مقاربات نظرية في مفهوم السلطة وواجباتها
قيل لأحد النبلاء: لماذا لا تبني لك داراً؟ فقال ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر. «(1).
و تأسيساً على هذه الرؤية يُمكن أن يُفهَم الواقع المزري لنبلاء بني البشر وشرفائهم، و عبر التاريخ الإنساني، في علاقاتهم مع سلطات بلدانهم التي تعمل فيهم تنكيلاً و تشريداً قسرياً و قد عُرِف عن السلطة، و من خلال تاريخها الطويل، احتقارها لمواطنيها، و تسخيرهم لخدمة مصالحها الشخصيّة؛ إذ رفع الحكام سيف البغي على رقاب شعوبهم، و عاثوا فيهم فساداً و تخريباً و تسلّطاً و إرهاباً، و حكموا بلدانهم حكماً دكتاتوريّاً فرديّاً، و اعتبروا أنفسهم أوصياء و أسياداً، و أصحاب سلطة مطلقة على شعوبهم.
و يروى أنّ ملك فرنسا لويس الخامس عشر وقف في الثالث من آذار (مارس) 1716م أمام برلمان باريس قائلاً(2): » في شخصي وحده تجتمع السلطة، و لي وحدي تعود السلطة التشريعيّة دون منازع أو حسيب.
النظام العام بمجمله، يستمدّ وجوده من وجودي، و أنا حاميه الأول. شعبي و أنا واحد. حقوق و مصالح الأمّة، التي يجرؤون على جعلها جسماً منفصلاً عن الملك، هي، بالضرورة، متّحدة بحقوقي و مصالحي أنا، و لا ترتاح إلاّ بين يدي.».
و عندما يتحدّث الملك لويس الخامس عشر، معظّماً نفسه بكلّ هذه الفردية، و السطوة المطلقة، فإنّه لا يختلف كثيراً عن أيّ طاغية قديم، أو طاغية معاصر؛ لأنّ الحاكم الجائر يظنّ نفسه أنّه الإله المتوّج بالمنعة و السطوة، و ما على بني البشر إلاّ طاعته، و طاعة أولاده و نسائه و جواريه و أفراد قبيلته.
و من هنا فإنّ السطوة المطلقة التي يمارسها الحاكم المستبدّ على أفراد شعبه، و قدرته السحريّة الماكرة على تطويع الناس لأن يكونوا خدماً أذلاّء تابعين له، منقادين لأوامره انقياداً مطلقاً، جعلت كثيراً من الناس في العصور القديمة يتصورون أنه لا بدّ أن يكون الحاكم من طبيعة غير طبيعة البشر، فهو من طبيعة إلهيّة، و هو إله أو ابن الإله. و هو يحكم بتفويض مباشر أو غير مباشر من الله.(3).
و حتّى تستطيع السلطة السياسيّة الجائرة أن تقود الناس قطيعاً وراءها، لا بدّ من أن تحصّن نفسها بمجموعة من القادة الاستبداديين، الذين يعزّزون خطاباتها الفكرية و خططها السياسيّة و العسكريّة، إذ يساعدها هذا التعزيز على أن تصبح مطلقة شاملة في جميع البنيات الإنسانيّة العامّة: السياسيّة و الاقتصاديّة و الاجتماعيّة.
و بسيف هؤلاء القادة الاستبداديين تتوّج نفسها تاجاً مقدّساً فوق رؤوس العباد؛ و بالتالي تمارس عليهم قهراً، و تصنع منهم أزلاماً و خدماً، و تضعفهم و تفتتهم طوائف و قبائل، وتشكّل فيما بينهم تبايناً طبقيّاً حادّاً، يقسمهم فئتين: » فئة حاكمة تتولى السلطة السياسيّة و تصدر القرارات و الأوامر ، و فئة أخرى محكومة لا يكون لها إلاّ الطاعة و التنفيذ.
و نظراً إلى ما للسلطة السياسيّة في الدولة من صفات ذاتيّة خاصّة فقد أطلق عليها الفقه الفرنسي اسم «السيادة،« و صفة السيادة مقتضاها أنّ سلطة الدولة سلطة عليا لا يسود عليها شيء و لا تخضع لأحد، و لكن تسمو فوق الجميع، و تفرض نفسها على الجميع.»(4).
و حتّى تستطيع السلطة الاستبداديّة أن تسمو فوق الجميع، عليها أن تعمل ـ و بكلّ جهودها المدروسة و المنظّمة ـ على إبقاء شعوبها جاهلة، لأنّها ترى في الجهل واحداً من الشروط الأساسيّة التي تمثّل قوتها، وتعزز في هذه الشعوب فكرة قبول التقاليد الدينيّة، بحذافيرها و دون نقاش.
و ليس غريباً أن تتقيّد هذه الشعوب بالتقاليد الدينيّة، لأنّها شعوب مسحوقة بعملها اليوميّ و محرومة من الترفيه و من النشاط الفكري.
إذ يجد المواطن نفسه و منذ الصغر، و في مختلف ظروف حياته، محاطاً بهذه التقاليد التي يزرعها في أعماقه جمع من المسمّين الرسميّين من كلّ الأصناف الكهنوتيّة، بحيث تصبح هذه التقاليد ضرباً من العادات الذهنيّة و الأخلاقيّة الأقوى في معظم الأحيان من عقله السليم الطبيعي(5).
إذا كان من المعروف أنّه يكمن وراء انتشار السلطات الاستبداديّة في جميع أنحاء العالم، أمراض محليّة متشابهة، تظهر في أمكنة متعددّة متباعدة ، وتختلف نسبة تأثيرها ، فإنّ هذا التباعد في المكان الذي تظهر فيه الأنظمة الاستبداديّة، وهذا الاختلاف في النموذج والشكل،تبعاً لاختلاف الزمان والمكان، لا يمنع من كون هذه الأنظمة جميعها متّصلة مترابطة.
ففي عالم أصبح من المستحيل فيه على بلد أن يحيا منعزلاً، ومكتفياً بذاته، لا مجال للنكران بأنّ ظهور نظام استبداديّ في مكان ما يؤدّي إلى ظهوره في مكان آخر عن طريق العدوى(6)، وتبادل التأثير، و العلاقات التجاريّة و الاقتصاديّة و السياسيّة و الثقافيّة بين المكانيين. وإذا كان للسلطة جميع هذه القدرات الوبائيّة التدميريّة المتأصّلة ، فما هو تعريفها؟.
تشير الموسوعة الفلسفيّة إلى أنّ السلطة(Autorité,Authority)، «مفهوم (…) يشير إلى النفوذ المعترف به كليّاً لفرد أو نسق من وجهات النظر أو لتنظيم مستمدّ من خصائص معيّنة أو خدمات معيّنة مؤدّاة.
و قد تكون السلطة سياسيّة أو أخلاقيّة أو علميّة.»(7).
و ينضوي تحت هذا المفهوم عدة أنواع من السلطات:
1 ـ السلطة النفسيّة: و هي ما يطلق عليها اسم السلطان الشخصي، و التي تتمثّل في قدرة الإنسان على فرض إرادته على الآخرين، نظراً لقوّة شخصيته و شجاعته، و قدراته العقليّة المتفوّقة.
2 ـ السلطة الشرعيّة: و هي السلطة المُعترف بها في القانون، كسلطة الحاكم و الوالد و القائد.
3 ـ السلطة الدينيّة: و هي مستمَدّة من الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه، و من سنن الرسل، و قرارات المجامع الدينيّة المقدّسة، و اجتهادات الأئمة.
4 ـ سلطة الأجهزة الاجتماعيّة التي تمارس السلطة:، كالسلطة السياسيّة، و التربويّة، و السلطة القضائيّة و غيرها(8).
و يعرّف جان وليام لابيار السلطة قائلاً(9): «السلطة هي الوظيفة الاجتماعيّة التي تقوم على سنّ القوانين، و حفظها، و تطبيقها، و معاقبة من يخالفها، و هي التي تعمل على تغييرها و تطويرها كلّما دعت الحاجة: إنّها الوظيفة التي لا غنى عنها لوجود الجماعة ذاته، لاستمرارها، و لمتابعة نشاطها. من هنا بالذات، إنّها تلك الوظيفة القائمة على اتّخاذ المقررات التي يتوقّف عليها تحقيق الأهداف التي تتابعها الجماعة.
فـ (…) التنظيم، و التقرير، و الحكم، و العقاب، هي المهامّ التي تنتظر السلطة، في أيّة جماعة كانت.». على أنّ هذه الوظيفة الاجتماعيّة عندما تنحرف عن مسارها الأخلاقيّ و تكرّس نفسها لخدمة فئة من أصحاب النفوذ، فإنّها تصبح المنتهِكة الأولى للقوانين، و المتجاوزة و المحرِّفة لها، بحيث تصبح هذه القوانين أداة طيّعة تخدم مصالح أصحاب النفوذ، و تضرّ بمصالح الآخرين من الطبقات الأخرى، و تستعبدهم في آن. و هنا تنفصل السلطة عن الشعب، «و تدافع عن مصالح المستغلّين ـ بكسر الغين ـ و هم الأقليّة في المجتمع.
و يمارسها الأشخاص الذين يصبح الحكم بالنسبة إليهم مهنة (الموظفون و الجيش و البوليس.. الخ). [أمّا] المؤسسات الرئيسيّة الهامّة الملحقة بالسلطة العامّة [ف] هي المحاكم والسجون و غيرها من المؤسسات العقابيّة.»(10).
و في ظلّ سيادة أقليّة من الناس يسود الاستغلال و الاستعباد، و تتحوّل الشرائح الاجتماعيّة العريضة إلى مجموعة من العبيد المنتجين، الذين يقدّمون طاقاتهم الإنتاجيّة إلى فئة الأقليّة، و من هنا فإنّ الدولة التي تكون على رأسها سلطة مستبدّة طاغية، ستكون دائماً «تحت تصرف تلك الطبقة من المجتمع التي لها سند قانوني في ملكية أدوات الإنتاج.
و ما تصدره الدولة من قوانين، إنّما تصدره لصالح هذه الطبقة، كما أنّ حقّ الملكيّة الذي تحافظ عليه ليس إلاّ حقّ تلك الطبقة في ملكيتها و من ثمّ فإذا كان عدد الذين يملكون، في دولة من الدول، ضئيلاً فإنّ القانون سوف يتحيّز لصالح هذه القلّة. و إذا كانت الجماعة بأكملها هي التي تملك، فسوف يتحيّز القانون لصالح الجماعة كلّها ضدّ المصلحة الخاصّة لبعض الأفراد.»(11).
على أنّ السلطة الاستبداديّة، و من خلال ممارساتها و أدوارها التاريخيّة، لا تفكر مطلقاً في أن يكون المجموع الإنسانيّ الذي تحكمه مالكاً، لأنّ امتلاك هذا المجموع سيدفعه إلى أن يتحرر اقتصاديّاً و بالتالي يدفعه إلى التمرّد و كسر عصا الطاعة المفروضة عليه، و هذا لا تريده السلطة الاستبداديّة، لأنّ التحرر الاقتصادي للمجموع الإنسانيّ مقدّمة للتحرر السياسي و الإنساني.
و قديماً قال فقهاء السلطة الاستبداديّة: «جوّع كلبك يتبعك»(12)، «فالدولة المستبدّة و المستغِلّة تطمح دائماً إلى التعالي على أفراد شعبها، و إلى الانفصال عن المجتمع، و إلى وضع نفسها فوقه. و هي تنجح في ذلك بقدر ما يكون تعبيرها عن مصالح الطبقة [المستغِلّة] السائدة اقتصادياً.»(13).
إنّ الحكّام الطغاة، و منذ أقدم العصور، اعتقدوا أنّ سعادتهم يمكن أن تتحقق بوسائل تستلزم فرض البؤس على الآخرين(14).
و من أهمّ مقوّمات هذه السعادة عند هؤلاء الطغاة،جعل الآخرين عبيداً لهم، و استغلالهم، و إذلالهم، و السطو على ممتلكاتهم و اغتصاب نسائهم، و حبك المؤامرة ضدّهم تمهيداً لقتلهم. و بهذا الصدد يروي الكتاب المقدّس ـ كتاب العهد القديم ـ قصة الملك داود الذي أُعجِب بزوجة أحد جنوده، بَشْشَبَعَ بنت أليعام، الجميلة جداً، فأرسل رسلاً، و أحضروها له، ثمّ اغتصبها، و عندما أعلمته المرأة بحملها منه، سرعان ما دبّر مكيدة لزوجها الجندي أوريا الحثيّ ، و ذلك بأن أمر قائد جيشه يوآبَ بأن يجعل الجنديّ أوريا الحثيّ في وجه الحرب الشديدة.
و امتثل القائد لأمر الملك، و قُتِل الجندي أوريا، و ضمّ الملك داود زوجته الجميلة بَشْشَبَع بنت أليعام إلى حظيرة ممتلكاته و نسائه(15).
و نظراً لفعل السلطة الاستبداديّة، التخريبيّ، و تشويهها لمجل العلاقات الاجتماعيّة و الإنسانيّة، فقد اشترط الفلاسفة و الفقهاء ـ و درءاً لجور الحكّام و الخلفاء و فسادهم ـ مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوافر في الحاكم أو الخليفة، حتّى يستطيع أن يكون كفؤاً للمنصب السلطويّ الخطير الذي يتقلّده. فالفلاسفة السياسيّون رأوا ضرورة أن يكون الحاكم ذكيّاً و حكيماً و فاضلاً خلوقاً، و اتّفقوا عل أنّ المرء لا يمكن أن يمتلك فضيلة الذكاء الحقيقيّة دون أن يكون في الواقع حكيماً، و لا يمكن أن يكون حكيماً دون أن يكون فاضلاً خلوقاً، و على معرفة بالفنون التطبيقيّة، و لا يمكنه أن يكون حكيماً إلاّ إذا اتصف بجميع صفات الحاكم الفاضل و نزعاته.
و من هنا فإنّ مثل هذا الشخص يجب أن يحكم إخوته البشر من أجل مساعدتهم و ذلك بالحثّ و الإقناع إن أمكن، أو بالإكراه و الإلزام إن لم يكن ذلك ممكناً. و من مهمّته أيضاً أن ينمي الفضائل الإنسانيّة لديهم في حدود إمكانهم(16).
أمّا فقهاء المعتزلة فقد اعتبروا أنّه يجب أن تتوافر في الإمام مجموعة من الشروط، باعتباره حاكماً أعلى في الدولة، و هذه الشروط هي:
1 ـ العدالة على شروطها الجامعة.
2 ـ العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في الأمور المتجددة و الأحكام.
3 ـ سلامة الحواسّ، من السمع و البصر و اللسان.
4 ـ سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة و سرعة النهوض.
5 ـ الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة و تدبير المصالح.
6 ـ الشجاعة و النجدة، و حماية الأمّة، و جهاد العدو.
7 ـ النسب.. أي أن يكون من قريش.
و من المعتزلة من لا يشترط النسب القرشيّ، و منهم من يشترطه لأسباب سياسيّة تضمن وحدة الأمّة(17).
و يحدد ابن طباطبا(18)أهمّ خصال الحاكم الفاضل القادر على قيادة الأمّة، و رعاية حقوق أفرادها. و هذه الخصال هي:
1 ـ العقل: و هو أصل هذه الخصال و أفضلها، و به تُساس الدول و المِلل.
2 ـ العدل: و هو الذي تزداد به الأموال، و تعمر به الأعمال، و تُستصلح به الرجال.
3 ـ العلم: و هو ثمرة العقل و به يستبصر الملك، و يأمن الزلل في قضاياه و أحكامه، و به يتزيّن الملك في عيون العامّة و الخاصّة، و يصير به معدوداً في خواصّ الملوك.
4 ـ الخوف من الله: و هذه الخصلة هي أصل كلّ بركة، فالملك متى خاف من الله أمِنَه عباد الله.
5 ـ العفو عن الذنوب و حسن الصفح عن الهفوات: و هذه أكبر خصال الخير، و بها تُستمال القلوب، و تصلح النيّات.
6 ـ الكرم: و هو الأصل في استمالة القلوب و تحصيل النصائح من العالم، و استخدام الأشراف.
7 ـ الهيبة: و بها يُحفظ نظام المملكة و يُحرس من أطماع الرعيّة.
8 ـ السياسة و الوفاء بالعهد: و السياسة هي رأس مال الملك، و عليها التعويل في حقن الدماء و حفظ الأموال و منع الشرور و قمع الدُعّار و المفسدين. و الوفاء بالعهد يسهم في طمأنينة النفوس، و وثوق الرعيّة بالملك إذا طلب الأمان منه خائف، أو أراد المعاهدة منه مُعاهِد.
9 ـ الاطلاع على غوامض أحوال المملكة، و دقائق أمور الرعيّة، و مجازاة المحسن على إحسانه و المسيء على إساءته.
تشير الأدبيّات التاريخيّة و الفقهيّة الإسلاميّة إلى أنّ المسلمين ـ باختلاف فرقهم الإسلاميّة ـ لم يتفقوا على شروط واحدة تتوافر في الشخص حتّى تؤهله لأن يكون خليفةً أو حاكماً للمسلمين يرعى مصالحهم، و يدافع عن أوطانهم، و يقيم العدل، إلاّ أنّهم اتّفقوا جميعاً على أن يكون متصفاً بالعدل و الورع و العلم(19)حتّى لا يُصاب المسلمون منه بالأذى و حتى يكون قادراً على أن يعفّ عن أموالهم و ممتلكاتهم، و أعراضهم، إلاّ أنّه من المستغرب حقّاً أنّ بعض الفقهاء يجيزون أن يكون الإمام فاجراً، و يعللون ذلك، بأنّ من ينتصر بالسيف و القوة وجبت على المسلمين والرعيّة طاعته.
و يُروى عن الإمام أحمد بن حنبل(20)أنّه قال(21): «و من غلب بالسيف حتّى صار خليفة و سمّي أمير المؤمنين لا يحلّ لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين.».
و بقدر ما يشير رأي الإمام أحمد بن حنبل إلى الابتعاد عن تعاليم الإسلام ، و مفاهيم الرسول الكريم (ص) و صحابته الأوائل، فإنّ هذا الرأي على درجة عالية من احتقار عقول المسلمين، و طموحهم إلى إقامة العدل، و العمل بما جاء به كتاب الله و سنّة نبيّه، و هو دعوة إلى إلغاء طاقة العقل الإسلاميّ لأن يكون بنّاءً و مسهماً في بناء الحضارة الإنسانيّة، و مجدداً في روح النصوص الفقهيّة.
و بهذا الصدد تشير الأحاديث النبويّة إلى أنّ النبيّ محمد (ص) كان يدعو إلى معارضة الحاكم الجائر، و عدم طاعته.
و يُروى عنه أنّه قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، و «من مشى مع ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام»(22)، و «إنّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه.»(23).
و كان بعض أئمة المسلمين من يرى ضرورة الثورة على السلطان الظالم استناداً إلى الحديث النبويّ القائل: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(24).
على أن بعضهم الآخر رأى أنّ السلطان الكافر العادل خير لرعيّته من السلطان المسلم الجائر، و يروي ابن طباطبا(25) الخبر الآتي: «لمّا فتح السلطان هولاكو بغداد في سنة ستّ و خمسين و ستمائة أمر أن يُستفتى العلماء أيّما أفضل: السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ ثمّ جمع العلماء بالمستنصريّة لذلك، فلمّا وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب، و كان رضيّ الدين علي بن طاووس حاضراً هذا المجلس، و كان مقدّماً محترماً، فلمّا رأى إحجامهم تناول الفتيا و وضع خطّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده.».
و هنا لا يهمّ هذا المقال أن يناقش رأي الإمام أحمد بن حنبل، و مدى صحته، لكن ما يهمّه منه هو: إلى أيّ مدى أسهم الفقهاء في الدولة الإسلاميّة في مناصرة الخلفاء و الحكّام على جورهم و فجورهم؟ و إلى أيّ مدى اعتبر بعض الخلفاء و الحكّام في الدولة الإسلاميّة هذا الرأي مبرراً ينطلقون منه لتأسيس سلطة خلافتهم على الاستبداد و القهر، و اعتبار كلّ من يخالفهم الرأي متمرّداً عليهم، و خارجاً على طاعتهم، و بالتالي خارجاً على رأي الأمّة.
إذا كان معظم الفقهاء و المؤرخين اتفقوا جميعاً على أنّه يجب أن تتوافر في الحاكم، سواء أكان خليفة أم ملكاً، أم غير ذلك، صفات العدل و الورع و العلم، هذه الصفات التي تجعل من يتحلّى بها قادراً على قيادة الأمّة و سياستها، و جعل مواطنيها ينعمون بالسلام و الأمان، و في منأى عن الدكتاتوريّة و الاستبداد، فإنّ معظم الحكّام و عبر تاريخهم الطويل كانوا مستبدّين، فقد أحدثوا في مجتمعاتهم شروخاً طبقيّة واسعة، و سلّموا مقاليد دولهم لمجموعة من الوزراء الطغاة و الولاة الظلمة، و امتلكوا الثروات الكثيرة، و القصور الفاخرة المترعة باللذائذ، و ما أقاموا عدلاً في توزيع ثروات البلاد.
بل غدت مدنهم مليئة بالفقراء و الجياع، و «خير ما يُستدلّ به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في [بناء] و فخامة القصور و عظمة الحفلات و مراسيم التشريفات و علائم الأبّهة و نحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل.»(26).
يُضاف إلى ذلك أنّ الكثير من هؤلاء الحكّام كانوا فسقة و جهلة، و غابت عن حياتهم مظاهر الورع و العفّة والاهتمامات العلميّة و المعرفيّة، و طغى عليها التهالك على امتلاك النساء و الجواري، و الانهماك بالملذّات من طعام و شراب، و طرب و موسيقى. ومن يقرأ ليالي ألف ليلة وليلة التي هي نتاج معرفي ومزيج حضاري للأقوام العربية والفارسية والهندية والتركية والصينية ستتراءى أمامه مزيد من ملامح هؤلاء الحكام وممارساتهم في قصورهم وبين أفراد شعوبهم المستلبة قهرا وخنوعا واستعبادا.
و اخذ إمام عن المرجعين الآتين:
ناصيف، د. عبد الله إبراهيم: السلطة السياسيّة/ضرورتها و طبيعتها، دار النهضة العربيّة، القاهرة، طبعة 1983م، ص 4.
بدوي، د. ثروت: النظم السياسيّة، دار النهضة العربية، القاهرة، طبعة 1986م، ص 40.
(5) – باكونين، ميخائيل: الإله و الدولة، تعريب جلال المخ، دار المعارف، سوسة/تونس، طبعة 1982م، ص 22.
(6) ـ دوفرجيه، موريس: في الدكتاتوريّة، ترجمة د. هشام متولي، منشورات عويدات، باريس/بيروت، الطبعة الثانية، تشرين أول، 1977م، ص 39.
(7) – لجنة من العلماء و الأكّاديميين السوفياتيين: الموسوعة الفلسفيّة،بإشراف: م. روزنتال؛ ب. يودين، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة السادسة،تشرين الأول1987م،دون محقق، دار صادر، بيروت، دون تاريخ، ص 248 ـ 249.
(8) – صليبا، د. جميل: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني/مكتبة المدرسة، بيروت، طبعة 1982م، الجزء الأوّل، ص 670.
(9) – السلطة السياسيّة، ص 49.
(10) – لجنة من العلماء و الأكاديميين السوفياتيين، ص 249.
(11) – لاسكي، هارولد: الدولة في النظرية و التطبيق، ترجمة كامل زهيري و أحمد غنيم، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، تشرين الثاني 1963م، ص 270.
(12) – عن/الجرّ، د. خليل: المعجم العربي الحديث ـ لاروس، مكتبة لاروس، باريس، الطبعة الأولى 1973م، قسم الأمثال العربيّة، ص 1311.
(13) – أوليدوف، أ. ك: الوعي الاجتماعيّ، ترجمة ميشيل كيلو، دار ابن خلدون، بيروت، الطبعة الثانية 1982م، ص 162.
(14) – راسل، برتراند: السلطة و الفرد، ترجمة د. لطيفة عاشور، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة الطبعة الأولى 1994م، ص 106.
(15) – لمزيد من الاطلاع على تفاصيل هذه القصة ينُظر: الكتاب المقدّس ـ كتاب العهد القديم ـ، سفر صموئيل، الأصحاح الحادي عشر.
(16) – باتروورث، شارلز: الدولة و السلطة في الفكر السياسيّ العربي، ترجمة د. محمد أحمد شومان، دار الساقي، بيروت/لندن، الطبعة الأولى1990م، ص13ـ 14.
(17) – عن/عمارة، د. محمد: نظرية الخلافة، دار المعارف للطباعة و النشر، سوسة/تونس، طبعة 1994م، ص53.
و أخذ عمارة عن/الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البغدادي (ت450هـ/1058م): الأحكام السلطانيّة، طبعة القاهرة، 1960م، ص 6.
(18) – الفخري في الآداب السلطانيّة و الدول الإسلاميّة،دون محقق، دار صادر، بيروت،دون تاريخ، ص 17، 18، 19، 20، 23، 24.
(19) – لمزيد من الاطلاع على التباين في صفات الخليفة أو الحاكم عند الفرق الإسلاميّة يُنظر: عمارة، د. محمد: نظرية الخلافة، من ص 53 إلى ص 56.
(20) – الإمام أحمد بن حنبل: (أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الله، الشيباني الوائليّ، 164 ـ 241هـ/780 ـ 855م): إمام المذهب الحنبليّ، و أحد الأئمّة الأربعة. أصله من مرو، و كان أبوه والي سرخس. و ولِد ببغداد. فنشأ منكبّاً على طلب العلم و سافر في سبيله أسفاراً عديدة إلى الكوفة و البصرة و مكة و المدينة و اليمن و الشام و المغرب و الجزائر و فارس و خرسان. سجنه الخليفة العباسيّ محمد المعتصم ثمانية و عشرين شهراً، و لمّا تولّى المتوكّل بن المعتصم الخلافة أكرم الإمام ابن حنبل و قدّمه و مكث مدّة لا يولّي أحداً إلاّ بمشورته، و توفي في عهد المتوكّل.
الزركليّ، خير الدين: الأعلام،دار العلم للملايين،الطبعة الثانية عشرة، شباط( فبراير)، 1997م، 1/203.
(21) – عن/عمارة، د. محمد: نظرية الخلافة، ص 54.
(22) – عن/العلويّ، هادي: السياسة الإسلاميّة،دار صحارى ، بودابست،الطبعة الثانية 1991م، ص 87.
(23) – أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم: كتاب الخراج، دار المعرفة ، بيروت/مؤسسة نشر منابع الثقافة الإسلاميّة، قم (إيران)، طبعة 1399هـ/1979م، ص10.
(24) – عن/الورديّ، د. علي: منطق ابن خلدون، دار كوفان، لندن، الطبعة الثانية 1994م، ص 92.
(25) – الفخري في الآداب السلطانيّة و الدول الإسلاميّة، ص 17.
(26) – الكواكبي، عبد الرحمن: طبائع الاستبداد، ص 51.
اترك تعليقاً