مقدمة :
يكتسي قطاع الوظيفة العمومية أهمية بالغة خاصة بالنسبة للدول النامية نظرا لاستقطابه لفئات عريضة من الموظفين، كما أن المرفق العمومي له أهميته باعتباره يقدم مصلحة عامة ترتبط بحاجيات المجتمع، وهو ما جعل القانون الدولي يعمل على إقرار حق الموظفين العموميين في التنظيم النقابي وفي ممارسة حق الإضراب، رغم عدم تخصيص أية اتفاقية دولية لموضوع الإضراب كما هو الحال بالنسبة لحق المفاوضة الجماعية والتنظيم النقابي والتمثيلية العمالية.
وإذا كان دستور فرنسا لسنة 1946 أول دستور يعترف بحق الإضراب كحق دستوري، فإن المغرب هو الآخر قد اعترف بالإضراب للموظفين العموميين من خلال أول دستور له سنة 1962[1]، وأمام غياب طال أمده للقانون التنظيمي للإضراب الذي سيحدد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق، نجد الممارسة العملية لهذا الحق قد أفرزت مجموعة من الإشكالات، فبعد أن تم الانتقال بالنقاش من تجريم الإضراب إلى القول بالمشروعية والحسم فيها، صار النقاش اليوم حول نطاق و حدود هذا الحق بما لا يجعل منه حقا مرهقا يؤثر على استمرارية المرفق العام في أداء خدماته.
الأمر الذي جعل الإدارة المغربية وبدعم من القضاء الإداري تفرض مجموعة من الضوابط والإجراءات تهدف من خلالها تنظيم ممارسة الإضراب حتى لا يصطدم واستمرارية المرفق العام، وهو ما يطرح السؤال عن مدى دستورية التدخل الإداري في تنظيم الإضراب، وعن مدى دستورية المراسيم والقرارات والمذكرات الوزارية التي صدرت وتصدر لتقييد ممارسة حق الإضراب، ومن بين هذه الإجراءات طبعا الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين، فمن أين يستمد هذا الإجراء مصدره خاصة إذا علمنا أن الحق الذي يقابله يجد مصدره من الفصل 29 من الدستور المغربي لسنة 2011 ؟.
هي إشكالية سنحاول جاهدين مقاربتها من خلال التقسيم التالي :
المطلب الأول : الاضراب بين الحق الدستوري واستمرارية المرفق العام
المطلب الثاني : أي أساس قانوني للاقتطاع من أجور المضربين
المطلب الأول : الاضراب بين الحق الدستوري واستمرارية المرفق العام
إن الاعتراف الدستوري بحق الإضراب، يجعل هذا الأخير مكتسبا لمناعة دستورية قوية من أي تدخل للإدارة، يهدف إلى المساس بهذا الحق تحث ذريعة ضمان استمرارية المرفق العام في أداء خدماته، فكيف يمكن القول باتصاف الإضراب في نفس الوقت بوصفي الحق الدستوري (الفصل 29 الدستور المغربي) والتغيب غير المشروع عن العمل (الإدارة المغربية).
الفقرة الأولى: الاضراب حق دستوري
قبل الاعتراف الدستوري بالحق في الاضراب كان هذا الأخير ممارسة ممنوعة يعاقب عليها القانون، وقد كان أول دستور يقر بهذا الحق هو الدستور الفرنسي لسنة 1946، وغير بعيد عن ذلك تقرر هذا الحق دستوريا بالمغرب مع أول دستور للمملكة المغربية سنة 1962.
غير أن هذا الحق كان مقررا ولو بشكل ضمني، قبل إقراره من قبل المشرع الدستوري وذلك بموجب ظهير 1946 والذي يشترط ضرورة استنفاد مسطرتي المصالحة والتحكيم قبل اللجوء إلى الإضرب، وظهير 1958 المتعلق بالحريات العامة، الذي لم يمنع ممارسة الإضراب ونفس الشيء بالنسبة للقانون الجنائي، الذي لم يجرم الإضراب رغم تجريمه لبعض الأفعال المصاحبة له كالمس بحرية الشغل[2].
لقد أقرت جميع الدساتير المتعاقبة بما فيها دستور 2011 الحق في الإضراب كحق دستوري يدخل ضمن الحقوق والحريات الأساسية للأفراد وذلك بموجب الفصل 29 منه، وبعد هذا الاعتراف بالإضراب كحق دستوري أصبح يفترض في كل إضراب أنه مشروع كممارسة لحق دستوري وعلى من يريد اتبات العكس أن يثبت التعسف في استعمال هذا الحق.
إلا أن الممارسة العملية لهذا الحق الدستوري و في ظل غياب للقانون التنظيمي، أضعفت لحد ما من قيمة هذا الحق مادام أنه حق نظري لم يرقى إلى مصاف باق الحقوق التي تم تنظيم كيفية ممارستها، بل إن الإدارة وأمام هذا الفراغ صارت تبحث عن إجراءات معينة لتنظيم ممارسته بدعوى محاولة خلق توافق بين الحق في الإضراب والسير العادي للمرافق العامة، إلا أن هناك فرقا كبيرا بين إقرار الحق وبين تنظيم ممارسته، فالتنظيم التشريعي لأي حق من الحقوق لا يعني سوى تحديد الشروط والإجراءات اللازمة لممارسته والتي ليس من شأنها بأي حال من الأحوال أن تمس بطبيعة هذا الحق إلى حد تعطيله.
وإن خير دليل على صعوبة التوفيق بين المصالح المهنية للموظفين المضربين وبين المصلحة العامة التي تقتضي استمرارية المرفق العام في أداء خدماته للجمهور هو عجز السلطة التشريعية ولحد الساعة عن إخراج القانون التنظيمي إلى حيز الوجود.
الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الإدارة لفرض مجموعة من الشروط و الإجراءات التي تتوخى من خلالها تأمين وضمان السير العادي للمرفق العام، وذلك طبعا تحت مراقبة القضاء الإداري، وهو ما يفرض التساؤل حول مدى اعتبار اقتطاع الادارة من أجور المضربين إجراء لتنظيم ممارسة الإضراب أو أن الأمر فقط ذريعة لغرض الحد من الحق في الإضراب ؟
إن كل من المجلس الدستوري بفرنسا ومجلس الدولة الفرنسي لما أعطيا إمكانية وضع شروط وإجراءات لتنظيم ممارسة الحق في الإضراب إنما أرادا من ذلك محاولة خلق توازن ما بين متناقضين ممارسة حق مضمون دستوريا و استمرارية المرفق العام[3].
وإن من بين الشروط والإجراءات التي عمد القضاء الفرنسي إلى الأخذ بها في هذا الإطار ضرورة أن يكون الاضراب مسبوقا بإخطار يقدم للإدارة قبل خمسة أيام كاملة من البدء في الإضراب وهو ما يعطي للإدارة فرصة تدبير شؤونها سواء بالدخول في مفاوضات مع الموظفين بشأن مطالبهم المهنية أو الاستعداد لتدبير المرفق العام أثناء مدة الإضراب، بل فرض كذلك وجوب أن يكون الاضراب قد تمت الدعوة إليه من طرف التنظيم النقابي الأكثر تمثيلا على المستوى الوطني أو المستوى المهني أو المرفق المهني[4].
إن مجمل القول أن الاقتطاع[5]لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره إجراء تنظيميا لممارسة الإضراب وإنما هو إجراء تأديبي غايته الضرب على أيدي الموظفين وحثهم على التراجع عن المكتسبات النضالية للتنظيمات النقابية، بل هو إجراء تمييزي لا زال يستمر العمل به فقد كانت سلطات الحماية أيام الاستعمار تؤيد المضربين الفرنسيين في إضرابهم، ما دام دو طابع مهني وتحرم الموظفين المغاربة من أجورهم عن فترة الاضراب[6].
الفقرة الثانية : هل الاضراب تغيب غير مشروع عن العمل
غالبا ما تحتج الإدارة لتبرير الاقتطاع من أجور المضربين بأن الإضراب تغيب غير مشروع عن الوظيفة، وذلك بالاستناد إلى القانون رقم 81.12[7]المتعلق بالاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، والمرسوم الصادر بتطبيق هذا القانون[8]، وهو ما يطرح السؤال حول مدى إمكانية اعتبار الإضراب تغيب غير مشروع عن العمل وهل هو فعلا تغيب عن العمل بغض النظر عن مشروعيته من عدمها ؟
لقد تناول قانون الوظيفة العمومية حالات التغيب القانونية وبطبيعة الحال ليس من بينها الإضراب، لأنه ليس تغيبا[9]، بل هو حق مكفول ومضمون دستوريا، يبقى الهدف منه تطوير الظروف والأوضاع المهنية للموظفين، وعلى اعتبار أن الحق هو مصلحة مشروعة يحميها القانون[10]، فلا يمكن القول باعتباره تغيبا مادام أن هذا الأخير يعد عملا سلبيا.
فإذا كان الاضراب ليس تغيبا كيف يمكن القول باعتباره تغيبا غير مشروع؟
جاء في المادة الأولى من مرسوم 10 ماي 2000 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات تطبيق القانون رقم 12.81، أن رواتب الموظفين تخضع للاقتطاع متى تبت غيابهم عن العمل بدون ترخيص أو مبرر مقبول، فهل الإضراب كحق دستوري يحتاج إلى ترخيص، إن حق الإضراب كحق أصيل لا يقتضي طلبا من قبل صاحب الشأن ولا يلزم لنشوئه صدور قرار من الإدارة بالترخيص كما هو الشأن لبعض الحقوق السياسية الأخرى[11]، وإذا ما فرضنا ذلك فإن غالبا ما يقوم التنظيم النقابي بإخطار الإدارة بالإضراب ليس باعتباره تغيبا عن العمل وإنما باعتباره حقا دستوريا، فهل يمكن القول بأن الإضراب لا يعتبر مبررا مقبولا للدفع به للإدارة عن فترة ممارسته؟
إن المبرر مقبولا كان أو غير مقبول لا يكون إلا إذا فرضنا وجود الموظف في حالة تغيب عن العمل، وما دام أن الموظف إنما يمارس حقه النقابي بل هو أساس هذا الحق ألا وهو الإضراب، فهو بذلك بعيد عن أي إجراء تأديبي أو تمييزي، قد يمس وضعيته الإدارية بصفة عامة[12]، وما دام أن الإضراب لا يمكن أن يجمع بين صفتي الحق الدستوري والتغيب عن العمل غير المشروع، فما هو أساس اقتطاع الإدارة من أجور المضربين ؟.
المطلب الثاني : أي أساس قانوني للاقتطاع من أجور المضربين
إن الإضراب كحق دستوري لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره تغيبا عن العمل، كما لا يمكن الاستناد إلى قواعد تنظم العلاقات التعاقدية في تأسيس الإدارة للاقتطاعات من أجور المضربين، وإذا كان الفراغ الذي لا زال يعيشه التنظيم القانوني للحق في الإضراب، خلق توترا في العلاقة ما بين الإدارة والموظفين، فإن على القضاء الإداري أن يحاول التأسيس لقواعد جديدة تناسب الطبيعة القانونية لهذه العلاقة.
الفقرة الأولى: غياب الأساس القانوني للاقتطاع
أمام غياب القانون التنظيمي للإضراب، جعل الإدارة تستند على مجموعة من القوانين التي لا ترقى إلى مرتبة القانون التنظيمي لمحاولة تنظيم الحق في الإضراب، معتمدة على قاعدة الأجر مقابل العمل.
أولاً : غياب القانون التنظيمي
إذا كان قد صعب على الفقه إعطاء مجرد تعريف شامل جامع لكل عناصر الاضراب، نظرا لتداخل عدة عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية وحتى نفسية في تفسير هذه الظاهرة الانسانية المعقدة، فما بالك بمدى سهولة وضع قانون يجمع بين طياته كل هذه التداخلات خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقانون تنظيمي، وهو ما جعل البعض[13]يتساءل حول مدى إمكانية إخضاع الإضراب لقبضة القانون.
لقد أعطى المشرع الدستوري اختصاص تنظيم شروط وإجراءات ممارسة حق الاضراب، إلى القانون التنظيمي، هذا إن كان يدل على شيء فإنما يدل على قيمة هذا الحق نظرا للقيمة التي يحتلها القانون التنظيمي في التسلسل الهرمي للقوانين، والذي يقع في مرتبة وسطى ما بين الدستور والقانون العادي، فهو مكمل للدستور ومنبثق عن أحكامه.
ومادام أن القانون التنظيمي هو المختص بتحديد الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق، وهو بذلك المختص بضمان التوفيق بين ممارسة حق الإضراب ومتطلبات حسن سير المرفق العام[14]، فإن الأمر يقتضي التساؤل عن مدى مشروعية التدخل الإداري الذي من شأنه التطاول على هذا الاختصاص بدعوى تطبيق فكرة النظام العام والمصلحة العامة ؟.
إن التهاون التشريعي في إصدار القانون التنظيمي للإضراب، فتح المجال بل صار متسعا للإدارة من خلال أعمالها الإدارية التي تهدف إلى ضمان السير العادي للمرفق العام، وبالتالي انتقل الحديث من حديث عن الحق في الإضراب وضرورة اخراج القانون التنظيمي، إلى حديث عن ضمان استمرارية المرفق العام لخدمة المرتفقين.
وفي انتظار أن يجد المشرع المغربي الصيغة النهائية لمشروع القانون التنظيمي يبقى أملنا في إعمال المشرع المغربي مقتضيات الفصل 86 من الدستور[15]بعد إهمال طال أمده لمقتضيات الفصل 29 من الدستور (الفصل 14 سابقا).
ثانياً : هل يصلح تطبيق قاعدة الأجر مقابل العمل
يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة[16]، فعلاقة الموظف بالإدارة هي علاقة نظامية تحكمها القوانين والقواعد التنظيمية، حيث أن الموظف بمجرد تعيينه يكون قد شغل مركزا كان قائما وموجودا، فالتعيين لا يخلق وظيفة بقدر ما يعني فقط التصاق الشخص بوظيفة كانت موجودة سلفا ويمارس اختصاصات ومسؤوليات حددتها القوانين[17]، فهل يمكن القول بإمكانية تطبيق قاعدة الأجر مقابل العمل على علاقة الموظف بالإدارة ؟.
إن قاعدة العمل مقابل الأجر هي قاعدة تستمد أساسها من المبادئ العامة لنظرية العقد، بمعنى أن العقد إذا كان ملزما لجانبين فإن توقف التزام أحد الطرفين يؤدي بلا شك إلى توقف التزام الآخر[18]، فمثلا في عقد الشغل فإنه عند توقف الأجير عن أداء العمل الملزم به تجاه المشغل يصبح هذا الأخير بدوره في حل من التزاماته ومن ضمنها طبعا دفع الأجر تطبيقا لقاعدة لا أجر مقابل عمل[19].
وقد استقر القضاء والفقه على إعمال هذه القاعدة في العلاقة الشغلية، في غياب أي نص صريح لهذه القاعدة غير ما أشارت إليه مدونة الشغل من توقف عقد الشغل، الأمر الذي يفيد عدم إمكانية تطبيق قاعدة تنبع من علاقة تعاقدية على علاقة نظامية.
ونتيجة لتطور مفهوم الأجر من مفهوم مدني إلى مفهوم اجتماعي، مما أدى إلى ظهور اتجاه جديد يدعوا إلى قصر الاقتطاع من الأجر فقط على حالة الإضراب غير المشروع، دون الاستناد إلى قاعدة الأجر مقابل العمل، وقد دافع عن هذا الاتجاه الذي سار فيه القضاء اللبناني البعض باعتماد حجج منها الصفة المعيشية للأجر وما يمثله من أولوية في حياة الأجير والموظف وأفراد أسرهم، كما أن ذلك من شأنه حث المشغل و الإدارة على الإسراع في فض النزاع العالق بينها وبين المضربين، الأمر الذي من شأنه كذلك إعطاء قوة إضافية للإضراب باعتباره السلاح الوحيد للأجراء والموظفين في تحقيق مطالبهم المهنية[20].
الفقرة الثانية : موقف القضاء المغربي من الاقتطاع
بالرجوع إلى الاجتهاد القضائي المغربي فيما يخص الإضراب، نجد ندرة في الأحكام القضائية في هذا الشأن سواء في القطاع الخاص الذي له مبرراته على اعتبار أن تسوية النزاعات الجماعية ليس من اختصاص القضاء بل له مساطر خاصة تناولتها مدونة الشغل في الكتاب السادس منها، بخلاف الأمر بالنسبة للقطاع العام، وقد تضاربت القرارات القضائية حول مسألة مشروعية الاقتطاع من أجر الموظفين بين اتجاهين نعرضهما كالتالي :
أولاً : اتجاه يربط مشروعية الاقتطاع بمدى مشروعية الاضراب
يؤسس هذا الاتجاه قراراته بالربط ما بين مشروعية الاضراب والاقتطاع من أجور الموظفين المضربين، وذلك من خلال بحته عن مدى احترام المضربين للإجراءات والشروط التي استقر عليها القضاء المقارن والمغربي، بمعنى احترام أجل الإخطار ودعوة التنظيم النقابي الأكثر تمثيلا للإضراب، وذلك طبعا حتى لا يتأثر السير العادي واستمرارية المرفق العام في أداء خدماته للمرتفقين.
وهو ما صرحت به المحكمة الإدارية بمكناس في أحد أحكامها حيث جاء فيه ما يلي ” حق الإضراب حق دستوري أكدته جميع الدساتير المتعاقبة …. عدم صدور تشريع تنظيمي يحدد كيفية ممارسة حق الاضراب، لا يعني إطلاق هذا الحق بلا قيود بل لابد من ممارسته في إطار ضوابط تمنع من إساءة استعماله مع مقتضيات النظام العام والسير العادي للمرافق العامة…. وعدم ثبوت كون الاضراب الذي خاضه الطاعن فيه خروج عن الضوابط المذكورة لذلك لا يمكن اعتباره تقصيرا في الواجب المهني وبالتالي تكون عقوبة الانذار على هذه الواقعة لاغية “[21] .
ثانياً : اتجاه يراقب مدى توفر الشروط الشكلية للاقتطاع
ينصب اهتمام هذا الاتجاه على مجرد مراقبة مدى قيام الادارة باحترام الشروط الشكلية للاقتطاع من أجور المضربين، المنصوص عليها في المرسوم رقم 2.91.1216 الصادر بتاريخ 10 ماي 2000 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات تطبيق القانون رقم 12.81، وهو بذلك لا يجادل في مدى مشروعية الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين، بل يؤسسه على قاعدة الأجر مقابل العمل ذات الأصل التعاقدي.
و هو ما سارت عليه المحكمة الإدارية بالرباط في قرار لها سنة 2013، الذي جاء فيه “…. ما دامت هذه الشكلية مقررة لصالح الموظف لتفادي عنصر المفاجأة في الاقتطاع وتخويل المعني به فرصة التحضير لنتائج النقص الذي تتعرض له أجرته الشهرية تبعا لالتزاماته المالية المترتبة عليه، فتكون شكلية جوهرية تمس بشرعية القرار المخالف لها، وحيث إنه في ظل نفي الطاعن سبق توجيه أي استفسار إليه قبل مباشرة الاقتطاع مع منازعته الجدية في الاخلال بهذا الإجراء الشكلي الجوهري …. مما يكون معه ما أثاره الطاعن بخصوص مخالفة الادارة لعيب الشكل صحيحا من هذه الناحية، ويتعين إلغاء قرار الاقتطاع المطعون فيه لهذه العلة مع ترتيب الآثار القانونية على ذلك”[22].
خاتمة :
إن خير ما يمكن أن نختم به هذه الدراسة المتواضعة لموضوع هم ويهم فئة عريضة من الموظفين العموميين الذين حجر عليهم في ممارسة حقهم الدستوري في الإضراب، من خلال الاقتطاع من أجورهم ليس كإجراء تنظيمي للإضراب وإنما تأديبي يهدف إلى تعطيل هذا الحق، هو مطالبة المشرع المغربي بإعمال مقتضيات الفصل 86 من الدستور، بالعمل على إخراج القانون التنظيمي للإضراب قبل انتهاء الولاية التشريعية الأولى التي لم يتبقى لها الكثير، وقد لا يكون لهذا القانون طبعا أن يستجيب لكل الطموحات سواء التي تنشدها الشغيلة أو الموظفين أو حتى الإدارة والقضاء كذلك، لكن يبقى خروجه أفيد من بقاء الحال على ما عليه.
الهوامش :
[1] بعض الدول منعت الإضراب على الموظفين العموميين باعتباره من الأمور التي تمس أمن الدولة ومصلحة المواطنين، هذا المنع الذي قصرته دول أخرى على بعض الفئات من الموظفين فقط.
2 محمد الشرقاني، مدى مشروعية الإضراب العمالي بالمغرب، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الرباط، 1990/1991، ص 96.
3 بلال العشيري، مدى مشروعية إضراب الموظفين العموميين بالمغرب، سلسلة الندوات والأيام الدراسية العدد 29، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، 2009، ص 344.
4 حيت جاء في أحد قرارات القضاء الفرنسي أن الإضراب الذي تمت الدعوة إليه على المستوى الوطني والذي اشتركت فيه السيدة poinsard المعاونة المؤقتة في المستشفى قد سبقه تقديم إخطار وعليه فإن السيدة المذكورة لا تعتبر محلا لتوقيع عقوبة تأديبية
5 كان الأجدر أن تعمد الإدارة المغربية إلى الاقتطاع من أجور الموظفين ليس الذين يمارسون حقهم الدستوري، وإنما الذين تجدهم في المرفق العام دون طائل، منهمكين في تبادل الكلام عن أمور منزلية أو رياضية أو سياسية أو فنية دون الاهتمام بخدمة المرتفقين، فاستمرارية المرفق العام لا تعني فتح أبوابه مدار الأسبوع فقط، وإنما أداء الوظيفة الموكولة له بالشكل المطلوب
6 بلال العشيري، مرجع سابق، ص 349.
7 الظهير الشريف رقم 1.83.230 صادر بتاريخ 9 محرم 1405 (5 أكتوبر 1984) بتنفيذ القانون رقم 12.81 بشأن الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، الجريدة الرسمية عدد 3764 بتاريخ 19/12/1984، ص 1189.
8 مرسوم رقم 2.99.1216 صادر في 6 صفر 1421 (10 ماي 2000) بتحديد شروط وكيفيات تطبيق القانون رقم 12.81 بشأن الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة، الجريدة الرسمية عدد 4801 بتاريخ 05/06/2000، ص 1333.
9 عبد العزيز العتيقي، الإضراب والاقتطاعات من الأجرة سؤال المشروعية، منشورات المرشد التضامني، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2008/2009، ص 38.
10 ادريس العلوي العبدلاوي، المدخل لدراسة القانون، نظرية الحق، الجزء الثاني،الطبعة الثانية، 1975، ص 35
11 حكم المحكمة الإدارية بالرباط عدد 148 الصادر بتاريخ 2/7/2006، منشور بمنشورات المرشد التضامني، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2008/2009، ص 38.
12 ينص الفصل الرابع عشر من النظام الأساسي للوظيفة العمومية على أنه ” يمارس الموظف الحق النقابي ضمن الشروط المنصوص عليها في التشريع الجاري به العمل. ولا ينتج عن الانتماء أو عدم الانتماء إلى نقابة ما أية تبعة فيما يرجع لتوظيف المستخدمين الخاضعين لهذا القانون الأساسي العام وترقيتهم وتعينهم، أو فيما يخص وضعيتهم الإدارية بصفة عامة”.
13 محمد الشرقاني، مرجع سابق، ص 20.
14حسن صحيب، بعض إشكالات ممارسة الإضراب في القطاع العام بالمغرب، سلسلة الندوات والأيام الدراسية العدد 29، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، 2009، ص 370
15 ينص هذا الفصل على أنه “تعرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور”.
16 الفصل الثاني من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
17 ابراهيم كومغار، القانون الإداري،مطبعة آنفو، فاس،الطبعة الثانية، 2010، ص 27.
18 محمد الشرقاني، مرجع سابق، ص 230.
19 جعلت مدونة الشغل من فترة الإضراب سببا لتوقف عقد الشغل من خلال المادة 32، وهو ما يجعل المدونة قد تناولت أثر الاضراب على عقد الشغل، ما يفرض التساؤل عن دستورية هذا المقتضى ما دام الدستور أعطى الاختصاص بهذا التنظيم للقانون التنظيمي لا القانون العادي.
20 محمد رياض دغمان، النظام العام في علاقات العمل، المؤسسة الحديثة للكتاب، لبنان، الطبعة الاولى، 2014، 258/259.
21 حكم صادر عن المحكمة الادارية بمكناس بتاريخ 12/07/2001، عدد 63/2003غ، منشور بالمجلة المغربية للإدارة والتنمية عدد 42، ص 170.
22 حكم المحكمة الإدارية بالربط رقم 3372 بتاريخ 27/11/2013 ملف رقم 2013/5/262 غير منشور.
اترك تعليقاً