القيمة القانونية للآثار المحققة للشخصية في التحقيق الجنائي
المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
لقد كانت بصمات الأصابع تمثل الوسيلة الرئيسية والفعالة في التحقق من شخصية الإنسان واحتلت مكان الصدارة بين الأدلة المادية، ولكن ومع ظهور دليل جديد وهو استخدام البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي، ونتيجة للتطور الهائل والسريع وحداثة الطرق المتبعة إزاء هذه التقنية انعكس هذا بدوره على بصمة الأصابع.
ولكن انطلاقا من الأسس التي تقوم عليها كلتا الوسيلتين، أجمعت البحوث والتجارب العلمية أن هناك بعض المميزات التي تميز أساليب تحقيق الشخصية عن غيرها من الأدلة، إذ أنها ومن الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من نسب الجرائم لمقترفيها(1)، إذ تتجلى قطعية دلالة البصمة الوراثية في عدم إمكانية تطابق بصمتين مختلفتين في العالم أجمع، وهذا النظام هو الذي يقوم بتحديد خصائص كل فرد، باعتبار أنه يختلف من شخص لآخر إلا في حالة التوأم المتماثلة، كما تمتاز بصمات الأصابع هي أيضا بميزة عدم تطابق بصمتين لشخصين حتى لو كانا توأمين من بويضة واحدة، وعدم وجود تطابق بين بصمة أصبعين ولو كانا لشخص واحد وما يزيد ويؤكد قطعيتها من الناحية العلمية أن كلتا البصمتين تتواجد في الجنين منذ بداية نشاطه وتكوينه وتستمر مدى الحياة.
(2) واستنادا لهذه الأسس العلمية اعتبرت البصمة الوراثية وبصمات الأصابع دليلا قاطعا لا يمكن التشكيك فيه، الأمر الذي يعطيه قوة تدليلية قاطعة من الناحية العلمية جعل من هذه الأدلة تحتل الصدارة بين باقي الأدلة من الناحية العلمية، باعتبارها دليلا قاطعا في إثبات أو نفي الاتهام عن الجرائم المرتكبة(3)، كما لا يمكن التشكيك في حجيتها في التحقق من شخصية الإنسان.
وفي هذا الشأن يقول الدكتور الباحث أحمد أبو القاسم أن البصمة تتميز بقيمة إثباتية قاطعة لما تستند إليه من أساس علمي، وتعين إحصائي، وبالتالي يجب الأخذ بدلالتها فبوجود أثر صاحب البصمة مكان الحادث، وعدم قدرته عن دفع الاتهام عنه، إضافة إلى عدم وجود أدلة أخرى تخالف هذا الدليل بالمنطق والعقل، فإن دليل البصمة يصبح دليلا علميا قاطعا مستوفيا لكل معلومات وشروط الدليل الجنائي(4) إلا أنه وفي الحقيقة وجود البصمة مكان الحادث يعتبر فعلا قرينة على وجود الشخص مكان الحادث لكن لا يعتبر دليلا قاطعا على ارتكابه الجريمة، ذلك أن وجود متهم في مسرح الجريمة لا يعني بالضرورة أنه هو الفاعل الأصلي، فربما كان شريكا أو كان وجوده لأمر عارض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجود عينة أو أثرمن المتهم على ملابس المجني عليه، لا يعني بالضرورة الفعل الإجرامي فقد يكون الأمر كان قبل وقوع الجريمة فمثلا وجود سائل منوي على ملابس المجني عليها لا يعني بالقطع أنه المتهم، فقد يكون آخر غيره، ولا يعني أيضا أن الفعل الإجرامي اغتصاب، فقد يكون بالتراضي(5)
ثانيا- القيمة النسبية لأساليب تحقيق الشخصية:
لقد تنبه القليل من الباحثين وعلماء العصر بخصوص الأخطاء التي ترتكب في البصمة الوراثية أو بصمات الأصابع شأنها كشأن أي تقنية تخضع لسيطرة الإنسان وبالتالي، يقع فيها ما يقع من الأخطاء البشرية، مما جعلها ليست مطلقة أو مؤكدة لكي تكون ذات دلالة قطعية. فقد جاء في مقدمة القرار السابع المجمع الفقهي ما نصه: ” وأن الخطأ في البصمة الوراثية ليس واردا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث ونحو ذلك “.
(6) ولهذا ذهب اتجاه من الفقه إلى القول أن البصمة الوراثية، وباعتبارها دليلا علميا يندرج تحت عنوان الخبرة، فإن دورها في الإثبات لا يتعدى باقي الأدلة التي تكون خاضعة لتقدير محكمة الموضوع، وحجتهم في هذا القول أن هناك بعض من الأمور التي من شأنها أن تقلل من القيمة الإثباتية للبصمة الوراثية ، اذ هناك احتمال وقوع خطأ أثناء رفع العينات البيولوجية من مكان الحادث، وبالتالي إذا وقع الخطأ سواء في عملية الرفع أو تعرض هذه العينات للتلوث، أو اختلاطها بعينات أخرى، أدى ذلك إلى ضياع وفساد العينة المرفوعة، وذلك سيؤدي لا محالة إلى أن يضعف من القوة الإثباتية للبصمة الوراثية في المجال الجنائي، ويقول العالم الدكتور البيولوجي عمر الأصم أنه ومثل أي طريقة بيولوجية لا يمكن اعتبار البصمة الوراثية 100 ٪ صحيحة وخالية من العيوب.(7) كما قد يقع الخطأ في المعمل الجنائي، بسبب سوء استعمال الإدارة أو الوسيلة التي هيأت للقيام بتحليل تقنية البصمة الوراثية، كما قد يتمثل وقوع الخطأ في حقل التحاليل البيولوجية في فساد العينات وعدم صلاحياتها للتحليل، أ وأخطاء في بطاقات تعارف الأدلة سواء بتعريف خاطئ أو بتبديل للبيانات المدونة، أو أخطاء في حفظ الدليل من الناحية الفنية(8) .
وكذلك نفس الحال بالنسبة لبصمات الأصابع إذ هناك بعض من الأخطاء التي قد تقع أثناء عملية أخذ البصمات، وذلك راجع إما لتقني أو خبير البصمات، أو للأدوات المستخدمة ومن بين أهم هذه الأخطاء المحتملة الوقوع:
عدم استخدام حبر المطابع، واستبداله بحبر آخر مثل حبر الأختام مما يتسبب بظهور البصمة بلون فاتح وباهت. عدم تنظيف معدات التحبير أو الأصابع المراد طباعتها مما سيؤدي إلى ظهور علامات غير حقيقية، أو اختفاء بعض مميزات الخطوط الحلمية. عدم استخدام الحبر بكثرة يتسبب في طمس أو تعتيم الخطوط الحلمية. انزلاق الأصابع أثناء اخذ البصمات مما يؤدي إلى طمس أو تلطيخ الأشكال كل هذه الأمور من شأنها إن تضعف أو تقلل من قيمتها الإثباتية(9) ولكن في حقيقة الأمر لا يمكننا التشكيك مطلقا في مستوى نجاعة هذه الآثار المادية، باعتبارها وسيلة علمية متطورة تساهم في حل الكثير من القضايا المعقدة. ويتضح لنا أن أساليب تحقيق الشخصية، هي من دون شك لها حجية قطعية من حيث أنها حقيقة بيولوجية وعلمية ثابتة لا يرقى إليها الشك، ومن جهة أخرى فإن دورها في الإثبات لا تتعدى باقي الأدلة الأخرى لكي تكون في المقابل ذات دلالة قطعية بل هي ذات دلالة نسبية، خاضعة لتقدير محكمة الموضوع .
ثالثا – موقف الفقه والقانون والقضاء من آثار البصمات:
1- موقف الفقه والقانون والقضاء من آثار بصمات الأصابع:
أ- موقف الفقه من بصمات الأصابع: تعتبر بصمات الأصابع من أقدم وسائل الإثبات باعتبارها طبعات مميزة لكل شخص غير أن هذا لم يمنع الفقهاء إلى الاختلاف حول مدى مشروعية وحجية الدليل المستمد من أثار البصمات. إذ يرى جانب من الفقه أنه يجوز رفع البصمات ومضاهاتها ببصمات المتهم متى كان ذلك قد تم برضا منه وبإرادته، وإن المشكل الذي يثيره استخدام آثار البصمات، يدور حول مدى جواز أخذ بصمات المتهم رغما عنه. في هذا الصدد يذهب جانب من الفقه إلى جواز إجبار المتهم على إعطاء بصماته، ولكن يجب أن يتم ذلك وفقا لشروط معينة، وهي أن تكون عملية القبض قد تمت بالطرق المنصوص عليها قانونا مبررين رأيهم بالحجة التالية:
أن القانون وبما أنه قد أجاز اللجوء إلى إجراءات تعتبر أكثر خطورة على المتهم، مثل القبض والتفتيش، فليس هناك ما يمنع من أن يجيز اتخاذ إجراءات تعد أقل مساسا بسلامة الجسد أو حريته مثل أخذ بصماته أو أخذ عينات من جسمه. وبالرغم من اعتبار هذا الإجراء يعد مساسا بسلامة جسد الإنسان، إلا أن هذا قد يعد هينا أمام المصلحة العامة للمجتمع في سبيل كشف الجريمة(10)
ب – موقف القانون من آثار بصمات الأصابع: تتمتع بصمات الأصابع بأهمية كبيرة في الإثبات الجنائي، لكونها أثر مادي يتركه الجاني في مكان وقوع الجريمة، ولقد ثار خلاف بين علماء القانون حول الاعتماد على للبصمة في حالة عدم توفر أدلة أخرى يستند إليها، إذ أن هناك جانب يرى ضرورة تأييد دليل البصمة بأدلة أخرى، في حين هناك جانب آخر يرى أنه يجوز الإثبات بالقرائن دونما حاجة إلى أدلة أخرى تدعمها باعتبارها دليلا مستقلا.
(11) وبناء على ما تقدم يمكننا تعريف القرينة القضائية بأنها: استنتاج القناعة القضائية على واقعة معينة مجهولة من وقائع أخرى معلومة وفقا لمقتضيات العقل والمنطق(12) وما يجب الإشارة إليه أن هناك جانب من الفقه يرى أن القرينة القضائية هي الدلائل أو الأمارات، في حين هناك من يفرق بينهما باعتبار أن الدلائل أو الأمارات هي عنصر يدخل في تكوين القرينة القضائية، والمقارنة الحقيقية بينها تتم بين النتائج المختلفة التي تؤدي إليها الدلائل المختلفة، إذ أن هناك دلائل قوية الدلالة بحيث تؤدي إلى قرائن قضائية قوية في الإثبات مثل وجود المسروق عند المتهم، وهناك دلائل أخرى ضعيفة بطبيعتها إذ أنها لا تؤدي إلى نتائج قاطعة الدلالة في الإثبات(13) ويتضح لنا أن الدلائل تتفق مع القرائن في أنها استنتاج الواقعة المجهولة المراد إثباتها، ولكن الاختلاف بين الاثنين يبدو في قوة الصلة بين الواقعتين ففي القرائن القضائية يجب أن تكون الصلة بين الواقعتين قوية ومتينة، بحيث يتولد الاستنتاج من هذه الصلة بحكم الضرورة المنطقية ولا تحتمل تأويلا مقبولا غيره، أما الدلائل فإن الصلة بين الواقعتين ليست قوية ولا حتمية، باعتبار أن الواقعة الثانية تحتمل صورا شتى من التأويل، و بناء على ذلك فان الدلائل لا ترقى إلى مرتبة الدليل، ولا يمكننا الاستناد إليها وحدها في الإدانة، وان كانت تصلح كسند للاتهام واتخاذ بعض إجراءات التحقيق الابتدائي كالقبض والتفتيش والتوقيف(14) ومن هنا كان الإثبات بالقرائن وسيلة غير مباشرة باعتبار أن المحكمة لا تتوفرلديها أدلة مباشرة على الواقعة المنسوبة للمتهم، وعلى هذا النحو يعتبر الدليل المادي أحد أنواع القرينة القضائية، وعلى ذلك يعد الدليل المادي اصطلاحا مرادفا للقرينة المادية(15) .
لذلك اختلفت خطة التشريعات في كيفية النص على استخدام بصمات الأصابع، فقد نص المشرع المصري في المادة 225 من قانون العقوبات، على أن للبصمة حكم الإمضاء في تطبيق أحكام التزوير المنصوص عليها في الباب السادس عشر، وفي مجال الإثبات الجنائي أكدت محكمة النقض عدة مبادئ منها أنه لا يصح الطعن في الأساس العلمي لنظرية البصمات، وإذا ساور المحكمة شك فيها يقرره الخبير، يتعين عليها الاستعانة بغيره من أصل الخبرة لكونه من المسائل الفنية البحتة التي لا يصح للمحكمة أن تحل نفسها محل الغير.(16)
وقد أخذ المشرع السوري نفس حذو المشرع المصري، فقد نص في المادة 175 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، على أنه تقام البينة في الجنايات والجنح والمخالفات بجميع طرق الإثبات ويحكم القاضي حسب قناعته الشخصية.(17) أما بالنسبة للمشرع العراقي فقد أجاز لقاضي التحقيق والمحقق إجبار المتهم أو المجني عليه في جناية أو جنحة أخذ طبعات أصابعه بما يفيد التحقيق، وذلك استنادا إلى حكم المادة 70 من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي.(18) أما بالنسبة للمشرع الفرنسي فأنه لم يكتفي بالنص صراحة على جواز هذا الإجراء، بل قام بتنظيمه من خلال وضع قواعد ممارسته من طرف ضباط الشرطة القضائية وذلك بالقانون رقم 86- 1004 الصادر بتاريخ 3/12/1986 اذ تتمثل هذه القواعد في توافر حالة الضرورة، وترك أمر تقديرها لضباط الشرطة القضائية تحت رقابة النيابة العامة وقضاء التحقيق، كذلك تحديد الأشخاص الذين يخضعون لهذا الإجراء، وهم الأشخاص الذين يستوقفهم رجال الأمن أو الدرك، أو الأشخاص الذين يأمرهم الضباط بعدم مغادرة مكان وقوع الحادث المراد التحقق من هويتهم وفقا للمادة 61 من ق إ ج الفرنسي، والذين يعجزون عن إثباتها ويمتنعون عن ذلك.(19)
– موقف المشرع الجزائري من أثار بصمات الأصابع: إن المشرع الجزائري لم يحذو حذو التشريعات الأخرى فيما يخص بصمات الأصابع، إذ أنه لم يشر صراحة إلى هذا الإجراء، ويمكن القول أنه أشار إليها بصفة ضمنية وذلك استنادا إلى الفقرة الثالثة من المادة 42 من قانون الإجراءات الجزائية، التي توجب على ضابط الشرطة القضائية عند انتقاله إلى مكان الجناية المتلبس بها أن يسهر على المحافظة على الآثار التي يخشى أن تختفي، وأن يضبط كل ما يمكن أن يؤدي إلى إظهار الحقيقة .(20) كما أشار المشرع الجزائري إلى هذا الإجراء بصفة ضمنية في الفقرة الثانية من المادة 50 ق إ ج والتي تنص على أنه: ” وعلى كل شخص يبدو له ضروريا في مجرى استدلالاته القضائية التعرف على هويته أو التحقق من شخصيته أن يمتثل له في كل ما يطلبه من إجراءات في هذا الخصوص” وتفرض على الشخص الذي لا يمتثل لهذه الإجراءات بعقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز عشرة أيام وبغرامة قدرها 500 دج.(21)
– موقف القضاء الأجنبي من أثار بصمات الأصابع : لقد كان للقضاء موقفا اتجاه هذه المسألة، فقد اتجه القضاء العربي في الكثير من الدول العربية إلى اعتبار البصمة دليلا له قيمة قوية في الإثبات، فقد أيدت المحكمة العليا بمصر هذا الاتجاه وقضت بأن الدليل المستمد من تطابق البصمات دليل مادي له قوته الاستدلالية القائمة على أسس علمية وفنية.(22) كما استقر القضاء الأمريكي بقبول الدليل المستمد من البصمات وذلك من خلال قرار المحكمة العليا الفدرالية، بخصوص الاستئناف المقدم في إحدى القضايا التي جاء فيها، أن هناك أساس علمي لنظام تعريف الشخصية بالبصمة وأن المحكمة قد اقتنعت بقبول هذا الصنف من الأدلة.(23)
كما أيدت المحكمة العليا الدنماركية قرار المحكمة الجنائية الأولية الصادر في 1997/03/13 المتعلق بجريمة قتل تتلخص وقائعها في أن الشرطة الدنماركية قد أبلغت عن جريمة قتل في الشقق الواقعة في ضواحي العاصمة الدنماركية، وعند وصول الشرطة كانت الضحية(القتيلة) عارية في غرفة نومها ملطخة بالدماء، وعند إجراء الفحص التقني من قبل اللجنة الجنائية المختصة في مكان الحادث، وتم الأخذ طبعات الأصابع في أماكن مختلفة من شقة القتيلة لتقوم بمقارنتها بطبعات أصابع المشتبه فيهم وأصحاب السوابق وتمت المقارنة، لكن لم تتمكن الشرطة من الوصول إلى نتيجة معينة وبعد مضي 4 سنوات، قام أحد تقنيين المختبر الجنائي بدراسة وتحليل الطبعة من خلال إبراز بعض الخطوط في طبعة الأصابع وتغذية الحاسوب الآلي بالطبعة من جديد، وقام الحاسوب بمقارنة الطبعة بثلاثين طبعة مخزونة، وظهر أن الطبعة مطابقة لطبعة الأصابع رقم( 29 ) التي كانت عائدة لشاب يسكن في نفس البناية وكان من أصحاب السوابق واعترف أنه هو من قام بالجريمة.(24)
– موقف القضاء الجزائري من بصمة الأصابع: لم يختلف القضاء الجزائري عن غيره من أنظمة القضاء العربي، فقد ساير هو الآخر القضاء المقارن الذي اعتمد الأخذ بطبعات الأصابع بحثا عن الحقيقة، إلا أنه وفيما يتعلق بحجيتها الإثباتية، فإنها لا تعتبر دليلا قطعي، وإنما تعتبر مجرد قرينة تحتاج إلى أدلة أخرى. ومن بين القضايا التي تناولت مسألة بصمة الأصابع نجد القرار رقم 256544 الصادر بتاريخ 4/6/2002 الذي فصل في الطعن بالنقض المقدم بتاريخ من طرف السيد النائب العام لدى مجلس قضاء ورقلة، حيث أن القرار المطعون فيه قد صادق على الحكم المستأنف القاضي ببراءة المتهم، رغم أنه يوجد بالملف خبرة علمية محررة من طرف الشرطة العلمية، تؤكد أن البصمات التي كانت مكان وقوع الحادث تنطبق تماما مع بصمات المتهم، وقد قضت المحكمة العليا أن وجود البصمات لوحدها في جريمة ما لا يرقى إلى درجة الدليل القطعي والكافي للإدانة، وإنما يعد قرينة تحتاج إلى دليل قضائي يدعمها، كما أكدت في هذا القرار أن الخبرة تخضع للسلطة التقديرية المخولة لقضاة الموضوع شأنها شأن وسائل الإثبات الأخرى.(25)
2 – موقف الفقه والقانون والقضاء من البصمة الوراثية
أ- موقف الفقه من البصمة الوراثية: لقد تعددت واختلفت الآراء الفقهية حول مدى مشروعية الدليل المستمد من فحص البصمة الوراثية كغيرها من الأدلة العلمية التي ظهرت حديثا، كما اختلفوا أيضا حول التكييف القانوني لهذا الإجراء. فلقد ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن تحليل البصمة الوراثية يعد عملا من أعمال التفتيش، وأن الإجراء لا يقتصر على المسكن فقط بل يشمل أيضا الأشخاص والمقصود بالشخص الخاضع للتفتيش هو كيانه المادي، أي جسمه سواء تعلق الأمر بالأعضاء الداخلية له أو الأعضاء الخارجية.(26) ولذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الحصول على العينة البيولوجية من المتهم هو إجراء يهدف إلى التوصل إلى دليل مادي في جريمة ما، يجري البحث عن أدلتها تتضمن اعتداءا على أسرار الشخص الخاضع للفحص، لذلك فهي تدخل ضمن نطاق التفتيش .(27)
ونجد أن مشروعية تفتيش الشخص لم تكن محل خلاف في العصر الحاضر، فقد نص المشرع المصري صراحة على تفتيش الأشخاص، كذلك المشرع الفرنسي(28) بخلاف المشرع الجزائري الذي تناول تفتيش الأماكن دون تفتيش الأشخاص. في حين ذهب اتجاه آخر إلي القول بأن تحاليل الشفرة الوراثية تعد عملا من أعمال الخبرة باعتبارها تعتمد على الرأي الفني للخبير.(29) ومهما كان الخلاف حول تكييف البصمة الوراثية، فأنها وفي كلتا الحالتين تعد من الأدلة المادية، لذلك ذهب فريق من الفقهاء إلى قبولها كدليل في الإثبات واعتبرها من القرائن المادية، وهذا ما دعا بعض الفقهاء إلى التساؤل حول موقع البصمة الوراثية ضمن القرائن ومن اجل ذلك انقسم الفقهاء إلى قسمين:
اتجاه أول يرى: أن البصمة الوراثية تعد قرينة قطعية لأن التجارب العلمية أثبتت أن البصمة الوراثية إذا توفرت شروطها وأكثر عيناتها مع ملاحظة الدقة والضبط والتكرار، تعد دليل قطعي ونتائجها دقيقة 100% في حين يرى أصحاب الاتجاه الثاني: أن البصمة الوراثية لا ترقى إلى مستوى القرائن القطعية، باعتبار أن النظريات العلمية مهما بلغت من الدقة والقطع بالصحة، إلا أنها تظل محل شك، مبررين هذا بالقول أن الأصل في البصمة الوراثية هو القطع، لكن ( الظروف المحيطة والإجراءات المعقدة عند التحليل أهدرت من قيمتها.(30)
ب- موقف القانون المقارن من البصمة الوراثية: على الرغم من وجود تأييد واضح لاستخدام البصمة الوراثية في مجال الإثبات الجنائي سواء من قبل التشريعات العربية أو الأجنبية، إلا أننا نجد هناك بعض التشريعات التي تنص صراحة على استخدام هذه التقنية الحديثة، في حين هناك تشريعات لم تتناول هذه التقنية بنصوص صريحة . فقد أجاز قانون الجينوم البشري الأمريكي الصادر سنة 1990 اللجوء إلى لبصمات الوراثية في مجال العدالة الجنائية، لكن شرط أن تكون المعلومات الجينية لازمة للحصول على الحقيقة في دعوى أو تحقيق جنائي، إذ يجب في هاتين الحالتين أن يكون الأمر بالكشف عن المعلومات الجينية الخاصة صادر من محكمة مختصة.
أما فيما يخص التشريع الكندي لم يكن هناك أي نص تشريعي يسمح صراحة بأخذ عينة بيولوجية من المشتبه به، أو المتهم فيها يخص إجراء تحاليل وراثية من أجل مقارنتها مع العينات التي تم الحصول عليها مكان وقوع الحادث، لذلك كان المحققون يحاولون الحصول على رضا المتهم من أجل إجراء مثل هذه التحاليل، وقد أثار هذا ، الفراغ القانوني بعض الانتقادات مما أدى إلى تعديل القانون الكندي عام 1995 وأصبح يمكن للقاضي بموجب هذا التعديل إصدار مذكرة يسمح بها لعناصر الأمن أن تأخذ عينة بيولوجية من المشتبه به، من أجل إجراء تحليل وراثي إذ كان هناك ما يشير إلى مساهمته في الجريمة.(31)
في حين اعتبر المشرع الفرنسي البصمة الوراثية دليلا مستقلا وهو ما نصت 28 من قانون العقوبات الفرنسي الصادر عام 1994 والتي ، عليه صراحة المادة 226 حددت نطاق وشروط استخدام البصمة الوراثية.(32) أما فيما يخص التشريعات العربية، نجد أن المشرع التونسي قد نص في قانون الأحوال الشخصية رقم 28 سنة 1998 أنه “…. يمكن للأب أو الأم أو النيابة العمومية رفع الأمر إلى المحكمة الابتدائية المختصة لطلب إسناد لقب الأب للطفل الذي يثبت بالإقرار أو بشهادة الشهود أو بواسطة التحليل الجيني أن هذا الشخص هو أب ذلك الطفل”. أما بالنسبة للمشرع اللبناني فانه لم ينص صراحة على تقنية البصمة الوراثية،الا أنه يمكن للقاضي الجنائي اللجوء إليها والحكم بموجبها عملا بمبدأ الإثبات الحر الذي تأخذ به.(33)
كما ساير المشرع المصري غيره من الأنظمة والتشريعات الأخرى التي تنص على تقنية الشفرة الوراثية، غير أنه يمكن تأسيس العمل بالنسبة البصمة الوراثية في القانون المصري على ما قرره في قانون المرور رقم 66 لسنة 1973 في المادة 66منه، حيث نصت هذه المادة على جواز إجراء الفحص الطبي على قائد المركبة الذي يشتبه في قيادته وهو تحت تأثير خمر أو مخدر.(34)
– موقف المشرع الجزائري من استخدام البصمة الوراثية: بالرغم من أن المشرع الجزائري قد جاء بقواعد مستحدثة يمكن الاستفادة منها في إثبات العديد من القضايا الجنائية، إلا أنه لم يشير وبصورة صريحة إلى استخدام البصمة الوراثية بوصفها وسيلة علمية جديدة من وسائل الإثبات، ومع ذلك يمكن القول أنه أشار إليها بصفة ضمنية، وذلك ما يستفاد من نص المادة 68 من ق إ ج التي تجيز في فقرتها الأخيرة لقاضي التحقيق أن يأمر بإجراء الفحص الطبي أو يأمر باتخاذ أي إجراء يراه مفيد.(35)
ونظرا لحداثة هذه التقنية المتطورة، ورغم أن المشرع الجزائري لم يتناول مسألة البصمة الوراثية في قانون الإجراءات الجزائية، إلا أنه حاول مسايرة الأنظمة الحديثة التي اعتمدت الشفرة الوراثية وذلك عن طريق إنشاء أكبر صرخ علمي، حيث تم افتتاح مخبر البصمة الوراثية بتاريخ 20 جويلية 2004 ، التابع للمخبر العلمي والتقني لمديرية الشرطة القضائية، ويعتبر هذا المخبر الأول من نوعه على المستوى العربي، والثاني على المستوى الإفريقي، قد اتبع هذا المخبر تأسيسه كافة المقاييس الدولية التي وقد حدد مجال استعمال ،ADN تتوفر عليها أغلب المخابر الجنائية العالمية لتحليل ألبصمة الوراثية في بعض الجرائم أهمها القتل، الاعتداءات الجنسية، السرقات، إضافة إلى استخدامها في المجال المدني من خلال بعض قضايا إثبات النسب وتحديد الأبوة، خاصة بعد تعديل قانون الأسرة الذي أجاز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب.(36) نظر لحداثة تقنية البصمة :ADN – موقف القضاء الجزائري من استخدام الوراثية، وغياب نصوص قانونية تنظم هذه المسألة، فانه يمكن القول أن المحكمة العليا لم تتعرض للبصمة الوراثية كدليل في الإثبات الجنائي.
__________________
1- فواز صالح، دور البصمات الوراثية في القضايا الجزائية، مجلة دمشق للعلوم الاقتصادية و القانونية، كلية الحقوق، جامعة دمشق، العدد الاول، 2007 ، ص97.
2- رمسيس بهنام، البوليس العلمي أو فن التحقيق، دون طبعة الناشر منشاة المعارف بالإسكندرية، 1996 ص 119
3- نافع تكليف مجيد دفار العماري، البصمة الوراثية ودورها في الإثبات، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بابل العراق، 2009 ، ص. 136
4- أحمد أبو القاسم، الدليل الجنائي المادي ودوره في إثبات جرائم الحدود والقصاص، الجزء الثاني، أطروحة دكتوراه، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1993 ، ص 46
5- خليفة علي الكعيبي، البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية، الطبعة الأولى، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، 2006 ، ص 144
6- خليفة علي الكعيبي، المرجع نفسه، ص 60 .
7- خليفة على الكعيبي، المرجع نفسه، ص 63،139.
8- محمد أحمد غانم، الجوانب القانونية والشرعية للإثبات الجنائي بالشفرة الوراثية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2008 ، ص 100 .
9- فرح بن هلال بن محمد العتبي، بصمات الأصابع و إشكالاتها في الإثبات الجنائي بين الشريعة والقانون، رسالة مقدمة استكمالا للحصول على درجة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية كلية الدراسات العليا قسم العدالة الجنائية، الرياض 2009 ، ص81.
10- بوشو ليلى، قبول الدليل العلمي أمام القضاء، مذكرة من أجل الحصول على شهادة الماجستير في الحقوق، كلية الحقوق، جامعة الجزائر، 2010/2011، ص69.
11- فرج بن هلال بن محمد العتيبي، المرجع السابق، ص 105
12- فاضل زيدان محمد، سلطة القاضي الجنائي من تقدير الأدلة الجنائية، الطبعة الثالثة، دار الثقافة للنشر والتوزيع عمان، 2010 ، ص 320
13- مؤيدي هذا الرأي الأستاذ مسعود زبدة، إذ يعتبر أن هذه الآثار هي عبارة عن دلائل مادية مستند في ذلك إلى ما أشارت اليه المادة 41 من ق إ ج ” كما تعتبر الجناية أو الجنحة متلبسا بها إذا كان الشخص المشتبه في ارتكابه إياها في وقت قريب جدا من وقوع الجريمة قد تبعه العامة بالصياح أو وجدت في حيازته أشياء أو وجدت آثار ودلائل تدعو إلى افتراض مساهمته الجناية أو الجنحة”. لمزيد من التفاصيل أنظر مسعود زبدة، القرائن القضائية مرجع سابق، ص 45
14- فاضل زيدان، المرجع السابق، ص 149.
15- أحمد أبو القاسم، الدليل الجنائي المادي ودوره في إثبات جرائم الحدود والقصاص، الجزء الأول، أطروحة دكتوراه، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1993 ، 225 ، ص 224
16- أحمد أبو القاسم، المرجع نفسه، ص 42 .
17- فرج بن هلال بن محمد العتيبي، المرجع السابق، ص 107.
18- كوثر أحمد خالند، الإثبات الجنائي بالوسائل العلمية، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية القانون والسياسة، جامعة صلاح الدين، العراق، 2007 ، ص 290
19- بوشو ليلى، قبول الدليل العلمي أمام القضاء، مذكرة من أجل الحصول على شهادة الماجستير في الحقوق، كلية الحقوق، جامعة الجزائر، 2010 ص 70 .
20 – مسعود زبدة القرائن القضائية بدون طبعة، طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعة وحدة الرغاية، الجزائر، 2000 ، ص 65 .
21- أنظر المادة 50 ق إ ج.
22- شحاتة عبد المطلب حسن، حجية الدليل المادي في الإثبات، دون طبعة، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2005 ، ص 85
23- بوشو ليلى، المرجع السابق، ص 71 .
24- كوثر أحمد خالند، المرجع السابق، ص 292
25- بوشو ليلى، المرجع السابق، ص 73 .
26- التفتيش “إجراء تقوم به السلطة القضائية للإطلاع على محل يتمتع بحرمة خاصة للبحث عن الأدلة اللازمة للتحقيق الجنائي، لمزيد من التفاصيل أنظر توفيق محمد الشاوي، حرمة الحياة الخاصة ونظرية التفتيش، الطبعة الأولى منشأة الناشر المعارف بالإسكندرية 2006 ، ص 27
27- نافع تكليف مجيد دفار العماري، البصمة الوراثية ودورها في الإثبات، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية القانون، جامعة بابل العراق، 2009 ، ص 80
28- توفيق محمد الشاوي، حرمة الحياة الخاصة ونظرية التفتيش، الطبعة الأولى منشأة الناشر المعارف بالإسكندرية 2006 ، ص 247 .
29- نافع تكليف مجيد نصار العماري، المرجع السابق، ص 81 .
30- هاشم محمد علي الفلاحي، حجية البصمة الوراثية في قضايا النسب، الدفعة السادسة عشر، وزارة العدل، المعهد العالي للقضاء، اليمن، 2010 ، ص26.
31- هاشم محمد على الفلاحي، المرجع السابق ص 34 .
32- هاشم محمد على الفلاحي، المرجع نفسه، ص 39.
33- هاشم محمد على الفلاحي، المرجع نفسه، ص 41.
34- هاشم محمد على الفلاحي، المرجع السابق، ص 42 .
35- بوشو ليلى، المرجع السابق، ص 54 .
36- بوزور فاطمة، الشرطة العلمية ودورها في إثبات الجريمة، مذكرة نهاية الدراسة لنيل إجازة المدرسة العليا للقضاة، الدفعة 16،2007/2008،ص 8.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً