استناداً الى القواعد الأصولية العامة القاضية بأن ” اليقين لا يزول بالشك “، وأن ” الاصل بقاء ما كان على ما كان ” ، وأن ” الأصل في الصفات العارضة العدم ” وغيرها(1). فإنه اذا فقد شخص ، فأنه يعتبر حياً في حق ماله وزوجته ، فلا تتزوج زوجته ، ولا يورث عنه ماله(2). بل تبقى أمواله ملكاً له ، كما هو الحال في حياته الحقيقية اليقينية قبل فقده(3).ويستمر ذلك الحال الى ان يعرف مصير المفقود بالبينة ، او يحكم القاضي بوفاته على الوجه الشرعي(4). فاذا ما رجع سالماً يكون قد احتيط له بالحكم المتقدم، أما اذا أثبتت وفاته ، او حكم القاضي بها على الوجه الشرعي ، فيعتبر تاريخ صدور الحكم تاريخاً لوفاته(5). فتعتد زوجته من ذلك التاريخ عدة الوفاة(6). وتقسم تركته على ورثته الحاضرين من ذلك التاريخ فحسب ، وليس على من مات منهم قبله ، وان كان موجوداً وقت الفقد ، وذلك لعدم تحقق شرط الميراث فيه(7). وهذا اذا لم يكن الحكم بالوفاة مبيناً على أدلة وبينات مثبتة للوفاة قبل الحكم بزمن معين ، والا فعندها يتم اسناد الحكم الى ذلك التاريخ ، واعتبار المفقود ميتاً من وقت ثبوت الوفاة لا من وقت الحكم بها ، فيكون بذلك حكم القاضي مظهراً للوفاة ومقرراً وليس منشئاً لها(8). وأما بالنسبة الى الأموال التي كانت قد وقفت للمفقود استناداً إلى ميراثه من مورثه ، أو التي يستحقها بموجب وصية او هبة ، فان المفقود بالنسبة إليها يعتبر ميتاً من تاريخ فقده ، لذا فانه لا يرث نصيبه الذي حجز له من تركة مورثه ، ولا يتملك ما يستحقه مما نتج عن وصيةٍ او هبةٍ(9).
وأما اذا ظهر المفقود حياً بعد الحكم بوفاته ، فان لظهوره أثراً بالنسبة الى زوجته وامواله . فبالنسبة الى زوجته ، فان للفقهاء المسلمين فيها عدة اقوالٍ ، وذلك بعد اتفاقهم على ان المفقود اذا عاد قبل ان تتزوج امرأته او بعد العقد عليها وقبل دخول الثاني بها ، فهي زوجته وترد اليه ، لان النكاح انما صح في الظاهر دون الباطن ، فاذا قدم زوجها الاول تبين ان النكاح الثاني كان باطلاً ، لانه صادف إمرأة ذات زوجٍ فكان باطلاً ، وليس عليه صداق ، لانه نكاح فاسدٌ لم يتصل به دخول ، ويعود الزوج بالعقد الاول كما لو لم تتزوج(10). أما اذا عاد الزوج الاول المفقود بعد دخول الزوج الثاني بها ، ففيه تباينت أقوال الفقهاء ،
فقال الحنفية : اذا قدم زوجها الاول وقد تزوجت بعد التربص ، فالعقد الثاني باطل وهي زوجة الاول ، فإن كان الزوج الثاني قد وطئها فعليه مهر المثل لا المسمى ، وتعتد من الثاني وترد على الاول(11).
وقال المالكية : اذا كان الزوج الثاني لا يعلم بحياة المفقود وقت الفقد ، او وقت الدخول ، فهي زوجته ، ويجب عليه دفع الصداق الذي اصدقها الى الزوج الاول ، وذلك لان الثاني تزوجها بعقدٍ شرعي بناءً على حكم قضائي ، وقد دخل بها بمقتضى ذلك العقد الذي بني على أسس صحيحةٍ ، لذا فانها تكون له(12).أما الامام الشافعي فانه قد نقل عنه قولان ، يؤيد كل واحدٍ منهما احد الجانبين(13).
وقال الحنابلة : يخير زوجها الاول بين اخذها فتكون زوجته بالعقد الاول ، وبين اخذ صداقها وتكون زوجة الثاني وقد نقل اجماع الصحابة على ذلك .وعلى هذا فإذا أمسكها الزوج الاول ، فهي زوجته بالعقد الاول ، ولا يحتاج الزوج الثاني الى طلاق ، وفي قول يحتاج الى طلاق ، واذا لم يخترها الزوج الاول تكون للثاني ، ولم يذكروا لها عقداً جديداً ،
فقال ابن قدامة : “والصحيح انه يجب ان يستأنف لها عقداً ، لاننا تبينا بطلان عقده بمجيء الاول ، وعليه يحمل قول الصحابة رضوان الله عليهم “(14).
وأما عن أثر ظهور المفقود حياً بعد الحكم بوفاته في أمواله ، فانه يتمثل في انه يجب على ورثته اعادة امواله اليه ، ولكن ما الذي يجب ان يعيدوه اليه ، أهو جميع ماله ؟ أم هو ما بقي منه ؟ هذا ما اختلف فيه الفقهاء المسلمون ؛ فذهب بعضهم الى انه تعاد اليه جميع أمواله ، الحاضرة بعينها ، والهالكة والمستهلكة بقيمتها(15). وقد تبنت بعض التشريعات هذا الرأي(16) . وهذا الرأي مرجوح ، وذلك لان تصرف الورثة بهذه الاموال كان بطريق شرعي ، لانه يستند الى حكم قضائي صحيح ، لذا فلا ضمان عليهم(17). لذلك فقد ذهب الجمهور الى انه يعاد للمفقود ما بقي من أمواله في أيدي الورثة(18). وهو ما تبنته غالبية التشريعات المقارنة(19) .وهو رأي جدير بالتأييد وذلك لمنطقيته وعدالته ، وان كان يؤخذ عليه عدم تمييزه بين الاموال التي تلفت او التي استهلكت ، والاموال التي تم التصرف بها . وذلك لانه ان كان يصلح لتسويغ عدم رجوع المفقود على ورثته بما يكون قد تلف او استهلك بين ايديهم من أمواله بناءً على السبب الصحيح ، فانه لا يصلح لتسويغ عدم رجوعه عليهم بما يكونوا قد تصرفوا به من هذه الاموال ، وعدم انتقال حقه الى المقابل (العوض) لتلك الاموال . وذلك لانه لا فرق بين ان يتسلم المفقود امواله التي بقيت بعينها في أيدي الورثة ، وبين ان يتقاضى المقابل او البديل الذي حل محلها .
وان القاعدة الفقهية (لا ضرر ولا ضرار) نفسها تعني الاخذ بهذا الحكم . ولان القول بغير ذلك يؤدي الى إثراء الورثة على حساب المفقود ، وتفضيلهم عليه في تملك الاموال المشار اليها دون سببٍ وجيه ، وخاصةً اذا اضحى المفقود معسراً بسبب اقتسام تركته ، وبعد ان عانى ما عاناه في فقده قبل عودته . إذن ، فليس من العدالة ان نزيد من شقائه بحرمانه من أخذ مقابل امواله التي تصرف بها الورثة ، لذلك فإنه يجب على القاضي تفسير النصوص التشريعية المتضمنة لرأي الجمهور المتقدم بهذا التفسير دونما سواه . وبعد ، فهذا هو الفقه الاسلامي يقف كالبنيان الشامخ امام اعتى النظم القانونية واكثرها تقدماً في العالم المعاصر ، وانه اذا كان كبار رجال القانون في العالم الغربي قد أشادوا بالتشريع الاسلامي واعترفوا بأنه يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث(20). فهل يجوز لنا نحن أهل هذه الشريعة الغراء ان نتخلى عنها ، وننقب عن القواعد التي تحكم سلوكنا وتنظم مجتمعاتنا في الشرائع الغربية ! ، إذن فإن صلاح امر مجتمعنا يتوقف بالدرجة الاولى على تطبيق شريعة الله جلَّ وعلا ، بشرط ان يكون هذا التطبيق بفهم رسوله الكريم عليه افضل الصلاة وأتم التسليم لهذه الشريعة .
وهذه هي كنوز الفقه الاسلامي بين أيدينا ، فيمكن لكل مشرعٍ مسلمٍ ان ينهل من بحورها في كل مجالات الحياة ، وفي مختلف افرع القانون ما شاء الله له من ذلك ، على ألا يتقيد بمذهبٍ معينٍ ، وإنما يتخير منها ما يساير ظروف مجتمعه الذي يشرع له . وقد وجد في الشريعة باب الاستحسان والمصالح المرسلة والقياس وذلك لكي تظل هذه الشريعة الغراء صالحة لكل زمانٍ ومكانٍ ، وفي ذلك يقول شيخ الاسلام ابن تيمية : ” لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من اجل العلوم ، وانما يعرف ذلك من كان خبيراً باسرار الشرع ومقاصده ، وما اشتملت عليه شريعة الاسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، وما فيها من الحكمة البالغة ، والرحمة السابغة ، والعدل التام . والله اعلم بالصواب ، واليه المرجع والمآب “(21).
______________________________
[1]- مصطفى ابراهيم الزلمي ، المصدر السابق ، ص131 .
2- محمد حمزة العربي ، المصدر السابق ، ص227.
3- المفقود يعتبر حياً في حق الاحكام التي تضره ، وهي التي تتوقف على ثبوت موته فلا تتزوج زوجته ولا يقسم ماله على ورثته ولا تفسخ اجارته ولا يفرق بينه وبين زوجته قبل ظهور الحال ويتعين على اصحاب المصلحة مراجعة المحكمة المختصة بغية تطبيق احكام الفصل الثاني من الباب السادس من قانون رعاية القاصرين المرقم 78 لسنة 1980م ، واستحصال حكم بموت المفقود . وقرار محكمة التمييز العراقية المرقم 254/ موسعة ، تاريخ القرار 29/8/1984م.مشار اليه في ابراهيم المشاهدي ، المصدر السابق ، ص235.
4- لا تثبت وفاة المفقود الا بحكم شرعي . قرار محكمة التمييز العراقية المرقم 447 / شخصية تاريخ القرار 29/3/1979م . مشار اليه في مجموعة الاحكام العدلية ، العدد الاول ، السنة العاشرة ، 1979م ، ص59.
5- المواد ( 95 العراقي ، 178 الاردني ، 119 اليمني ، 202 المشروع العربي الموحد ) .
6- عمر عبد الله ، احكام الشريعة الاسلامية في الاحوال الشخصية ، ط4 ، دار المعارف ، مصر ، 1963م ، ص663.
7- حسين علي درويش ، المصدر السابق ، ص80.
8- حسنين محمد مخلوف ، المصدر السابق ، ص217.
9- وهذا هو الرأي الراجح للفقه الاسلامي ومثله فقهاء الاحناف والمالكية ، وذلك لان استصحاب الحال ، وان كان يصلح سبباً لابقاء ما كان على ما كان ، الا انه لا يصلح لاثبات ما لم يكن ثابتاً من قبل ، وبما ان الاموال التي حجزت للمفقود من تركة الغير لم تكن ثابتة له عند فقده ، لذا فانها لا توزع على ورثته عند الحكم بموته ، بل ترد الى مستحقيها من ورثة المورث او الموصي . والى خلاف هذا الرأي ذهب فقهاء الشافعية والحنابلة ، حيث يرون ان حياة المفقود تظل مقدرة باستصحاب الحال الى ان يقوم الدليل على وفاته او يصدر حكم قضائي بموته ، أما قبل صدور الحكم فانه يعتبر حياً وتثبت له كل احكام الاحياء ، ومن ثم فانه يستحق نصيبه في تركة من يتوفى من أقربائه في اثناء فقده ، على ان يؤول هذا النصيب الى ورثته عند الحكم بموته . مصطفى السباعي وعبد الرحمن الصابوني ، المصدر السابق ، ص222.
0[1]- عبد الله محمد الجبوري ، المصدر السابق ، ص362.
1[1]- احمد حسن الظه ، المصدر السابق ، ص92 .
2[1]- الإمام مالك بن انس ، المدونة الكبرى ، المصدر السابق ، ج3 ، ص 449.
3[1]- ابن قدامة ، المغني ، المصدر السابق ، ج9 ، ص136 .
4[1]- المصدر نفسه ، ج9 ، ص137 .
5[1]- مصطفى السباعي وعبد الرحمن الصابوني ، المصدر السابق ، ص224.
6[1]- المواد (97 العراقي ، 171 الصومالي ، 120 التعديل اليمني لعام 1998م ) .
7[1]- مصطفى الرافعي ، الاحوال الشخصية في الشريعة الاسلامية والقوانين اللبنانية ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، لبنان ، دون سنة طبع ، ص211.
8[1]- عبد الوهاب خلاف ، شرح قانون المواريث الجديد ، ط1 ، مطبعة النصر ، مصر ، 1943م ، ص125.
9[1]- المواد (120 اليمني ،45 المصري ، 302 السوري ، 151 التونسية ، 115 الجزائري ، 203 المشروع العربي الموحد ) .
20- يراجع في الاشارة الى شهادات كبار رجال القانون الغربيين للشريعة الاسلامية ، والمؤتمرات الدولية التي أشادت بفضل هذه الشريعة ، مصطفى الزرقاء ، المصدر السابق ، ج1 ، بند 94 وما يليه ، ص229 وما بعدها .
[1]2- ابو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية ، مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج20 ، نسخة مصورة من الطبعة الاولى ، 1398هـ ، ص583.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً