أدلة شرعية القرينة المادية في الفقه الاسلامى
1- القرآن الكريم :
وردت أكثر من قرينة مادية في قصة سيدنا يوسف عليه السلام منها :
أ-ما جاء بشأن ” تلوث قميص يوسف عليه السلام بدماء كاذبة ” بإدعاء أن الذئب أكلهُ ، قال تعالى : ” قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ” [1].
وتدلُ هذه الآية الكريمة على أن يعقوب والد يوسف عليهما السلام لم يقتنع بما إدعاه إخوة يوسف من افتراس الذئب له بعد ما فحص قميصه الذي ُقدم له كأثر للجريمة ، وخلصُ من ذلك إلى أنه لو كان الذئب قد أكله لتمزق القميص ، ولكنه لم يجد شيئاً ، فسلامة القميص من أي تمزيق دليل مادي على كذب إدعاء إخوته ، وأشار المفسرون إلى أن هذه الآية يؤخذ منها الحكم بالأدلة المادية[2].
ب-قميص يوسف عليه السلام دليل مادي على براءته من الشروع في جريمة اغتصاب امرأة العزيز ، قال تعالى ” وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”[3].
فهذه الآيات الكريمة تدل على أن الشاهد قد استدل بدليل ( ُقدَّ القميص من ُقبل أو ُدبر ) على صدق أحدهما وكذب الآخر ، وقد قص القرآن الكريم هذا الحكم على سبيل التقرير لا الإنكار ، فدل على جواز القضاء بالدليل المادى ، وهذا الدليل هنا هو القميص الذي من المنطقي أن ُيشَق من الخلف إن كانت هي الطالبة له ، وكان هو الهارب منها ، وقد تبين من المعاينة والفحص أن الثوب قد تمزق من الخلف ، مما أثبت صدق يوسف عليه السلام وكذب زوجة العزيز ، وقال رجل من أصحاب العزيز ليوسف ” أعرض عن هذا ” أي أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد ، وقال لزوجة العزيز استغفري لذنبك إنك ارتكبتِ معصية فكنتِ من الخاطئين[4].
وقد كان لقميص يوسف عليه السلام دور كدليل إدانة ودليل براءة ، وكان ُبشرى لوالد يوسف عليه السلام لرد بصره.
2- فى السنة النبوية :
وفى أحكام الرسول عليه الصلاة والسلام الاستناد إلى الدليل المادي منها :
ما روى عن صالح بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال : ” بينما أنا واقف في الصف يوم بدر ، نظرت عن يميني فإذا بُغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منهما ، فغمزنى أحدهما ، فقال: يا عم ، هل تعرف أبا جهل؟ فقلت نعم ما حاجتك إليه يا إبن أخى ؟ قال : ُأخبرت أنه َيسُب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوداى سوداه حتى يموت الأعجل منا ( أى الأقرب أجلاً ) فتعجبت لذلك ، فغمزنى الآخر فقال لي مثلها ، قال : لم أنسب أن نظرت إلى أبى جهل يزول فى الناس ، قلت ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتمانى ، فابتدراه بسيفهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال : ( أيكما قتــله ؟ ) قال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال هل مسحتما سيفكما ؟ قالا : لا فنظر إلى السيفين فقال : كلاكما قتله[5].
وفى هذا النموذج نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يستند إلى الدليل المادى المتمثل فى تلوث سيفيهما بالدم فى الحكم باشتراكهما فى قتل أبى جهل ، حيث قال لهما ( كلاكمـا قتله ) ، وبذلك فقد ظهر بمجرد تلوث السيف بالدم بأنه دلالة على القتل[6].فيكون من باب أولى الاستناد إلى الدليل المادى فى ظل ما أتاحه العلم من بحوث علمية فى مجال تحديد ماهية آثار الدماء ، ومدى نسبتها إلى المشتبه فيهم أو المجنى عليه ، بجانب إمكانية تحديد الأداة المستخدمة فى الجريمة أو غير ذلك من آثار الجريمة ، أو آثار مادية إن لم َتكن هى وحدها الدليل على ثبوت ارتكاب الجانى للجريمة ، فإنها تكون أيضاً مؤكدة أو نافية لوسيلتى الإقرار والشهادة[7].
3- فى عمل الصحابة :
من نماذج اجتهادات الصحابة للعمل بالدليل المادى ما يلى :
أ-قال جعفر بن محمد أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بامرأة تعلقت بشاب من الأنصار وكانت تهواه ، فلما لم يساعدها إحتالت عليه ، فأخذت ” بيضة ” فألقت صفارها ، وصبت البياض على ثوبها وبين فخذها ، ثم جاءت إلى عمر صارخة ، فقالت : هذا الرجل غلبنى على نفسى ، وفضحنى فى أهلى وهذا أثر فعله ، فسأل عمر النساء فقلن له إن بينها وثوبها أثر المنى ، فهم بعقوبة الشاب فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت فى أمرى فوالله ما أتيت فاحشة وما هممتُ بها ، فلقد راودتنى عن نفسى فاعتصمت ، فقال عمر: يا أبا الحسن ( على بن أبى طالب ) ما ترى فى أمرهما ؟ ، فنظر “على” إلى ما على الثوب ثم دعا بماء حار شديد الغليان ، فصب على الثوب فجمد ذلك البياض ، ثم أخذه واشتمه وذاقه ، فعرف طعم البياض وزجر المرأة فاعترفت[8].
ب-وقول ابن القيم يشبه ما ذكره الخرقى وغيره عن أحمد : أنه إذا ادعت المرأة أن زوجها عنين ، وأنكر ذلك وهى ثيب فإنه يخلى معها فى بيت ، ويقال له اخرج ماءك على شيىء ، فاذا ادعت أنه ليس بمنى جعل على النار ، فان ذاب فهو منى ، وبطل قولها ، وهذا حكم بالأمارات الظاهرة ، فإن المنى إذا ُجعل على النار ذاب واضمحل ، وإن كان بياض بيض تجمع ويبس[9].
ج-ومن أقضية على بن أبى طالب رضى الله عنه : أن المضروب ادعى انه أخرس وأمر أن يخرج لسانه وينخس بإبرة ، فان خرج الدم فهو صحيح اللسان ، وإن خرج أسود فهو أخرس[10].
وُتشير هذه الوقائع إلى إجراء فحوصات فنية فى حدود إمكانات هذا العصر ، الأمر الذى يؤكد ويقطع بأهمية وشرعية الخبرة وكشف الدليل المادى والتحقق منه ، فهذه نماذج للاعتماد على الدليل المادى فى الإثبات الجنائى فى الفقه الشرعى.
[1] سورة يوسف ، الآيتان 17 ، 18.
[2] القرطبى ، الجامع لأحكام القرآن ، للإمام أبى عبدالله محمد بن أحمد الانصارى القرطبى ، المتوفى 761هـ ، صححه الشيخ سمير البخاري ، الطبعة الأولى ، ج9 ، دار إحياء التراث العربي ، ، بيروت ، 1995 ،ص 149 ، 150 ، أحكام القرآن ، للقاضي أبى بكر المعروف “بابن العربي الأندلسى المالكي” ، المتوفى في 524 هـ ، تحقيق على البجاوى ، عيسى البابى الحلبي ، ط1 ، ج3 القاهرة 1957 م ، ص 1065.
[3] سورة يوسف ، الآيتان 25 – 28 .
[4] القرطبى ، الجامع لأحكام القرآن ، مرجع سابق ، ج9 ، ص 17 ، وابن العربي ، أحكام القرآن ، مرجع سابق ، ج3 ، ص1071 ، 1073 ، الإمام ابن القيم الجوزيه ، زاد الميعاد فى هدى خير العباد ، المتوفى عام 751 هـ ، تحقيق الشيخ شعيب الارناؤط وعبد القادر الارناؤوط ، ط3 ، ج3 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1998م ، ص 135 .
[5] متفق عليه ، رواه البخارى ومسلم ، صحيح البخارى ، تحقيق د.مصطفى البغا ، ط 5 ، ج3 ، دار ابن كثير واليمامة ، دمشق وبيروت ، 1993م، ص1114 رقم 2972 ، وصحيح مسلم ، ج 3 ، ص 1372 ، رقم 1752 ، فى كتاب الجهاد والسير ، باب استحقاق سلب القتيل.
[6] ابن القيم الجوزية ، الطــرق الحكمية فى السياسة الشرعيـة ، تحقيق بشير عيـون ، ص87 ، وقــال ” إعتبر العلامة فى السيف وظهر أثر الدم فى الحكم بالسلب لأحد المتداعين ونزل الأثر منزلة بينة “.
[7] د.أحمد أبو القاسم، الدليل الجنائى المادى ، مرجع سابق ، ج 2 ، ص 235 .
[8] ابن القيم الجوزية ، الطرق الحكمية ، مرجع سابق ، ص44.
[9] ابن القيم الجوزية ، الطرق الحكمية ، مرجع سابق ، ص44 ، 45 .
[10] ابن القيم الجوزية ، الطرق الحكمية ، مرجع سابق ، ص44 ، 45.
اترك تعليقاً