقوقهم القانونية أمام المحاكم المدنية ، تجسد هذا الحق وتبرز مسؤولية المجرمين من خلال الأفعال التي تدخل ضمن جرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وأنتهاك القانون ، وهي جميعها من الجرائم التي تدخل ضمن أحكام الفقرة ثانيا من المادة الأولى من قانون المحكمة ، ولذا فهي تقع ضمن اختصاص تلك المحكمة قانونا .
وبالرغم من قيام المحاكم الجنائية الدولية ودورها في محاكمة مرتكبي جرائم الأبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ، الا إن هذا الامر لايتقاطع مع أختصاص المحاكم الوطنية ولايخل بدورها في تلك المحاكمات ، مالم يجنح القضاء الوطني الى اللجوء للمحاكم الجنائية الدولية لأسباب حددتها الأتفاقيات حصرا .
ومن خلال التجارب الدولية في محاسبة مرتكبي مثل تلك الجرائم ، فأن المسؤولية الجنائية تقع على الأفراد ممن ثبت ارتكابهم لتلك الأعمال البربرية ، حيث لايمكن تحميل الدولة المسؤولية الجنائية بأعتبارها شخصا معنويا ، غير إن الأمر لايلغي تحملها المسؤولية المدنية في تعويض المتضررين من تلك الأفعال .
اترك تعليقاً