أحكام العلامة التجارية المحمية
القاضي محمد عبد طعيس
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
ان البحث في هذه الحماية يقتضي منا ابتداءاً إيضاح ماهية ومفهوم العلامة التجارية المحمية ووضع التوصيف الصحيح لها على ضوء ما تظهر فيه هذه العلامة من صور وأنواع وأشكال ما يقتضيه القانون من شروط لتوفير الحماية لها .
ووجدنا ان الظهور التأريخي للعلامة التجارية يرجعه المؤرخين الى بداية القرون الوسطى عندما استخدمها الرومان لاول مرة في ظل نظام الطوائف لتمييز كل طائفة من الصناع والحرفيين عن سواها وتحديد مدى اتقان وجودة ما ينتجوه من سلع وبضائع ليتسنى تعقب الصانع او المنتج ومحاربة حالات الغش والتقليد التي تجسدت في تلك المرحلة في صورة تحطيم ومصادرة كل سلعة خالية من العلامة المميزة لها , ولكن آفاق تطور العلامة التجارية ودخولها ميدان المنافسة التجارية حصل بشكل ملحوظ بعد قيام الثورة الصناعية نتيجة تعدد وتطور وسائل الانتاج وتنوعها , ومرد ذلك ظهور العديد من العلامات المشهورة مثل علامة كوكا كولا عام 1886 وعلامة كوداك عام 1888 وغيرها .
وبذلك اضحت العلامة التجارية من اهم العناصر المعنوية للمحل التجاري واكثر وسائله فعالية للتعريف عن السلع والمنتجات وضمان عدم التباس المستهلك بشأنها .
وعلى ضوء ذلك عرفت بانها اشارة توسم بها البضائع والسلع والمنتجات تمييزاً لها عما يماثلها من سلع تاجر عن اخر او منتجات من ارباب الصناعات الاخرى , وعرفت بانها اي اشارة ظاهرة يستعملها او يريد اي شخص لتمييز بضائعه او منتجاته او خدماته عن بضائع او منتجات او خدمات غيره , ورغم تعدد مفاهيم العلامة التجارية الا انه يمكن ايجاز مفهومها (بكل ما يميز منتجا سلعة كان ام خدمة عن غيره ) واتضح ان صفة التمييز للعلامة التجارية اكسبتها اهمية تتجاوز حدود قيمتها المادية او المعنوية لتشمل كل ما يؤديه المحل التجاري من وظائف فهي تبرز شخصية الصانع او التاجروتلعب دوراً مهماً في تحديد سمعته في ميدان العمل التجاري كما تعد وسيلة ودليل المستهلك في تحديد المصدر الشخصي والاقليمي للمنتجات والسلع معتمداً على صفة التمييز لتلك السلع و المنتجات , لذلك تعد العلامة التجارية وسيلة للتعبير عن صفات وخصائص السلع والخدمات التي تمثلها وتبين مدى الاتقان والجودة التي اعتاد المستهلك عليها .
الامر الذي يقود الى خلق روح التنافس بين ممتهني النشاط التجاري وتدفعهم الى مزيد من الحرص والابداع في تحسين ما يقدموه للمستهلك والذي يقود بالنتيجة الى انخفاض الاثمان وارتفاع القيمة الحقيقية للنقود وتحقيق جودة عالية للسلع والخدمات المقدمة , وتبين ان دور العلامة التجارية لم يقتصر على خلق حالة من التميز للسلع او الخدمات المسومة بها بل تدخلت بقوة لتلعب دوراً بارزاً في حماية المستهلك من حالات الغش او التضليل بشأن ما يقتنيه من سلع ومنتجات , كانت العلامة التجارية دليله للوصول الى حقيقة تلك البضائع والسلع لما تركته من اثر وانطباع في ذهنه , كل ذلك جعل من العلامة التجارية مصدر ثروة هامة ومؤثرة في النشاط الاقتصادي لما لها من اثر في توسع الانشطة التجارية وتشغيل الايدي العاملة ورفع المستوى المعيشي للسكان اضافة لما تمتلكه من قيمة مادية .
وحيث ان العلامة التجارية هي من نتاج الفكر البشري وحق من حقوق الملكية الفكرية فقد تتشابه مع حقوق اخرى ضمن النشاط التجاري في بعض الصفات الا انها تختلف عنها فيما تؤديه من وظائف ومهام , حيث تشترك مع براءة الاختراع بانهما من الحقوق الفكرية المؤقتة وكل منهما يستند على فكرة الابتكار ويمنحان مالكيها حق الاستغلال والاستئثار الا ان العلامة التجارية هي رمز او اشارة لتمييز السلع والخدمات عما يشابهها بينما تعد براءة الاختراع فكرة ابداعية يتوصل اليها المخترع في اي مجال من مجالات التقنية وتتعلق بمنتج معين او طريقة صنعه او كلاهما وتؤدي الى حل مشكلة في نشاط معين وتقوم على الايجاد والاكتشاف لما هو غير موجود اصلا .
وتشترك العلامة التجارية مع الرسم او النموذج الصناعي بان الاثنين يعدان من وسائل التاجر او المنتج في الترويج عن السلع والخدمات الا ان العلامة رمز لتمييز تلك السلع او الخدمات بينما تعطي الرسوم والنماذج لها رونقاً او شكلاً جميلاً يشد انتباه المستهلك ويجذبه وتكون مظهراً خارجياً للسلع و المنتجات وجزءاً مهماً من مكوناتها .
ويختلف الاسم التجاري عن العلامة التجارية في ارتباط الأول بالجانب الشخصي للصانع والتاجر ومقدم الخدمة هو ليس اكثر من تسمية يطلقها المذكورين على المتجر او على واجهة المحل التجاري او الفواتير او المغلفات للدلالة والتعريف على التاجر او محله التجاري بينما ينصرف نطاق العلامة التجارية الى ذاتية البضائع والسلع الدالة او المميزة لها .
وكذلك الحال بالنسبة للعنوان التجاري الذي يكون بمثابة تسمية مبتكرة يطلقها التاجر على متجره للتعريف به ويشترك مع العلامة بانهما من وسائل التعريف المستخدمة تجارياً الا ان العلامة ترتبط بالسلع او الخدمات وتستخدم لتمييزها عن سواه بينما ينحصر ارتباط العنوان بالمتجر ذاته , وتبين ايضاً ان العلامة التجارية تساهم بصورة وأخرى في الحد من ظاهرة التقليد التجاري كما هو حال البيان التجاري الا انها تختلف عنه في كونها اداة لتمييز السلع والخدمات في حين يناط بالبيان التجاري مهمة تحديد مواصفات السلع والبضائع ومنشأها او طريقة صنعها او انتاجها او العناصر الداخلة في تركيبها او اسم المنتج او المصنع او مقياس ووزن ومقدار تلك المنتجات وتاريخ انتاجها ومكان الانتاج ومد الصلاحية وتاريخ انتهائها .
ووجد ايضاً ان العلامة التجارية تتشابه مع المؤشر الجغرافي في انهما عبارة عن اشارات او رموز للدلالة والتعريف عن ما يقدم للمستهلك الا ان العلامة تستخدم لتمييز السلع والخدمات عما يماثلها لدى الغير بينما يتحدد دور المؤشر الجغرافي في تعيين منشأ سلعة معينة في دولة او اقليم ما وفق ما اضاف لها هذا المنشأ من خواص او صفات كما في استخدام عبارة القطن المصري او البن البرازيلي وغيرها .
واتضح ان العلامة تتشابه مع الرموز الدالة على موقع معين في خدمات الانترنيت في كون الاثنين يستخدمان للدلالة والتعريف عن شيئاً ما الا انهما يختلفان في طبيعة او نوع هذه الدلالة حيث تكون العلامة اشارة لتمييز السلع والخدمات بينما تعتبر خدمات الانترنيت هي خدمات تقدم عبر شبكة ضخمة تجمع عدة شبكات حاسوبية في دول مختلفة ويكون الدخول اليها عن طريق الويب سايت الذي يعد الرمز الدال على موقع معين .
وظهر لنا ان العلامة التجارية تتنوع بتنوع النشاط الذي يمارسه الافراد صناعياً او تجارياً او خدمياً وتتعدد حسب طبيعة الاستعمال وتكون فردية او جماعية او حسب عائديتها الى علامة ملكية او علامة بضائع او وفق نطاق تداولها الى علامة محلية او علامة مشهورة ، وكل الانواع المذكورة تندرج ضمن المفهوم العام للعلامة التجارية وتنطوي تحت نطاق الاحكام القانونية المنظمة لها , مع الاخذ بنظر الاعتبار ان هناك بعض العلامات تقتضي طبيعة استعمالها ومهامها عدم ادراجها ضمن اطار العلامات التجارية مثل علامة الروابط او علامة الضمان او علامة المنشأ التي تستخدم للدلالة على مصدر البضائع وخصائصها وهي مهام العلامة التجارية المتمثلة بايجاد صفة التمييز للسلع والخدمات الموسومة بها .
وتطرقنا الى التأخير غير المبرر في تبني علامة الخدمة وتوفير الحماية لها من قبل المشرع العراقي على خلاف بقية التشريعات رغم اقرار هذه الحماية ضمن احكام اتفاقية باريس لعام 1883 المعدلة التي كان العراق من الدول الموقعة عليها منذ عام 1975 اضافة الى اقرارها في القانون النموذجي للدول العربية بنفس العام , وخلص لنا ان وجود العلامة التجارية لا يتقيد بنوع او شكل او طبيعة العلامة بل بما يقتضيه القانون من شروط لتوفير الحماية لها ويعد في مقدمتها مدى قدرتها على اضفاء صفة التميز للسلع والبضائع والخدمات الممثلة لها وما تحتويه عناصرها من الحداثة والجدة وان تكون العلامة مشروعة وغير مخالفة للقانون والنظام العام والاداب اضافة الى قابليتها للادراك البصري.
واثرنا ما تبناه المشرع العراقي من حكم يقتضي عدم اشتراط الادراك البصري في العلامة التجارية المحمية على خلاف التشريعين المصري و الاردني وما يلحق ذلك من صعوبة بالغة في تمييز ما يقتنيه المستهلك البسيط من سلع وخدمات ويوقعه في اللبس والتضليل بشأنها لاعتماده على حاسة الشم او السمع فقط , وهو امر يتعارض مع الغاية التي من اجلها اقرت العلامة التجارية وهي خلق حالة التميز بين البضائع والسلع الحاملة لها , ووجدنا ان الجواز القانوني في كتابة العلامة التجارية باللغة العربية الى جانب اللغة الاجنبية يفتح الباب لايراد علامات بكلمات ومصطلحات مبهمة وغير مألوفة قد تتعارض مع اذواق المستهلكين وتقاليدهم اضافة الى ما تشكله تلك المصطلحات من مساس بهوية اللغة العربية وطمسها .
واشرنا الى ما وقعت فيه الدول الموقعة على الاتفاقيات الدولية المعنية بالعلامات التجارية من ارباك عند قبولها الاحكام الدولية التي توجب عليها ايداع وتسجيل العلامات التجارية الاجنبية لديها كما هي في بلدانها رغم تعارض تلك الاحكام مع تشريعاتها الوطنية التي تفرض كتابة العلامة باللغة العربية بشكل واضح الى جانب اللغة الاجنبية عند تسجيلها محلياً , الامر جعل تشريعاتها عاجزة عن التصدي للمفردات اللغوية الاجنبية الدخيلة على الواقع الاجتماعي والاقتصادي العربي , مما وجدنا ضرورة تدارك هذا الخلل والالتزام على الاقل في كتابة اللغة العربية الى جانب المفردة الاجنبية عند تسجيلها في البلدان المعنية بتلك اللغة .
ولم نجد ايضاً ما يمنع تسجيل العلامة الثلاثية الابعاد او العلامة المجسمة وكذلك العلامة ذات الرقم الواحد او اللون الواحد اوالحرف الواحد كعلامة تجارية ان توفرت في الصور والأشكال المذكورة حالة التمييز المطلوبة قانوناً على خلاف توجه بعض الاحكام القضائية العربية التي تنظر الى تلك الاشكال بانها فاقدة لصفة التميز وانها ضمن الملك العام المباح للجميع ولايمكن الاستئثار به .
ولدى البحث في ماهية الحماية الممنوحة للعلامة التجارية المشورة فقد وجدنا اقتصار ذلك الحق في نفس النوع من البضائع والخدمات في التشريع العراقي وتجاوز ذلك الى انواع اخرى في التشريعين المصري والاردني تماشياً مع احكام تفاقية التربس 1944 الموقعة من البلدين المذكورين التي اوجبت الحماية للعلامة التجارية المشهورة خارج اطار السلع والخدمات المماثلة او المشابهة ان كان استخدام العلامة من شأنه ان يحمل الغير على الاعتقاد بوجود صلة بين صاحب العلامة المشهورة وتلك السلع والخدمات وان يؤدي هذا الاستخدام الى الحاق الضرر بصاحب العلامة المشهورة .
وقد تبين ان الحق في ملكية العلامة يستند من حيث المبدأ الى واقعة مادية بحتة تتمثل باستعمال العلامة ويعتبر مستعمل العلامة مالكاً لها وان الحصول على هذا الحق لا يحتاج بالضرورة الى تصرف او شكلية معينة لتأييده او اثباته ومتى ثبت الاستعمال بكافة طرق الاثبات فأن صاحب الحق له الاولوية على من سجلت العلامة باسمه ويستطيع شطب هذا التسجيل ضمن الطرق المرسومة والسقوف الزمنية التي تجيز له ذلك .
وتبين ان اساس الحماية المدنية للعلامة التجارية ولاي عنصر من عناصر المحل التجاري يرتكز على احكام المسؤولية التقصيرية او العمل غير المشروع وان خروج المشرع عن نطاق الاحكام في فرض حماية خاصة للعلامة التجارية وتوسع نطاق اجراءات حمايتها في وقف التعدي او ازالة الضرر او نشر الحكم وغيرها لا يخرج اساس هذه الحماية عن اطار المسؤولية التقصيرية مع مراعاة طبيعتها الخاصة التي قد لا تستلزم في كل الاحوال تحقق اركان المسؤولية لاقرار هذه الحماية .
وقد اتضح ان الحماية المدنية للعلامة التجارية تستمد أحكامها بما أفردته التشريعات الدولية من اسس لهذه الحماية وتعد اتفاقية باريس للملكية الصناعية لعام 1883 في مقدمتها ثم اعقبتها اتفاقية التربس للدول المنضمة الى منظمة التجارة العالمية عام 1994 , وان ما ورد في احكام الاتفاقية الاولى من حماية خاصة للعلامة التجارية المشهورة حتى وان لم تكن مسجلة داخل اقليم الدولة المتداولة فيها قد تجسد في رفض طلب او ابطال تسجيل او منع استعمال اي علامة تشكل نسخاً او تقليداً لعلامة ترى السلطة المختصة في الدول انها علامة مشهورة اذا كان استعمال تلك العلامة بصدد منتجات مماثلة أو مشابهة تؤدي الى وقوع المستهلك في اللبس و التضليل بشأنها .
مع الاخذ بنظر الاعتبار ان هذه الحماية مستمدة من واقعة شهرة العلامة وان لم تكن مسجلة وهذه الشهرة لا تشترط التداول والاستعمال لدى البلد المعني بالحماية بل يمكن استخلاصها من المعرفة المتحصلة لدى الجمهور المعني من خلال وسائل الاعلان ومعيار تداول واستعمال تلك العلامة لدى دول اخرى واي سبل اخرى دالة على شهرة هذه العلامة , وان الاتفاقية المذكورة منحت رعايا كل دولة من دول الاتحاد المنضمة لها ومن حكمهم نفس حق الحماية التي تمنحها لمواطنيها فيما يتعلق بحقوق صاحب العلامة التجارية اضافة الى مبدأ اسبقية طلب التسجيل واستقلال العلامات , في حين ما اوردته الاتفاقية الثانية (اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة التربس لعام 1994) من احكام جائت صارمة ومعدلة للتشريعات الوطنية بهدف حماية اصحاب العلامات المشهورة وخلق اسواق عالمية محمية للدول المتقدمة صناعياً وتجارياً على حساب الدول النامية والفقيرة اضافة الى اغفال هذه الاتفاقية مبدأ الاستنفاذ الدولي الذي بمقتضاه يسقط حق صاحب العلامة التجارية في منع الغير من استيراد المنتجات المشمولة بالحماية بمجرد ان تطرح تلك المنتجات للتداول .
مما يؤدي ذلك الاغفال الى طرح السلع والمنتجات باسعار متفاوتة وغير متساوية امام جمور المستهلكين ليس الا لتحقيق لربح لصاحب العلامة التجارية وسلعه المتداولة . ولعل اهم ما تميزت به هذه الاتفاقية انها طورت احكام العلامة المشهورة واخرجتها من اطار المعرفة المتأتية من الاستخدام واجازت استلهام هذه المعرفة بأي وسائل أخرى من بينها شهرة العلامة في نطاق الجمهور المعني وأي ضوابط يمكن الاستدلال منها على شهرة العلامة .
أما صور الحماية المدنية للعلامة التجارية المسجلة والمشهورة لدى التشريعات الوطنية فقد تجسدت في منع تسجيل أو استعمال أي علامة مطابقة أو مشابهة لهما من شأنها أن تخلق حالة اللبس والتضليل لدى المستهلك مع الإشارة إن مفهوم المطابقة لا يعني المطابقة الكلية بل يكفي التطابق الجوهري المانع من التسجيل وهو مفهوم نسبي يقاس بمقدار ما يوقع المستهلك العادي من وهم عند اقتنائه السلع والخدمات ذات العلامات المقلدة وبنفس المال يقاس مقدار الشبه بدرجة المحاكاة الحاصلة بين العلامتين التي تصل إلى حد التقليد مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أوجه الشبه والتقليد تتعدد بتعدد فعل المنافسة غير المشروعة.
الأمر الذي يعني إنها وردت على سبيل المثل ولا يمكن حصرها تشريعاً ولكن لو افلح البعض في تسجيل العلامة المقلدة بأي شكل من الأشكال عندها يمكن لصاحب العلامة المسجلة أو المشهورة أو أي شخص طلب شطب تلك العلامة المسجلة خلافاً للقانون .
وهذا أثار لدينا التساؤل حول إمكانية المستهلك العادي والبسيط ممارسة هذا الحق وطلب إلغاء أي علامة تشكل منافسة غير مشروعة وخلصنا إن المعني أساساً بالحماية هو المستهلك الذي يقع تحت طائلة اللبس والتضليل عند اقتنائه السلع والخدمات المقلدة مما يكون من باب أولى ايلائه هذه الحماية أسوة بصاحب العلامة المسجلة او المشهورة على أن يحدد الوقائع التي يستند عليها عند إيراد ذلك الطلب ولكن الملاحظ أن التشريعات الوطنية عندما أقرت الحماية المدنية اقتصرها في بعض الصور على العلامة المسجلة والمشهورة فقط خاصة فيما يتعلق بطلب اتخاذ الإجراءات التحفظية والاحتياطية رغم إن ضرر المنافسة غير المشروعة وحالات التعدي قد ينصرف ضررها إلى الجميع ولا سيما جمهور المستهلكين مما كان من الأجدر أن يمارس كل من يتعدى إليه الضرر دوره في طلب هذه الحماية بكافة صورها وعدم اقتصار الأمر على طلب إلغاء أو شطب العلامات المنافسة والمسجلة فقط طالما إن أساس الحماية يستند إلى واقعة الاستعمال وما التسجيل والشهرة إلا نتيجة كاشفة لذلك الاستعمال .
وبعد إن تطرقنا إلى ماهية العلامة المحمية وطبيعة الحماية الممنوحة لها كان لابد من بيان الوسيلة المتبعة للحصول على هذه الحماية وهي إقامة دعوى الحماية أمام المحكمة المختصة الأمر الذي اقتضى بيان طبيعة هذه الدعوى ونطاقها وأطرافها وشروط تحقق المسؤولية الموجبة فيها ووجدنا إن هناك لبساً قضائياً بشأن ماهية وصفة من توجه له تلك الدعوى او الخصومة واتضح بأن هذه الخصومة والادعاء لا يقتصر في مواجهة مرتكب فعل التعدي او المنافسة غير المشروعة بل إن القانون أجاز مخاصمة مسجل العلامات التجارية فيما يصدره من قرارات بشأن تلك المنافسة سواء تعلق القرار برفض او قبول تسجيل علامة أو إلغائها وقد توصلنا عند بحثنا في شروط دعوى الحماية إلى تشخيص المعايير المتعارف عليها فقهاً وقضاءاً في تحديد أوجه الشبه والتقليد في العلامات التجارية التي تساعد القضاء في تحديد الخطأ الموجب لإقرار الحماية للعلامة موضوع الادعاء والتي يأتي في مقدمتها الاعتداد بأوجه الشبه بين العلامتين لا بأوجه الاختلاف على اعتبار ان الشبه هو الذي يترسخ بذهن المستهلك ويولد لديه انطباع يقوده الى اللبس والتضليل وكذلك العبرة بالمظهر العام في العلامتين لا بالعناصر الجزئية لأن الشبه والتقليد يتحصل بالمحاكاة الإجمالية التي تظهر الصفات البارزة في العلامة الأصلية بغض النظر عن الجزئيات وان معيار تحديد الشبه المنتج للتضليل هو معيار المستهلك العادي المتوسط في اموره بإعتباره المعيار المتبع في تحديد الخطأ الموجب للمسؤولية بشكل عام ويجب ايضاً عدم النظر إلى العلامتين موضوع المشابهة وهما متجاورتين لتحديد اوجه الشبه والتقليد بل ينظر إليهما الواحدة تلو الأخرى تماشياً مع الواقع العملي الذي يقر بأن المستهلك عندما يباشر شراء السلع والمنتجات لا يصطحب معه العلامة الأصلية لكي يقارنها بما ينوي شرائه بل يعتمد على ما تتركه العلامة الأصلية لديه من انطباع على ضوء مشاهدات سابقة لها .
وظهر لنا إن الحماية المدنية تمنح أحياناً في بعض الحالات لإصحاب العلامات التجارية رغم عدم تحقق الضرر أساساً كما في طلب وقف التعدي أو التصدي للضرر قبل وقوعه أو عند ضبط السلع المقلدة ومستلزمات إنتاجها تحت مبررات افتراض الضرر بحكم القانون واحتمالية وقوعه مستقبلاً وفق الطبيعة الخاصة لهذه الحماية وان البحث عن تحقق أركان المسؤولية الخطأ والضرر والعلامة السببيه لا يكون موجباً إلا عند المطالبة بالتعويض كما هو الحال في سائر الحقوق واتضح أيضاً إن الحماية المدنية قد تكون حماية عادية تمتد من تاريخ تسجيل العلامة ولغاية انتهاء فترة التسجيل.
وقد تكون حماية مؤقتة خاصة تمنح لحماية السلع والبضائع المعروضة في المعارض خارج نطاقها الإقليمي ولمسنا من الأحكام التشريعية المنظمة لهذه الحماية إن الحماية المؤقتة لا تقتصر على ما هو معروض بل إن هناك حماية منحت بدافع استقرار الحقوق والمراكز القانونية لإصحاب العلامات التجارية كما هو الحال عند انتهاء فترة الحماية العادية مع انتهاء اجل تجديد التسجيل وعدم حصول ذلك وان هناك حماية مؤقتة أخرى منحت للعلامات المتروكة أو غير المستعملة بهدف إعطاء فرصة لمالكيها لإستعادتها أو تجديدها وقد أثرنا ما وقع فيه المشرع العراقي من لبس وغموض بشأن فترة الحماية العادية للعلامة التجارية حين التزم الصمت تجاه بدء مدة سريان تلك المدة وطريقة احتسابها من تاريخ التسجيل ام من تاريخ تقديم طلب التسجيل خاصة إن المشروع المذكور قد منح التسجيل بأثر رجعي للعلامة التجارية من تاريخ تقديم الطلب .
وخلصنا إن مدة الحماية العادية البالغة عشر سنوات تبدأ من تاريخ طلب التسجيل خلافاً لبقية التشريعات التي اعتبرت الحماية الممنوحة بأثر رجعي من تاريخ طب التسجيل وإنها بمثابة حماية خاصة لمقدم الطلب حتى يبت بطلبه ولا تندرج ضمن السقف الزمني للحماية العادية ووجدنا إن ما يجمع حق الحماية المدنية للعلامة التجارية مع غيره من حقوق هو إن التشريعات المنظمة قد حددت مواعيد تقادم لذلك الحق إضافة إلى مواعيد أخرى لسقوط الادعاء به خلال سقوف زمنية محددة وقد أثرنا ما وقع من إبهام فيما يعد مدة تقادم أو ما يعرف بمواعيد السقوط وما هو المعيار الفاصل بين الاثنين ؟
ووجدنا إن المعيار الفاصل بين مدد التقادم ومدد لسقوط هو إن الأخيرة يترتب على عدم ممارسة حق الحماية ضمن سقوفها الزمنية سقوط ذلك الحق لأن هذه المدد تعتبر من النظام العام ولا يمكن تجاوزها أو الاتفاق على خلافها كما هو الحال في المدد المحددة لأغراض الطعن في قرار مسجل العلامات التجارية عند رفض أو قبول التسجيل أو شطبه بينما تكون مدد التقادم هي مدد سقوط الادعاء بالحق وليس الحق ذاته ولا تدخل تلك المدد ضمن مكونات الحق أو عناصره بل هي فترة يكون السكوت عن الادعاء بالحق خلالها سكوتاً مسقطاً ومانعاً لسماع الدعوى حماية للأوضاع القانونية المستقرة وهي بمثابة حق مقرر لمصلحة الخصم ويتوقف على تمسكه بها كما هو الحال في دعوى المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصاب صاحب العلامة التجارية أو دعوى الادعاء بملكية العلامة بعد مرور المدة القانونية المحددة لشطب العلامة بسبب تركها أو عدم استعمالها وخلص لنا إن هذه الحماية تتجسد عملياً إبتداءاً بما تصدره المحكمة من قرارات تحفظيه واحتياطية للتصدي لإفعال التعدي وان سلطتها في اتخاذ تلك القرارات قد انتابها اللبس والغموض في طبيعة ما تتخذه من هذه الإجراءات ضمن دعوى مستعجلة أو بناءاً على أمر ولائي الأمر الذي خلق حالة من التفاوت في طبيعة ما تتخذه من إجراءات حماية رغم وحدة الحقوق والذي انعكس على اختلاف طرق الطعن بما يتخذ من إجراءات إضافة إلى إن المشرع قد أوقع نفسه في تناقض عندما اقر اتخاذ الإجراءات التحفظية بناءاً على امر على عريضة الدعوى ثم اوجب على المحكمة ان تتثبت من حصول التعدي على الحقوق محل الحماية أو إن التعدي أصبح وشيكاً قبل اتخاذ القرار التحفظي وبذلك قد خلط بين القرار المستعجل وبين المساس بأصل الحق مع تباعد واختلاف احدهما عن الأخر .
كما لمسنا ان المشرع العراقي قد اغفل وجوب تقديم طالب الإجراء التحفظي كفالة ضمانه قبل اتخاذ الإجراء ضماناً لما يصيب الطرف الأخر من ضرر كما هو الحال في التشريع المصري والأردني الأمر الذي نجد فيه مبالغة في الحماية على حساب من اتخذ ضده الإجراء التحفظي الذي قد يكون ضحية كيد طالب الإجراء التحفظي فما ان تتضح الصورة النهائية بعدم صحة الادعاء فأن من وقع عليه الإجراء التحفظي لا يجد ما يتضمن ما أصابه من ضرر نتيجة ذلك الإجراء التحفظي مما وجدنا ضرورة اقرار التشريع المذكور شرطاً يقضي بتقديم طالب الإجراء التحفظي كفالة ضامنة لحق الطرف الأخر وخصوصاً عندما ينطوي الإجراء على ضبط المنتجات أو السلع او وسائل إنتاجها أو طلب الحجز الاحتياطي عليها وقد أثرنا سبب تقييد المشرع الأردني والعراقي حق طلب اتخاذ الإجراءات التحفظية بمالك العلامة التجارية المسجلة فقط على خلاف المشرع المصري الذي أجاز ذلك الحق لكل ذي شأن ولم نجد في هذا التضييق مبرر سوى احترام الأوضاع القانونية المستقرة لإصحاب العلامات المنافسة وهو ليس بالأمر المقنع إذا أخذنا بنظر الاعتبار إن ضرر الاعتداء على العلامات لا يقتصر على صاحب العلامة المسجلة بل يمتد إلى أفراد المجتمع من المستهلكين وهؤلاء هم المعنيين بالحماية بالدرجة الأساس طالما يكونوا هم ضحية الوهم والتضليل الحاصل من جراء هذا الاعتداء إضافة إلى ذلك ان فعل المنافسة غير المشروع يعد مخالفة للأحكام القانونية الامرة التي تعد من النظام العام لإنصراف هذا الاعتداء بضرره إلى مصالح المجتمع والاقتصاد الوطني الأمر الذي يعطي الحق للجميع للتصدي له مما يعد هذا التضييق في الحماية غير مبرر خاصة ان التشريعات التي ضيقت من صورة هذه الحماية ولم تمنحها للأفراد كانت قد منحت الاخيريين حق طلب شطب العلامات المسجلة خلاف القانون وهي حقوق موضوعية تدخل في صلب الحق بينما حرمت المذكورين (الأفراد) حق طلب اتخاذ الإجراءات التحفظية غير الماسة في أصل الحق من حيث المبدأ العام .
وبعد البحث في أهم اثر لهذه الحماية وهو التعويض والتطرق إلى أساسه وعناصره وكيفية تقديره فقد أثار غرابتنا ما وقع فيه المشرع العراقي من خلل لدى إيراده عناصر جديدة للتعويض تتمثل بتعويض مناسب يعوض خسارة صاحب الحق بسبب التعدي إضافة إلى الأرباح التي جناها المحكوم عليه من جريمته وكأنه بذلك يخلق أسس ومعايير جديدة للتعويض تتنافى مع قواعد العدالة وتتعارض مع أهم أهداف المسؤولية المدنية وهي معادلة التعويض بالضرر إضافة إن إدخاله لعنصر التعويض المتمثل بما حققه المعتدي من أرباح يجعل منه قد اتخذ الخطأ معياره الأساسي لتقدير التعويض وليس عنصر الضرر لصاحب العلامة محل الاعتداء وفق ما استقرت عليه الأحكام العامة للمسؤولية المدنية إضافة لذلك انه ذهب بإتجاه مغاير لقواعد التعويض عند حصر التعويض بالخسارة المادية متجاهلاً ما أصاب المتضرر من أضرار معنوية والتي قد تنعكس بشكل أو بأخر إلى أضرار مادية ملموسة مما كان الأجدر أن تترك مسألة التعويض للقواعد العامة للسمؤولية المدنية كما في سائر الحقوق الأخرى وأسوة بما ذهب إليه كلاً من التشريع المصري والأردني .
أما أخر ما وقع فيه المشرع العراقي من إرباك هو أجازته للمحكمة المختصة إصدار قرارات المصادرة ضمن الإجراءات التحفظية ولو دون تبليغ من صدرت ضده رغم مساس هذه القرارات بالحقوق الموضوعية وكونها تعد من الاحكام الفاصلة في اصل النزاع وكان الاجدر ان يترك تقديرها لما تتخذه المحكمة من احكام فاصلة في الدعوى .
ونخلص ان ما انتاب التشريع العراقي الخاص بالعلامات التجارية من ابهام ونقص قد عولج متأخراً معالجة مشوهه اربكت هذا التشريع وجعلته يناقض بعضه البعض وأوردت فيه أحكاماً دولية لم تكن مقره في العراق بما فيها الأحكام الواردة في اتفاقية التربس ويعود السبب في ذلك ان هذه المعالجة قد جاءت من سلطة الائتلاف المؤقتة وهي جهة بعيدة كل البعد عن الواقع القانوني والاجتماعي والاقتصادي للبلد ، الأمر الذي يستلزم تدخلاً تشريعياً نابعاً عن إرادة وطنية خالصة لتعيد التوازن إلى أحكام هذا القانون بالشكل الذي يرفع عنه أي لبس أو غموض أو تناقض ويحقق الغاية التي شرع من اجلها .
وأخيراً نتمنى أن نكون في هذه البحث قد بلورنا موضوع الحماية المدنية وهو الموضوع المتداخل وأزلنا عنه بعض ما يكتنفه من غموض وتوصلنا إلى نتائج ومقترحات أن تكون أساساً لدراسات مستقبلية أغنى وأعمق ومن الله التوفيق .
اترك تعليقاً