قراءة في مرسوم 10 فبراير 2016 المعدل لقانون العقود و النظرية العامة للإلتزامات و الإثبات
بعد غياب و جمود طويلين عمد المشرع الفرنسي مؤخرا إلى تعديل المقتضيات القانونية للقانون المدني الفرنسي. هذا الأخير الذي يعتبر على رأس القوانين في المجال الخاص «Droit privé»كما ان أهميته تبرز من خلال كونه أوسع من القوانين العربية لأنه يتناول مواد الأحوال الشخصية و الميراث فضلا عن العقود والإلتزامات و الإثبات و غيرها من المواضيع .
هذه المقتضيات التي ستدخل حيز التنفيذ في 1 اكتوبر 2016 . و قد استهدفت التعديلات حوالي 350 مادة و ذلك في سبيل تكريس الأمن القانوني و تطويره و كذا تبسيط القانون و إجراءاته في مجال العدالة والمعاملات الداخلية .
فبناءا على المرسوم الصادر بتاريخ 10 فبراير 2016 أضحت فرنسا تمتلك قانونا جديداو حداثيا في مجال العقود و القواعد العامة للإلتزامات و نظام الإثبات .
و في تصريح للرئيس الفرنسي في معرض حديثه عن دواعي تنزيل هاته المقتضيات أكد أن الهاجس الأول في إقرار هذا المرسوم هو ضمان الأمن القانوني . و ما يميز مقتضيات هذا المرسوم هو مراعاتهلأبرز ما استقرت عليه محكمة النقض الفرنسية في السنوات القليلة الماضية و هو ما يشكل مظهرا من مظاهر الرقي القانوني إذ أن جل التشريعات لا تعتمد في صياغة قوانينها على الملائمة مع ما استقرت عليه الاجتهادات القضائية و هي نقطة قد يستفيد منها المشرع العربي .
أيضا من أبرز ما راهن عليه المشرع الفرنسي من خلال هذا المرسوم هو تقوية تنافسيته مع القوانين المتقدمة عبر مجابهة أعتد القوانين في المجال المدني و الأعمال على غرار التشريع الألماني و الإنجليزي وكذا القانون الأمريكي ( في مجال المقاولات ) .
و إن كنا نثمن هذه التعديلات التي همت القانون المدني إلا أنه في المقابل تطرح مجموعة من المقتضيات الجديدة علامات استفهام حتى أنها أسالت مداد الباحثين القانونيين في فرنسا و اعتبروها إلى حد ما مغامرة ولا تلائم المنطق القانوني الذي جاءت به مدونة نابليون .
وإنطلاقا من مبدأ كل ما لا يدرك كله لا يترك كله سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على أبرز المقتضيات القانونية التي جاء بها المرسوم الجديد و الذي يشكل و بحق حدثا قانونيا تاريخيا. و سنقوم باستعراضها على الشكل التالي :
üمن أهم المجالات التي تأثرت بالتعديل الجديد تلك المتعلقة بمصادر الإلتزامات . حيث تم تغيير تسمية الكتاب الثالث من ” العقود أو الإلتزاماتالإتفاقية بصفة عامة ” إلى ” مصادر الإلتزامات ” .
وفي نفس الإطار و لأول مرة جعل المشرع من الإرادة المنفردة«la volonté unilatérale» مصدرا من مصادر الإلتزام و ذلك بموجب المادة 1101-1 .
Art 1101.1 ‘’ Les actes juridiques sont des manifestations de volonté destinées à produire des effets de droit. Ils peuvent être conventionnels ou unilatéraux.’’
كما كرس هذا المرسوم التمييز التقليدي بين التصرف القانونيacte juridiqueو الواقعة القانونية fait juridiqueو ذلك من خلال المادتين 1100.1 ( سلف استعراضها أعلاه ) و1100.2:
”Les faits juridiques sont des agissements ou des événements auxquels la loi attache des effets de droit.”
إذ نص في المادة الأولى على كون التصرف القانوني هو إتجاهالإرادات إلى إحداث أثر قانوني معين. أما في المادة التي تليه نص على كون الواقعة القانونية هي تلك الأعمال التي يرتب عليها القانون أثرا قانونيا .
في نفس السياق و على خلاف المشرع المغربي عمد المشرع الفرنسي من خلال المرسوم الجديد إلى تعريف مؤسسةالعقدمن خلال المادة 1101،بل الأكثر من ذلك انه تبنى تعريفا متطورا بناءا على ما نادى به الفقه المعاصر. و هو ما يتضح من خلال المقارنة بين نصي المادة 1101 القديم و الجديد:
النصالقديم:‘’Le contrat est une convention par laquelle une ou plusieurs personnes s’obligent, envers une ou plusieurs autres, à donner, à faire ou à ne pas faire quelque chose. ‘’
النصالجديد:‘’Le contrat est un accord de volontés entre deux ou plusieurs personnes destiné à créer, modifier, transmettre ou éteindre des obligations.’’
و بالتالي أضحى العقد هو توافق إرادات بين شخصين أو أكثر لإنشاء، تعديل، نقل أو انهاء الالتزامات.
أيضا من أبرز المستجدات و التي أثارت انتباهي هي التنظيم الجديد و المحكم لمرحلة المفاوضات وأخُص بالذكر ما نصت عليه المادة 1104 من المرسوم الجديد من ضرورة توافر حسن النية في مرحلة التفاوض على العقد و إلى حين تنفيذه.أي أن حسن النية لم يعد مقتصرا على تنفيذ التعهد (العقد ) كما كان منصوصا عليه قبل التعديل و هو ما نجده في التشريع المغربي من خلال نص الفصل 231 من قانون الإلتزامات و العقود ” كل تعهد يجب تنفيذه بحسن نية، وهو لا يلزم بما وقع التصريح به فحسب، بل أيضا بكل ملحقات الإلتزام التي يقررها القانون أو العرف أو الإنصاف ووفق ما تقتضيه طبيعته ” . و عليه فحسن النية أضحى واجبا حتى في مرحلة المفاوضةو التي تسبق إبرام العقد وجعله أيضا مسألة من مسائل النظام العام.و هو ما من شأنه تعزيز الأمن القانوني و ضمان استقرار المعاملات ناهيك عن حساسية هذه المرحلة السابقة للتعاقد.
Art 1104 ‘’ Les contrats doivent être négociés, formés et exécutés de bonne foi.
”Cette disposition est d’ordre public.
كما نص على مسألة حسن النية في إطار المادة 1112 من المرسوم .
Art. 1112’’L’initiative, le déroulement et la rupture des négociations précontractuelles sont libres. Ils doivent impérativement satisfaire aux exigences de la bonne foi.’’
و ما نشير إليه أن هذا الحل القانوني المتمثل في إقرار حسن النية في مرحلة المفاوضة تم بناءه على ما استقرت عليه محكمة النقض بخصوص هذه المسألة و سنعرض لأحد هذه القرارات التي نصت على ذلكبقولها:
La bonne foi est exigée de la part de ceux qui négocient[1]
أيضا في إطار مستجدات القانون الجديد نظم المشرع الفرنسي الإلتزامبالإعلام«Devoir d’information»سواء من حيث حدوده , عبئ إثبات القيام به و كذا الجزاء المطبق في حالة الإخلال بهذا الإلتزام, وذلك بموجب المادة 1112-1 في فقرتها الخامسة .فبالنسبة لحدوده فقد نص المشرع على أنه لا يجوز للأطراف وضع حدود لهذا الإلتزام و لا تقييده , كما لا يحق لهم استبعاده و قد جاء نص الفصل كالاتي :
Art 1112-1 ‘’ les parties ne peuvent ni limiter, ni exclure ce devoir ‘’
أما بخصوص جزاء الإخلال بهذا الإلتزام , فيتمثل في إمكانية بطلان العقد وفق الشروط المنصوص عليها في خانة عيوب الرضا .
Art 1112-1 ‘’ …. Le manquement à ce devoir d’information peut entraîner l’annulation du contrat dans les conditions prévues aux articles 1130 et suivants.’’
أما مسألة عبئ إثبات القيام بهذا الإلتزام فنص المادة 1112-1 على مبدأ عام يتمثل في قيام المتعاقد المتضرر بإثبات أن المتعاقد الأخر كان ملزما بالإعلام , و في المقابل يتعين على هذا الأخير إثبات قيامه بالإلتزام .
Art 1112-1 ‘’ …….
Il incombe à celui qui prétend qu’une information lui était due de prouver que l’autre partie la lui devait, à charge pour cette autre partie de prouver qu’elle l’a fournie. ‘’
كما نص التعديل الجديد على مبدأ الحرية التعاقدية أي أن الشخص حر في إبرام عقد من عدمه, و له أيضا حرية اختيار المتعاقد الذي يرتضي التعاقد معه.
Art. 1102 ’’ Chacun est libre de contracter ou de ne pas contracter, de choisir son cocontractant et de déterminer le contenu et la forme du contrat dans les limites fixées par la loi. ‘’
وباستقرائنا للمواد 1102 – 1103 – 1104 من المرسوم الجديد نجد المشرع يستعرض للمبادئ الأساسية للتعاقدتواليا , و هو ما يشكل تكريسا لأحد الأهداف التي جاء بها هذا المرسوم و المتمثل في إيجاد توازن بين العدالة التعاقدية و مبدأ سلطان الإرادة .
Art 1103 ‘’ Les contrats légalement formés tiennent lieu de loi à ceux qui les ont faits. ‘’
Art. 1104 ’’Les contrats doivent être négociés, formés et exécutés de bonne foi.
Cette disposition est d’ordre public. ‘’
إلا أنه يبقى أبرز مقتضى لحقه التعديل بموجب مرسوم 10 فبراير 2016 هو حذف المشرع الفرنسي لمفهوم السبب كركن من أركان العقد , و بالتالي حذفه من القانون المدني بعدما كان منظما بموجب المواد من 1131 الى 1133 , و ذلك بدعوى تعقيده و كذا إنسجاما مع بعض النظريات التي ترى أن الإعتماد على السبب كركن لقيام العقد يجعله يتداخل من حيث الوظيفة مع ركن آخر و هو المحل , خصوصا عند البحث في مسألة سبب العقد و سبب الإلتزام, إذ يمكننا القول أن هذا المقتضى يشكل انتصارا لنظرية الفقيه الفرنسي بلانيول و الذي يعتبر فيها نظرية السبب التقليدية غير صحيحة وغير ذي فائدة .
فباستقراء المادة 1108 من القانون المدني الفرنسي نجدها تنص على :
”Quatre conditions sont essentielles pour la validité d’une convention :
Le consentement de la partie qui s’oblige ;
Sa capacité de contracter ;
Un objet certain qui forme la matière de l’engagement ;
Une cause licite dans l’obligation.”
ثم نجد المادة 1128 منالمرسوم الجديد تنص على:
Art. 1128 ’’ Sont nécessaires à la validité d’un contrat :
– Le consentement des parties ;
– Leur capacité de contracter ;
– Un contenu licite et certain. ‘’
مما نستخلص معه الإستغناء الصريح من طرف المشرع الفرنسي عن مفهوم السبب كركن من أركان العقد .
و ما يلاحظ أنه بالرغم من حذف السبب كركن للعقد من حيث المبدأ , إلا أنه من خلال اطلاعنا على المرسوم نجد بعض التطبيقات الخاصة به , وسنعرض لمادتين من المرسوم كمثال على ذلك :
Art 1162 ’’ Le contrat ne peut déroger à l’ordre public ni par ses stipulations, ni par son but, que ce dernier ait été connu ou non par toutes les parties. ‘’
Art 1135 ‘’ L’erreur sur un simple motif, étranger aux qualités essentielles de la prestation due ou du cocontractant, n’est pas une cause de nullité, à moins que les parties n’en aient fait expressément un élément déterminant de leur consentement.
« Néanmoins l’erreur sur le motif d’une libéralité, en l’absence duquel son auteur n’aurait pas disposé, est une cause de nullité. ‘’
مما سلف نستشف الحفاظ الضمني للمرسوم على مفهوم السبب و ضرورته لقيام العقد بالرغم من الإلغاء الصريح له , إذ أن المرسوم مليء بتطبيقاته وقد أشرنا لتطبيقين أعلاه على سبيل المثال لا الحصر .
في نفس السياق و على نفس منوال السبب تمت إزالة فكرة المحل أو موضوع العقد l’objet, ليحل محلهما مفهوم جديد و هومضمون العقد le contenu du contrat,إذ اشترط فيه المشرع أن يكون مشروعا و مؤكدا و هو ما يتضح من خلال الفقرة الأخيرة من المادة 1128 ”……..:
Un contenu licite et certain.”
أيضا من المقتضيات التي أثارت نقاشات واسعة في الأوساط القانونية الفرنسية , تلك التي نص عليها المشرع الفرنسي في المادة 1214 من المرسوم و التي تنص على أن تجديد العقد يترتب عنه ميلاد عقد جديد مطابق لما كان يتضمنه العقد السالف لكن لمدة غير محددة و هو ما قد يطرحإشكالات على مستوى الضمان مثلا , لذا كان حريا بالمشرع جعل المدة محددة حفاظا على مبدأ استقرار المعاملات .
Art 1214 ‘.
Le contrat à durée déterminée peut être renouvelé par l’effet de la loi ou par l’accord des parties
Le renouvellement donne naissance à un nouveau contrat dont le contenu est identique au précédent mais dont la durée est indéterminée
من أبرز المستجدات أيضا , نص المادة 1195 و الذي أتى بسلطة جديدة للقاضي المدني في إطار توسيع مجالات تدخله , إذ أضحى القاضي المدني وفقا لنص هذه المادة طرفا ثالثا في العقد يتوسط المتعاقدين , إذ أعطاه المشرع إمكانية مراجعة العقد أو إنهائه و هو ما نلاحظه من خلال الفقرة الثانية من المادة 1195 من المرسوم الجديد .
Art 1195 ‘’ …… A défaut d’accord dans un délai raisonnable, le juge peut, à la demande d’une partie, réviser le contrat ou y mettre fin, à la date et aux conditions qu’il fixe. ‘’
أيضا من جديد التعديلات , ذلك الذي تطرق له الفصل 1143 من المرسوم باعتباره للإكراه الناتج عن الظروف عيبا من عيوب الارادة .
Art 1143 ‘’ Il y a également violence lorsqu’une partie, abusant de l’état de dépendance dans lequel se trouve son cocontractant, obtient de lui un engagement qu’il n’aurait pas souscrit en l’absence d’une telle contrainte et en tire un avantage manifestement excessif. ‘’
و في نفس الإطار تم تنظيم كل من الوعد الملزم لجانب واحد«La promesse unilatérale», وكذا الوعد بالتفضيلLe pacte de préférence»«, بموجب المادتين 1123 و 1124 من المرسوم الجديد.
Art 1123 ‘’ Le pacte de préférence est le contrat par lequel une partie s’engage à proposer prioritairement à son bénéficiaire de traiter avec lui pour le cas où elle déciderait de contracter.
…………….. ‘’
Art 1124 ‘’ La promesse unilatérale est le contrat par lequel une partie, le promettant, accorde à l’autre, le bénéficiaire, le droit d’opter pour la conclusion d’un contrat dont les éléments essentiels sont déterminés, et pour la formation duquel ne manque que le consentement du bénéficiaire.
……………. ‘’
كانت هذه لمحة عن أبرز التعديلات التي همت القانون المدني الفرنسي بموجب مرسوم 10 فبراير 2016 , إلا أنه تنبغي الإشارة إلى غنى هذا المرسوم بالمقتضيات الجديدة و التي قد لا تسعفنا صفحات هذا المقال في استعراضها بالكامل على غرار جعل الدفع بعدم التنفيذ كقاعدة عامة في مجال العقود الملزمة لجانبين و كذا إمكانية تطبيق نظرية الظروف الطارئة و غيرها من المقتضيات المستحدثة .
و من شأن هذه التعديلات أن تفتح آفاقا واسعة في مجال البحث العلمي , كما تشكل إغناءا للخزانة القانونية في المادة المدنية على الصعيد العالمي , نظرا لتأثر جل التشريعات بالنظرية الفرنسية (مدونة نابليون) في صياغة قوانينها و على رأسها المغرب الذي تعتبر جل قوانينه ذات طابع فرنسي.
و نذكر بكون هاته التعديلات ستصبح نافذة اعتبارا من 1 أكتوبر 2016 .
المراجع المعتمدة
§www.courdecassation.fr.
§Ordonnance n° 2016-131 du 10 février 2016 portant réforme du droit des contrats, du régime général et de la preuve des obligations.
§Le Rapport au Président de la République qui accompagne l’ordonnance du 10 février 2016.
§قانون الالتزامات و العقود المغربي.
(Cour de cassation chambre civile 3 Audience publique du mardi 11 septembre 2012 N° de pourvoi: 11-22389)
بقلم د. رجواني كمال
اترك تعليقاً