الشهادة بين الشريعة والقانون
الدكتور عادل عامر
أن تبرم تصرفًا قانونيًا بإرادةٍ منفردة أو بالتراضي بين طرفين أو أكثر، فهذا يتيح لك الفرصة التامة لاختيار الشهود العدول الذين تثق بهم، كما يمكنك أن تلجأ للتوثيق زيادة في الاحتياط، لكن الظروف كثيرًا ما تملي عليك مالا تريده سواء كانت حوادث مفاجئة أو تصرفات اضطرارية، كتلك التي وصفها القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ} [المائدة:106].
فالموت قد لا يأتي في حضرة شهود مسلمين، فالإسلام يجيز في هذه الحالة شهادة غير المسلم، بل قد يسلِّم أحد المسافرين أمانة لأخيه، ولا يحضرهما أحد من المسلمين وقد تقع جرائم في مجتمعات النصارى أو بين الأطفال أو في مجالس النساء، فلا يشهدها إلا نصراني أو امرأة أو طفل.
ـ فما حكم الشهادة في هذه الأحوال وأشباهها ؟ نحن نعرف أن الشريعة تشترط للشهود شروطًا: أهمها الإسلام والعدالة وفيها العقل والصلاح ومنها المباشرة أي الإدراك، إذ لا شهادة إلا بعلم والعلم يحصل بالرؤية أو بالسماع أو باستفاضة الخبر ،وهي الشهرة التي تثمر الظن أو العلم في بعض الأمور، ثم الذكورة في الحدود والجراحات، وهذا كله يمكن توفيره في التصرفات أو الوقائع التي تدبرها مسبقًا أو في الأحوال العادية كجريمة تقع بين الناس :في السوق أو الشارع ويتوافر الشهود فننتقي من بينهم العدول، لكن الشواهد في الشريعة عديدة على جواز الاستشهاد بمن لا تقبل شهاداتهم في الأحوال العادية كغير المسلم والطفل والمرأة والفاسق، فأجاز الفقهاء الأخذ “بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضًا” واشترطوا أخذ شهاداتهم قبل تفرقهم وتتابع رواياتهم، ومثلها ما قد يقع بين النساء في أماكنهم الخاصة كالحمامات، وبين غير المسلمين أيضًا في دور عبادتهم أو بيوتهم وأماكن تجمعاتهم، فالجريمة التي تقع في مثل هذه الأحوال لا شاهد عليها إلا من أوجدتهم الظروف، وبالطبع في ترك شهاداتهم إضرار بالعدالة.
وأما التصرفات كالبيع الاضطراري في سفر أو غيره وحدوث الموت مع لزوم الوصية، كما في الآية التي أوردناها، حيث تفصل الشهود على الوصية في السفر عند حضور الموت { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال الخطابي: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة .
وقال أحمد : لا تقبل شهادتهم إلا في مثل هذا الموضوع للضرورة، وبعض المالكية جوَّز القضاء بشهادة غير العدول للضرورة، وشهادة من لا تعرف عدالته في الأمور اليسيرة . وقد أخرج أبو داود في سننه (3128) في باب “شهادة أهل الذمة، وفي الوصية، في السفر”.
(1) عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدًا من المسلمين يُشْهِده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، فأحلفهما بعد العصر باللّه ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا ولا كتما ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما .
(2) وله عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سَهمٍ مع تميم الداري وعَديّ بن بدّاء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصًا بالذهب، فأحلفهما رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم وعديّ، فقام رجلان من أولياء السَّهمي فحلفا لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: فنزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، [المائدة: من الآية106] .
وكذا رواه البخاري (2572). شهادات مردودة في الإسلام ومثلما اضطرتنا الضرورات لقبول شهادة من لا تقبل شهاداتهم في العادة نجد في الشريعة – اعتبارًا لطبائع البشر – ترك شهادات البعض رغم عدالتهم وإسلامهم كالعداوة والقرابة وإمكانية جر النفع أو دفع الضرر والزوجية القائمة، وفيها تفاصيل يحسن بنا أن نعرض لأدلتها من سنن أبي داوود(3125)، في باب من ترد شهادته: (1) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:أن رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ ردّ شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها لغيرهم.
قال أبو داود: الغِمْرُ (الحنة والشحناء)، والقانع: (الأجير التابع، مثل الأجير الخاص).وقوى الحافظ إسناده في التلخيص (6/28)، وفي إسناده سليمان بن موسى قال البخاري : عنده مناكير.
قال الترمذي:” والعمل عند أهل العلم في هذا أن شهادة القريب جائزة لقرابته واختلف أهل العلم في شهادة الوالد للولد والولد لوالده ولم يجز أكثر أهل العلم شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد و قال بعض أهل العلم إذا كان عدلا فشهادة الوالد للولد جائزة وكذلك شهادة الولد للوالد ولم يختلفوا في شهادة الأخ لأخيه أنها جائزة وكذلك شهادة كل قريب لقريبه و قال الشافعي لا تجوز شهادة لرجل على الآخر وإن كان عدلا إذا كانت بينهما عداوة وذهب إلى حديث عبد الرحمن الأعرج عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا “لا تجوز شهادة صاحب إحنة” يعني: صاحب عداوة، وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال لا تجوز شهادة صاحب غمر لأخيه يعني صاحب عداوة”.
موانع الشهادة في القانون ليس في القانون المصري ما يحول دون أداء الشاهد شهادته، لا الدين ولا العدالة فالناس أمام القانون سواء، بل يكفي أن يكون عاقلاً بالغًا ـ ولا ترد شهادة غير البالغين في الوقائع والأحداث، ولكنها تأتي على سبيل الاستدلال: نعم، يحظر القانون على الموظف العام والطبيب والمحامي أن يشهدوا بما علموه؛ بسبب أداء أعمالهم فيما لم يسمح لهم بنشره من أسرار، ما لم يكن فيه مخالفة للقانون فحينئذٍ يجب أن يتقدموا بشهاداتهم، ويجوز أن يشهدوا بطلب المحكمة إذا أذنت لهم السلطة بذلك فيما لا يجب عليهم الإبلاغ به .
وكذلك أحد الزوجين لا يشهد على الآخر بما يضيره – فيما عدا الجنايات والجنح – وكل من عدا أولئك من شهود لهم أن يشهدوا بما رأوه، وللقاضي أن يقبل الشهادة أو يطرحها بحسب ما يتوافر فيها من دلالات.
وبهذا يتضح أن في التشريع الإسلامي ضمانات يفتقدها القانون الوضعي رغم صعوبة التعاملات في زماننا الذي يستلزم التدقيق في قبول الشهادة، لاسيما وأن الغش أقل وقوعًا في المجتمعات القبلية المنغلقة، وها نحن نراه شائعًا في زماننا، ما يحثُّ أهل التقنين على الاعتبار بمراد الشرع القائم على أساس حفظ المال ضمن كليات خمس يقوم عليها التشريع الإسلامي.
—
5 يوليو، 2019 at 2:56 م
أيها اللص/ عادل
هذا المقال منشور لي في موقع الجماعة الإسلامية ٢٠٠٧ وموقع لواء الشريعة ٢٠٠٨ وسبق لك نشره مدعيا أنه من كتاباتك في منتدى كلية حقوق المنصورة فحسبنا الله ونعم الوكيل