كيف توظّف القوانين في مقال مميز
نادر جبلي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تجد الأنظمة غير الديمقراطية نفسها مُلزمة بوضع دساتير عصرية متقدمة، تقدم للعالم صورة وردية عن نظام الحكم وأحوال البلاد، فإذا تصفحنا دستور أعتى الدكتاتوريات، وجدناها تضم نصوصًا رائعةً في مجال الحريات والعدالة وحقوق الإنسان وسيادة القانون…إلخ. لكنها- في الواقع- تبقى نصوصًا على الورق، لا أثر لها على الأرض، حيث تعمل تلك الأنظمة على تعطيلها وتفريغها من مضامينها بوسائل شتى، منها القانون.
والقانون، بوصفه أدنى مستوىً من الدستور، يفترض به أن يحترم مبادئه ويتقيد بأحكامه ويعمل بهديه، وأن يسعى لتمكينه، وجعل أحكامه قابلة للتنفيذ. لكن النقطة الأخيرة “جعل أحكام الدستور قابلة للتنفيذ” سيف ذو حدين؛ لأنها تجعل أحكام الدستور رهينة لنصوص قانونية لاحقة، قد تنقلها إلى حيز التنفيذ، أو تأخذها في غير اتجاهها، أو تتركها حبرًا على ورق. بمعنى أن القوانين قادرة على تمكين أحكام الدستور، أو تشويهها أو تعطيلها؛ فيكون التمكين في دولة القانون، ويكون التشويه والتعطيل في دولة الأمن والعسكر والاستبداد.
في سورية، استُغلّ ذلك بكفاءة من الطغمة الحاكمة منذ العام 1970، حيث نجد نصوصًا دستورية عصرية متقدمة، خاصة في تناولها لقضايا الحقوق والحريات، ونجد -في المقابل- أن القانون يُستخدم وسيلة لتعطيلها أو تفريغها من مضمونها؛ فغالبًا ما تنتهي الأحكام الدستورية بعبارات من نوع: “وفقًا للقانون”، “ينظمها القانون”، “يبينها القانون” وغيرها. وكلها تعني أن قانونًا سيصدر لتنظيم ما ورد في تلك الأحكام الدستورية، وتحويلها إلى واقع، وهذا أمر طبيعي من حيث المبدأ، لكن ما يحدث فعلا هو أن القانون إما أن لا يأتي أبدا، فيبقى الحكم الدستوري معلّقًا، أو يأتي بطريقة معينة تؤدي إلى إعاقة تطبيقه، أي تعطيله عمليًا.
لا نقول إن استخدام وسيلة القانون هو الطريق الوحيد لتعطيل الأحكام الدستورية، فهناك طرق عديدة، منها وجود أحكام أخرى في نفس الدستور تعطل غيرها، كوجود المادة الثامنة من دستور العام 1973 (قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع) التي عطلت آليًا أي أحكام أخرى تتعلق بالحريات السياسية، لكن مقالنا هذا يتناول -حصرًا- دور القانون في التعطيل. وإلى بعض الأمثلة.
نصت المادة 26 من دستور عام 1973 على أن “لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وينظم القانون ذلك“. لكن قانون تنظيم الأحزاب لم يصدر حتى آب 2011، وبقيت المادة الدستورية، خاصة الجزء المتعلق بالمساهمة في الحياة السياسية، معطلة لأكثر من 38 عامًا، أي بقي تشكيل الأحزاب محظورًا؛ بسبب عدم وجود قانون ينظمه، وكانت جميع الأحزاب الموجودة -فعلًا- غير مرخصة؛ حتى تلك المنضوية تحت جناح البعث فيما يسمى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية”.
لكن مشكلة تعطيل النص الدستوري لم تُعالَج بصدور قانون الأحزاب المذكور، بل انتقلت من التعطيل عبر التجميد (عدم وجود نص قانوني)، إلى التعطيل عبر الإعاقة (بوجود نص قانوني غير قابل للتطبيق)؛ حيث جاء في القانون ما يجعل من إمكانية وجود أحزاب حقيقية مستقلة أمرًا مستحيلًا؛ ويكفي القول: إن اللجنة المشكلة بموجب المادة السابعة من القانون، والتي تناط بها مهمات رئيسة، مثل: البت في طلبات تأسيس الأحزاب، وتفتيش حساباتها، ووقف قراراتها أو نشاطها…إلخ، هذه اللجنة مشكلة من خمسة أعضاء، يتبع أربعة منهم للسلطة التنفيذية، وهم الرئيس (وزير الداخلية) وثلاثة أعضاء معينين من رئيس الجمهورية مباشرة. فأي أحزاب يمكن ترخيصها عبر هذه اللجنة؟
ويمكن طبعًا الحديث عن البند 3 من المادة 8 من دستور العام 2012، بالطريقة نفسها، وهي المادة التي تنص على تشكيل الأحزاب: “ينظم القانون الأحكام والإجراءات الخاصة بتكوين الأحزاب السياسية”. وكذلك المادة 34 من دستور 2012، “لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وينظم القانون ذلك“.
مثال آخر من دستور عام 1973، فقد نصت الفقرة 3 من المادة 28 على أنه “لا يجوز تعذيب أحد جسديًا أو معنويًا أو معاملته معاملة مهينة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك“. تم تأتي القوانين؛ لتمنح الحماية والحصانة، تحديدًا، لمن يرتكبون جرائم التعذيب والإهانة، وهم عناصر الأمن والشرطة؛ فقد نصت المادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 لعام 1969، المتضمن قانون إحداث إدارة أمن الدولة على أنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها في أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم، أو في معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير”.
أما المادة 30 من المرسوم نفسه؛ فتمنع نشر هذا المرسوم؛ ليبقى بعيدًا من اطلاع الناس “لا ينشر هذا المرسوم ويعمل به اعتبارًا من تاريخ صدوره”.
كذلك نصت المادة 74 من المرسوم التشريعي 549 لعام 1969، على أنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة، أو المنتدبين أو المعارين إليها أو المتعاقدين معها مباشرة أمام القضاء، في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، أو في معرض قيامه بها قبل إحالته على مجلس التأديب في الإدارة، واستصدار أمر ملاحقة من قبل المدير”. وجاء في المادة 101 “لا ينشر هذا المرسوم ويعتبر نافذًا من تاريخ نفاذ المرسوم (14) تاريخ 15/1/ 1969”.
نشير -أيضًا- إلى المرسوم التشريعي رقم 69 لعام 2008، والذي عُدّل بموجبه قانون العقوبات العسكرية، حيث حَصَر قرار ملاحقة عناصر الشرطة والأمن السياسي والجمارك، المتهمين بممارسة التعذيب، بالقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، على الرغم من تبعيتهم الإدارية لوزارة الداخلية.
تدل أمثلتنا -بوضوح- كيف أن حماية الدستور للناس من التعذيب والإهانة عُصف بها عبر توفير الحماية القانونية لمرتكبي هذه الجرائم الحقيقيين.
مثال أخير من دستور العام 2012، حيث نصت المادة 44 منه على أن: “للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا، والإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور، وينظم القانون ممارسة هذه الحقوق“. ثم نأتي إلى القانون الذي سينظم ممارسة حق التظاهر، وهو المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2011، فنجد أنه احتوى على أحكام تقضي -عمليًا- على فكرة التظاهر من أساسها، فالمادة 3 من المرسوم حصرت حق تقديم طلبات التظاهر بالأحزاب والمنظمات والمواطنين المرخصين أصولًا: “يحق للمواطنين والأحزاب السياسية والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع الأهلي المرخصة أصولًا تنظيم المظاهرات، بما يتفق مع مبادئ الدستور وأحكام القوانين النافذة في الجمهورية العربية السورية، وبما لا يؤدي إلى عرقلة سير المرافق العامة بانتظام واضطراد”. إذن؛ لا يستطيع التظاهر من لا ينخرط في كيانات مرخصة، وما هو مرخص من كيانات هو من صنيعة النظام، ويعمل بإشراف المخابرات. فماذا بقي من حق التظاهر؟
إضافة إلى ذلك؛ فقد فرض المرسوم قيودًا إجرائية صعبة على الراغبين في التظاهر، كأن يتعهد المنظمون بتحملهم المسؤولية عن الأضرار -كافة- التي قد يُلحقها المتظاهرون بالأموال والممتلكات العامة أو الخاصة، فمن يمكنه تقديم هذا التعهد وكفالة المتظاهرين؟
ويمكننا الحديث بالطريقة نفسها عن حرية التعبير والنشر والإعلام، وعن تأسيس الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني، وعن نصوص دستورية أخرى كثيرة، جرى تعطيلها عبر القوانين.
خلاصة القول، إن القانون الذي يفترض به أن يكون أداة لتعزيز الدستور وتمكينه، وحلقةً رئيسةً في بناء وتكامل النظام القانوني، الذي هو أساس بناء الدولة الوطنية الحديثة، استخدمه نظام الطغمة كمِعوَل؛ لتقويض النظام القانوني وتعطيل الدستور، ونزع مناعة البلاد، وتركها فريسة للمافيا والأشباح.
اترك تعليقاً