عقد القسمة العرفي : هل يجوز طلب الحكم بصحته تمهيدًا لتسجيله ؟
– تقاسم شركاء في عقار موروث واختص كل واحد منهم بنصيب معين مفروز، وحرروا بما اتفقوا عليه عقد قسمة لم ينصوا في أحد بنوده على وجوب وضعه في صيغة عقد نهائي يصدق عليه أمام أية محكمة من المحاكم، ثم رأى بعض المتقاسمين الخروج على ما تراضوا عليه من القسمة، فاضطر من يريد منهم نفاذ هذا العقد إلى أن يلجأ إلى القضاء طالبًا الحكم له بإثبات صحة العقد توطئة لتسجيله، ومحل البحث هو ما إذا كان هذا الطلب جائزًا أم غير جائز.
– وللبحث في هذا الموضوع يجب أن نتناول الكلام في المسائل الآتية:
أولاً: إن عقد القسمة العرفي حرر في هذه الحالة لا على أن يسجل وإنما قصد به قسمة العقار قسمة مهايأة وأنه يمكن التحرر منه حتى بعد الاعتراف به أمام القضاء.
ثانيًا: ليس من الضروري تسجيل عقد القسمة الحاصلة بين الورثة عن حق موروث.
ثالثًا: إن الطريق القانوني في موضوع القسمة ليس هو رفع دعوى بطلب الحكم بصحة عقد عرفي حصل بشأنها وإنما يجب الالتجاء إلى الإجراءات التي نص عليها القانون وتتلخص فيما يلي:
( أ ) رفع دعوى قسمة أمام المحكمة الجزئية الأهلية (مواد 454 – 458 من القانون المدني).
(ب) رفع دعوى بيع لعدم إمكان القسمة (مادة 626 من قانون المرافعات).
(جـ) الالتجاء إلى المجلس الحسبي لإجراء القسمة بمعرفته إذا كان بين المتقاسمين قاصر ليس له ولي (الفقرة السادسة من المادة 21 من قانون ترتيب المجالس الحسبية).
– والآن نتكلم على كل مسألة من هذه المسائل، مراعين إيراد ما يؤيد وجهة نظرنا ومناقشة ما يحتمل توجيهه ضدها:
– المسألة الأولى:
– اعتاد المتعاقدون منذ صدور قانون التسجيل الجديد وسريان مفعوله أن يحرروا عقدًا تمهيديًا يثبتون فيه ما اتفقوا عليه من تعاقد أو تصرف، ويضمنونه نصًا خاصًا بالتعهد بالحضور أمام المحكمة للتصديق على العقد النهائي، ويكون ذلك بمثابة إعلان من ناحيتهم بأن القصد من التعاقد لم يكن مؤقتًا أو التزامًا شخصيًا غير محتاج للتسجيل، فإذا ما عدل متعاقد منهم عن تنفيذ تعهده هذا طلب المتعهد له إلى المحكمة الحكم بصحة التعاقد تمهيدًا لتسجيله وقيام ذلك مقام العقد المسجل تمامًا، وأظهر ما يكون ذلك في تعهدات البيع والشراء لأنه لا وسيلة إلى تسجيل عقد البيع التمهيدي أو الابتدائي وإنتاج أثره إلا هذه الوسيلة التي ابتكرها شراح القانون المصري وفي مقدمتهم الأستاذ عبد السلام بك ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف.
– ولكننا إذا رجعنا إلى عقد القسمة موضوع هذا البحث يتبين أن المتعاقدين لم يقصدوا أن يكون هذا العقد نهائيًا، ويتبين لنا بالتالي أن نية المتعاقدين لم تكن ترمي إلى أن يكون هذا العقد من العقود واجبة التسجيل، ولم يأتِ فيه المتعاقدون بذكر أي نص يوجب عليهم التصديق على العقد أمام أية جهة قضائية.
– هذه هي نية المتعاقدين كما قلنا، ويؤيد نيتهم هذه:
أولاً: إن مثل هذه القسمة العرفية لها سند في الشرع والقانون.
ثانيًا: أن لا حاجة إلى تسجيل عقد هذه القسمة كما سنبين بالبند التالي، فقد اصطلح فقهاء الشرع والقانون على تسمية مثل هذه القسمة بقسمة المهايأة Partage provisionnel وهي – كما عرفها الأستاذ كامل بك مرسي عميد كلية الحقوق في كتابه (العقود المدنية الصغيرة) بند (188) – التي لا تعمل بالشكل القانوني، ولا يتعدى أثرها المنفعة، وقد قضى قضاء المحاكم بأن مثل هذه القسمة لا يجوز أن تكون أبدية على الصحيح (مثلاً حكم محكمة الاستئناف الأهلية، 20 فبراير سنة 1890، الحقوق، السنة السادسة، صـ 175) وكذلك قضى فقهاء الشريعة الإسلامية أن هذه القسمة (غير لازمة ولو بعد الرضا) وأنه (إذا أباها بعض المستحقين (في الوقف) بعد حصولها جاز نقضها وإبطالها وإن كان قد رضي بها من قبل) (كتاب مباحث الوقف للشيخ محمد زيد بك صـ 31 الطبعة الثانية، وابن عابدين، الجزء الثالث صـ 379) ومن ثم لا يكون لسبق الاعتراف بالقسمة المذكورة أية قيمة ولو حصل ذلك أمام القضاء.
– المسألة الثانية:
– صدر قانون التسجيل الجديد في سنة 1923 مبينًا نظام التسجيل الحديث ومعدلاً للقانون المدني في بعض أحكامه وملغيًا لبعضها الآخر، وإذا رجعنا إلى المادة (16) منه نتبين أنه قضى بإلغاء معظم مواد الباب الثاني من القانون المدني الخاص (بإثبات الحقوق العينية) ولم يبقَ منه إلا بضع مواد منها المادة (610) ونصها: (ملكية العقار والحقوق المتفرعة عنها إذا كانت آيلة بالإرث تثبت في حق كل إنسان بثبوت الوراثة) أي بلا حاجة إلى تسجيلها كما اشترطت ذلك بقية مواد هذا الباب التي ألغيت، وبديهي أن القسمة من ضمن الحقوق المتفرعة عن الملكية العقارية.
– ويستفاد مما تقدم أن في إبقاء قانون التسجيل الجديد للمادة (610) من القانون المدني إباحة صريحة بعدم ضرورة تسجيل عقد القسمة إذا كان خاصًا بعقار موروث.
– ولكننا من ناحية أخرى نرى أن نرجع إلى قانون التسجيل الجديد نفسه لنتبين ما إذا كان متمشيًا مع المادة (610) مدني أم أنه أتى بنص يناقضها أو يلغيها، وبالرجوع إلى المادة الأولى منه نرى أنها توجب تسجيل كل عقد من شأنه إنشاء Constituer حق ملكية أو حق عيني عقاري آخر أو نقله أو تغييره أو زواله، ولما كانت القسمة ليست منشئة للملكية وإنما هي معلنة ومبينة لها déclaratif، فإن تسجيل عقدها ليس بلازم بناءً على ذلك.
– غير أننا إذا انتقلنا إلى المادة الثانية من قانون التسجيل نرى أنها توجب تسجيل العقود والأحكام النهائية المقررة لحقوق الملكية أو الحقوق العينية العقارية الأخرى المشار إليها في المادة الأولى بما فيها القسمة العقارية، وقد يظن لأول وهلة أن هذه المادة مناقضة للمادة (610) مدني التي تظل سارية المفعول بمقتضى قانون التسجيل، ولكننا إذا ميزنا بين أنواع القسمة يتبين لنا أن المادة الثانية من قانون التسجيل لا تلغي بأي حال المادة (610) مدني وأنها أتت للتدارك حالة خاصة وهي القسمة بين الشركاء أي قسمة العقار المملوك على الشيوع بغير طريق الميراث، أما القسمة بين الورثة عن عقار موروث فخاضعة بلا شك لحكم المادة (610) مدني، هذا هو التفسير القانوني المتمشي مع المنطق وإلا لما أبقاها الشارع.
– ويدل على صحة هذا التفسير آراء الشراح وأحكام المحاكم، وها نحن أولاء نلخصها فيما يلي:
( أ ) رأى الأستاذ صليب بك سامي في بحثه الوافي المنشور في مجلة المحاماة السنة الثامنة (صـ 641 – 734) بعنوان (التسجيل – إشهار التصرفات العقارية) فقد قال فيه بعد أن تناول البحث بإفاضة في هذا الموضوع أن من ضمن العقود والأحكام الخاضعة للتسجيل في عهد القانون المدني: عقود قسمة العقارات المشتركة لا الموروثة بمقتضى المادة (610) مدني أهلي ويقابلها المادة (736) مدني مختلط (صـ 655) وأن عقود قسمة العقار بين الورثة والأحكام الصادرة بهذه القسمة لا تحتاج إلى تسجيل (صـ 658) ولما انتقل الأستاذ إلى البحث في هذا الموضوع في عهد قانون التسجيل الجديد قال بصفحة 664 ما يأتي بصريح العبارة:
(لم ينص قانون التسجيل على وجوب إشهار الحقوق الآيلة بالإرث، بل قصر ذلك على (العقود الصادرة بين الأحياء) ولذلك فلا يخضع للتسجيل محاضر حصر التركة، والأحكام الصادرة بتثبيت حق الوارث على العقار الموروث وعقود القسمة بين الورثة والأحكام الصادرة فيها إلخ [(1)]).
(ب) جاء في مقال عنوانه (بحث في نظام التسجيلات العقارية) للأستاذ إلياس روفائيل عياشي المحامي بقسم قضايا المالية ومنشور بمجلة المحاماة السنة الخامسة بصفحة 407 تفسيرًا للمادة الثانية من قانون التسجيل ما يأتي (جاءت المادة الثانية متضمنة وجوب تسجيل الأحكام النهائية المقررة لحقوق الملكية أو الحقوق العينية العقارية، على أن هذا الوجوب على إطلاق نصه لا يسري على ما يتعلق فيها بحق عيني ناشئ عن الوصية أو الوراثة، وبما أن هذه الحقوق نفسها غير خاضعة للتسجيل فيجب كذلك أن يكون الأمر بالنسبة للحكم الذي يصدر مؤيدًا لها شأن الحكم في القسمة الحاصلة بالتراضي عن ميراث هو شأن القسمة التي حصلت بالتراضي بين الورثة فلا يسجل).
(جـ) قضت محكمة الإسكندرية الابتدائية الأهلية في حكم صادر منها بتاريخ 14 يناير سنة 1930 ومنشور بالجريدة القضائية العدد 17 من السنة الثانية صـ 18 بأن عقد القسمة بين الورثة تصرف لا حاجة لتسجيله للاحتجاج به على الغير لأنه لا حاجة لتسجيل الملكية الآيلة بطريق الميراث إذ الملكية تثبت في حق الجميع بمجرد الوفاة وقد ثبتت أحكام محكمة الاستئناف المختلطة على هذا الرأي.
(د) قضت محكمة المنشية الجزئية الأهلية بتاريخ 31 مارس سنة 1931 بأن عقد قسمة المهايأة لا ينشئ إلا حقوقًا شخصية…. (الجريدة القضائية – العدد 32 من السنة الثانية صـ 20) أي إذا كانت هناك مطالبة بحقوق شخصية ناشئة عن شرط جزائي جاء ذكره بالعقد فرضً
(هـ) جاء في أسباب حكم صادر من محكمة استئناف مصر الأهلية بتاريخ 28 مايو سنة 1930 ما يفيد أنه لا يشترط تسجيل عقد قسمة عرفي مؤرخ سنة 915 لصحته (مجلة المحاماة السنة الحادية عشرة صـ 152 رقم 92).
– ورُبَّ سائل يسأل: إذا كانت المادة (610) مدني تتضمن التكلم على إثبات قسمة العقار الموروث، فما هو نص القانون المدني الخاص بإثبات قسمة العقار المملوك عن غير طريق الميراث ؟ والجواب على هذا السؤال يزيدنا يقينًا بعدم الحاجة إلى تسجيل عقد قسمة العقار الموروث حتى بمقتضى قانون التسجيل الجديد، وذلك لأن القانون المدني كان يفرق بين هاتين الحالتين فأتى بنص المادة (610) ولم يفته النص على الحالة الأخرى – حالة إثبات قسمة العقار المملوك بغير طريق الميراث فقضى في المادتين (611) و(612) بأن الحقوق بين الأحياء الآيلة من عقود انتقال الملكية أو الحقوق العينية إلخ تثبت بالتسجيل وأنه يلزم تسجيل الأحكام المتضمنة لبيان تلك الحقوق والعقود المشتملة على قسمة عين العقار Actes contenant un partage d’immeubles en nature أي قسمة العقار الآيل من عقود انتقال الملكية أو الحقوق العينية (كالبيع والرهن إلخ).
وقد حدث أن قانون التسجيل الجديد نقل حكمي المادتين (611) و(612) مدني مع تعديل وتفصيل وإيضاح إلى المادتين الأولى والثانية منه وقضى بإلغاء المادتين (611) و(612) من القانون المدني، وأبقى المادة (610).
– ويستخلص من هذا كله أن (القسمة العقارية) الواردة في المادة الثانية من قانون التسجيل والتي توجب تسجيل عقودها والأحكام المقررة لها لا يقصد بها القسمة بين الورثة في العقار الموروث.
14 – ونرمي بهذا كله إلى أن القانون لا يوجب تسجيل عقد القسمة بين الورثة في العقار الموروث ومن ثم لا يجب أن يلزم أحد المتقاسمين الآخر بتسجيل عقد القسمة ما دام حقه ثابتًا ولا نزاع في نصيبه ولا أن يحمله مصاريف دعواه بلا مبرر أو مسوغ وبالتالي لا يكون له ثمة فائدة أو مصلحة في رفع هذه الدعوى.
– المسألة الثالثة:
– بقي الآن التكلم على الطريق القانوني لفرز وتجنيب حصة وارث في عقار موروث وبتصفح القوانين يتضح أن هناك ثلاث طرق لمثل هذا الفرز والتجنيب.
الطريقة الأولى: رفع دعوى القسمة المنصوص عليها في المواد (454) – (458) من القانون المدني إن كان العقار قابلاً للقسمة لأن المادة (454) تشترط إمكان قسمة الأموال عينًا أما في حالة عدم إمكان القسمة عينًا فقد أحالت المادة (454) منه على الإجراءات الخاصة بذلك والمبينة في قانون المرافعات.
والطريقة الثانية: الالتجاء إلى طلب بيع العقار لعدم إمكان قسمته بغير ضرر بحسب المنصوص عليه في المادة (626) من قانون المرافعات.
والطريقة الثالثة: الالتجاء إلى المجلس الحسبي المختص لإجراء القسمة بالتراضي إن كان بين المتقاسمين قاصر معين عليه وصي (الفقرة السادسة من المادة 21 من قانون ترتيب المجالس الحسبية).
– ويحسن بنا أن نختم هذا البحث بحكم القضاء في الدعوى الخاصة بطلب الحكم بصحة عقد القسمة العرفي إذ عرض هذا الموضوع على محكمة دمياط الجزئية فقضت بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1930 برفض طلب الحكم بصحة عقد قسمة عرفية واستندت في ذلك على أنه لا يجوز الحكم بصحة عقد القسمة العرفي إلا إذا كان تنفيذه ممكنًا.
– ويتلخص هذا البحث في أن عقد القسمة العرفي إذا كان خاصًا بعقار موروث فلا حاجة لتسجيله وبالتالي لا ضرورة لاستصدار حكم بإثبات صحته، أما إذا كان خاصًا بعقار مملوك بين شركاء على الشيوع وعن عقار غير موروث فإنه يتحتم تسجيله ومن ثم فليس هناك من مانع لاستصدار حكم بإثبات صحته.
اترك تعليقاً