نطاق سلطة القاضي الجنائي في تقدير قيمة الدليل
المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
طالما كانت عملية تقدير الأدلة مبنية على قناعة القاضي وحريته في هذا المقام بالغة السعة، فهو وحده الذي يقدر قيمة الأدلة بحسب ما يتجه إليه اقتناعه الذاتي، إلا أن جانب من الفقه والقضاء يذهب إلى القول أن أدلة المراقبة ليس لها قيمة كاملة في الإثباتي بل هي مجرد قرينة تعزز الأدلة الأخرى، ولا يمكن أن يتأسس عليها وحدها اقتناع القاضي في حين هناك من ذهب إلى القول بان إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الجريمة في حديث خاص مسجل يعد اعترافا يصح أن تبنى عليه الأدلة(1)
الاتجاه الأول: يعتبر الدليل المستمد من أجهزة المراقبة من قبيل الاعتراف.
يرى أنصار هذا الاتجاه أن إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الجريمة في حديث خاص يعد اعترافا، طالما توفرت الشروط اللازمة لصحة مشروعية استخدام أجهزة المراقبة، مما يؤدي إلى قبول الأدلة المترتبة على هذا الإجراء ومن بينها الاعتراف، وعليه فإن هذا الاعتراف متى جاء مستوفيا للشروط وجاء خاليا من الغش والخداع فأنه يخضع كغيره من الأدلة لسلطة القاضي التقديرية له أن يأخذ به أو يهدره.
وتجدر الإشارة إلى أن اعتراف المتهم على نفسه في حديث خاص مراقب أو مسجل طبقا للإجراءات القانونية، يعد اعتراف غير قضائي لأنه لم يتم في مجلس القضاء(2) في حين فرق جانب آخر من هذا الاتجاه بين حجية الدليل المستمد من التنصت الهاتفي وبين الدليل الذي ثم تحصيله عن طريق التسجيل الصوتي، حيث اعتبر الأول من قبيل الاعتراف، أما الثاني فلا يعد كذلك ويرجع هذا التمييز إلى طبيعة الحق المعتدي عليه، إذ يقع الاعتداء أثناء مراقبة المكالمات الهاتفية على حق الإنسان في سرية مراسلاته وهو من الحقوق العامة التي تكفل بها الدستور، أما التسجيل الصوتي فهو ينتهك أهم الحقوق الشخصية للإنسان، وهو حقه في أن لا يتسلل احد إلى حياته الخاصة وهو ما يطلق عليه اسم “حق الخلوة”، هو حق من حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تجد الدساتير نفسها بحاجة إلى التنويه به عن طريق النص عليها. والجدير بالذكر أن هذا التمييز كان محل نظر من جانب بعض الفقه، باعتبار أن الحقوق مهما كانت مطلقة لا بد في ممارستها الالتزام بالنظام العام أولا، وضمان ممارسة الآخرين لحقوقهم ثانيا(3)
الاتجاه الثاني: الدليل المستمد من المراقبة يعد من قبيل القرائن.
يرى أنصار هذا الاتجاه أن الدليل المستمد من المراقبة لا يحظى بقوة حاسمة في الإثبات، وإنما هي مجرد دلائل لا تختلف قيمته ولا تزيد حجته عن سواه، إذ لا يمكن أن يتأسس عليها وحدها اقتناع القاضي، إلا إذا انضمت إلى سواها وتعززت بغيرها من الأدلة أو الدلائل(4)، وحجتهم في ذلك أن الحديث لم يتم في مجلس القضاء، ومن ثم فهو ليس اعترافا قضائيا، إضافة إلى ذلك فأنه لا يمكن اعتبار النتائج المتحصلة من خلال حديث الهاتف اعترافا، إذ لا يمكن القول بأن إرادته اتجهت إلى الاعتراف بارتكاب الجريمة، باعتبار أنه من شروط صحة الاعتراف أن يكون قد تم الحصول عليه بطريق مشروع، في حين يعد الاعتراف عن طريق استراق السمع دون علم المتهم نوعا من أنواع الغش والخداع.
وقد قضت إحدى المحاكم العسكرية بفرنسا بان تسجيل إقرارات المتهم على جهاز تسجيل لم يدخل بعد ضمن وسائل الإثبات المعتبرة(5) وخلاصة القول فأنه وبغض النظر عما إذا كانت النتائج المتحصل عليها من أجهزة المراقبة تعد من قبيل القرائن، أو تعد اعترافا، فهي في الحقيقة تخضع للمبدأ العام في الإثبات الجنائي وهو حرية القاضي الجنائي في الاقتناع، وهو وحده الذي يقدر أدلة المراقبة بحسب ما يتجه إليه اقتناعه الذاتي، وما تحدثه في نفسه من أثر وفي وجدانه من ارتياح واطمئنان. وفي الحقيقة ومهما يكن الأمر فإن المبدأ العام هو احترام حق الإنسان في خصوصيته، وأن مشروعية المراقبة هي استثناء يرد على المبدأ العام، وذلك لغرض تحقيق نوع من التوازن المطلوب بين حق الفرد في الخصوصية والسرية، وحق المجتمع في مكافحة الجريمة والكشف عنها بوسائل لا تقل فاعلية عن التي استخدمها الجناة لتنفيذ أفعالهم.
_______________
1- ياسر الأمير فاروق، مراقبة الأحاديث الخاصة في الإجراءات الجنائية، الطبعة الأولى، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2009 ، ص 683 .
2- ياسر الامير فاروق، المرجع السابق، ص 683
3- مروك نصر الدين، محاضرات في الاثبات الجنائي، الجزء الثاني دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2004 ، ص 138 . بطيحي نسيمة، أثر الإثبات الجنائي بالوسائل التقنية الحديثة على حقوق الإنسان، مذكرة ماجستير في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، كلية الحقوق بن عكنون، جامعة الجزائر، 2010 ، ص 159
4- محمد زكي أبو عامر، الإثبات في المواد الجنائية، دون طبعة، دار الجامعة الجديدة، القاهرة، 2011 ، ص 128 .
5- ياسر الأمير فاروق، المرجع السابق، ص 686
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً