جهاز كشف الكذب
المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
أولا: تقنيات استخدام الجهاز.
يعتبر جهاز كشف الكذب أو ما يسمى ب polygraphe من الأساليب العلمية الحديثة التي قد يستعان بما في المجال الجنائي، لمعرفة ما إذا كان الشخص المستجوب يقول الحقيقة أم يدلي بأقوال ومعلومات كاذبة، خاصة في المسائل التي لا توجد فيها أدلة مادية، إلا أقوال المتهمين أو شهادات منفردة(1) لذلك يجدر بنا القول: إن هذا الجهاز لم يأتي من فراغ أو نتيجة الصدفة، إنما بدأت فكرته في القديم عند اليونان والصين والعرب ولقد كان الفقيه اليوناني أرسطو يجس نبض الشخص عند سؤاله ليعرف صدقه من كذبه، فإذا كان نبضه طبيعيا دل ذلك على صدقه، أما إذا أسرع نبضه دل ذلك على اضطرابه وكذبه.
أما في الصين فقد كانوا يقدمون كمية من الأرز الجاف إلى المتهم، ويطلبون منه أن يضع حفنة منه في فمه ويقوم بمضغها، فإذا ظهر في نهاية التحقيق معه أن الأرز لازال جافا، اعتبر الشخص كاذبا ومذنبا، أما إذا وجد الأرز رطبا اعتبر صادقا وبريئا، أما بالنسبة للعرب فقد كانوا يلجؤون إلى ما يسمى بالبشعة وهي عبارة عن وعاء نحاسي أو حديد يحمى بالنار ويطلب من المتهم أن يلمس بلسانه قاع الوعاء المحمى لكشف صدقه من كذبه، ثم تطور هذا الجهاز وأصبح يتكون من عدة أجهزة تعمل بالكهرباء بطريقة آلية ذو قدرة عالية على قياس بعض التغيرات الجسدية للإنسان(2) انطلاقا مما تقدم يمكننا تعريف أجهزة كشف الكذب بأنها “تلك الأجهزة التي يكون الشخص موضوعا لإعمالها ولا تؤثر على إرادته والتي تسمح بتسجيل ورصد بعض التغيرات الفسيولوجية التي تتعلق عادة بالضغط الدموي وحركة التنفس والرد الفعلي النفسي، درجة حساسية الجلد للكهرباء، التي تعتري الفرد خلال مرحلة التحقيق معه، وعن طريق تحديد هذه التغيرات وتحليل الرسوم البيانية التي يوردها الجهاز يمكن الحصول على حكم تقديري بأن الشخص موضوع التجربة يكذب أو يقول الحقيقة”(3)
1- طريقة المناقشة أو الاستجواب:
تجدر الإشارة إلى أنه قبل أن يتم سؤال المتهم أو المشتبه فيه بهذا الجهاز يجب أن يتم توصيله للشخص لبضع دقائق دون أن يتم أي حوار أما بالنسبة للطريقة التي يمكن اتباعها في عملية الفحص هما طريقتان:
الطريقة الأولى- أسلوب الأسئلة الحرجة: وفي هذه الطريقة توجه للشخص عدد من الأسئلة المحايدة أي الأسئلة التي يكون المحقق على علم بحقيقة الأجوبة، مع طرح بعض الأسئلة الحرجة التي لها علاقة بالجريمة شرط أن تكون موزعة بدقة وذكاء.
2- الطريقة الثانية- أسلوب قمة التوتر: عادة ما تستخدم هذه الطريقة في الجرائم التي لا يكون للمحقق معلومات كافية عنها، باعتبار أن الجاني هو الذي يعلم حقيقة هذه الجريمة أما إذا كان بريئا فأنه لا تكون لديه أية دلالة انفعالية حول مناقشته لهذه الجريمة(4)
ثانيا: مدى مشروعية استخدام جهاز الكذب.
إن أول ما يمكن إثارته في مجال استخدام جهاز الكذب هو التساؤل عن مدى جواز استخدام هذا النوع من الأساليب من اجل الكشف عن الحقيقة، بالرغم من أن استخدامه فيه مساس بالسلامة الجسدية واعتداء على الحرية الشخصية، ولذلك اختلفت مواقف الفقهاء والتشريعات حول مشروعية استخدام هذا الجهاز كوسيلة للحصول على الدليل ألقولي في مجال الإثبات الجنائي(5) وفي ما يلي سنتناول الموقف الفقهي والتشريعي فيما يخص الاستعانة بهذه الوسيلة.
1 – موقف الفقه
لقد اختلفت المواقف الفقهية حول مشروعية استخدام جهاز كشف الكذب وانقسم الفقهاء إلى اتجاهين، فريق مؤيد وآخر معارض ولكل رأي أسانيده وحججه.
أ- الاتجاه المؤيد: يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأنه لا يوجد أي مانع من استخدام هذا النوع من الأجهزة العلمية في التحقيق الجنائي، في سبيل الكشف عن الحقيقة والتأكد من صدق أقوال الأشخاص، إذ يرى جانب من المشاركين من المؤتمرالثاني عشر للجمعية الدولية لقانون العقوبات المنعقد بمدينة هامبورج 1979 جواز استخدام جهاز كشف الكذب، شرط أن تحاط بضمانات كافية باعتباره يعين توجيه سير التحقيق إلى الوجهة السليمة.
كما يرى الأستاذ “جرافن” أن الاستعانة بهذا الجهاز لا تمثل أي اعتداء على المتهم وحريته، إلى أنه يقوم فقط بقياس التغيرات والآثار التي تحدث للخاضع للاختبار(6) كما يستند أنصار هذا الاتجاه إلى عدة اعتبارات تبرر موقفهم المؤيد لاستخدام جهاز كشف الكذب منها :
– الاستفادة من التطور العلمي: يرى أنصار هذا الاتجاه أن هذه الوسائل هي نتاج التطور العلمي الذي يشمل جميع المجالات، ولا ينبغي أن يتخلف مجال التحقيق الجنائي عن ذلك إذ يعتبر جهاز كشف الكذب وسيلة علمية مفيدة يمكن التعويل عليها في كشف الجريمة(7)
– استخدام هذا الجهاز لا يعطل الإرادة: لقد استند أنصار هذا الاتجاه إلى أن الغاية الأساسية من استعمال هذا الجهاز هو معرفة صدق أقوال المتهم من عدمه، دون التأثير على وعيه وإرادته، فالشخص لذي يستجوب يبقى كامل الوعي والإدراك حر في أن يقول ما يشاء ويجيب كما يشاء، كما يمكنه ممارسته حقه في الصمت، كذلك يمكنه الاعتراض على الاستمرار في التجربة وعلى ذلك فإن استعمال هذا الجهاز حتى وان كان هدفه استكشاف ما وراء الإرادة من انفعالات نفسية داخلية إلا أنه ل يعطل الإرادة ولا يقيدها(8)
– رضا المستجوب: يرى أصحاب هذا الرأي أن الاستعانة بهذا الجهاز يتم بناءا على رضا المستجوب رضاء صحيح غير مشوب بإكراه، وفي حالة ما استخدم رغم معارضته فأنه لا يعول على نتائج التي أسفر عنها(9)
ب – الاتجاه المعارض: يتجه اغلب الفقه إلى رفض استخدام جهاز كشف الكذب للحصول على اعترافات المتهمين خلال مرحلة الاستدلال وسائر مراحل الدعوى الجنائية( 10)، ويرجع ذلك إلى عدة اعتبارات منها :
– عدم دقة النتائج: إن النتائج التي يتم التوصل إليها عن طريق استخدام جهاز كشف الكذب ما زالت محلا للنقاش وهي ليست ثابتة علميا كما أن هناك نسبة من الخطأ تدور حول 5% بالإضافة إلى نسبة تتراوح ما بين 15 إلى 20 % يكون مستحيلا على الخبير أن يثبت إذا ما كان المستجوب صادقا أم كاذبا، مما يعني عدم الثقة في النتائج المتحصل عليها(11)، كما أكدت النتائج أن الشخص الخاضع للتجربة، إذا كان هادي الأعصاب يستطيع إخفاء كذبه ويتحكم في انفعالاته(12)
– الاعتداء على حقوق المتهم: بالرغم من جهاز كشف الكذب يعد من الوسائل العلمية الحديثة التي تستخدم بغية الحصول على اعترافات المتهم، إلا أنه وفي الحقيقة يشكل استخدامه اعتداء حقيقيا على الحريات والحقوق، التي كفلتها معظم الدساتير والتي لا يجوز المساس بها، إلا بالقدر الذي يجيزه القانون محافظة على المصلحة العامة ومن بين هذه الحقوق:
– حق المتهم في الكلام أو الصمت : إذ يعتبر حق المتهم في إبداء أقواله بحرية تامة من أهم ضمانات الدفاع حيث يستطيع المتهم تفنيد أدلة الاتهام الموجه إليه، كما له الحق في أن يمتنع عن الكلام إذا رأى أن ذلك أصلح له لتحقيق دفاعه(13)
– الحق في حرية الدفاع : لقد أعطى القانون للمتهم الحق في حرية الدفاع صادقا كان هذا الدفاع أم كاذبا فإذا أجازنا استخدام هذا الجهاز، فإن هذا يعني أنه سلبه حقه(14) باعتبار أن دور هذا الحق لا يقتصر على حماية مصالح المتهم فحسب بل يحقق مصلحة عامة هي المساعدة في إظهار الحقيقة.
* العوامل المؤثرة على صحة الجهاز:
قد توجد بعض العوامل التي تتعلق بشخصية الخاضع للفحص، قد تؤثر على صحة النتائج المستخلصة من جهاز كشف الكذب ومن أهم هذه العوامل ما يلي:
– الشخصية العصابية: وهذه الشخصية غالبا ما تصدر عنها انفعالات واستجابات تلقائية في المواقف الصعبة الأمر الذي يتطلب التدقيق بين هذه الانفعالات وبين الانفعالات الأخرى، التي تعبر عن الكذب، مع الإشارة إلى أن هذه الانفعالات تزداد عند هذه الشخصية إذا كان الشخص فعلا بريء.
النمط الطفلي: وهي شخصية معتادة على الكذب، إذ أنه عندما يصدر سلوك الكذب عندها، فإن هذه الشخصية لا يراودها أية اضطرابات أو قلق وهذا يؤدي إلى عجز الجهاز عن تسجيل أي انفعالات غير عادية. شخصية المختل عقليا: هذه الشخصية تكون معقدة سواء استعملنا جهاز كشف الكذب أو الطرق العادية عند السؤال، والسبب في ذلك هو أن إجابات هؤلاء غير مترابطة.
– استجواب معتادي الإجرام: إن هذا النوع من المجرمين ليس لديهم تميز للاعتبارات لا القانونية ولا الأخلاقية ولا يميزون بين ما هو مباح وما هو مجرم ويعتبر الكذب نوعا من السلوك العادي، ومن ثمة فإن هذا السلوك لا يصاحبه أية انفعالات أو تغيرات(15)
2- موقف التشريع
أ- موقف التشريعات المقارنة
لم يختلف كثيرا موقف التشريعات إزاء استخدام جهاز كشف الكذب من حيث قبول أو حظر هذه الوسيلة، إذ أن غالبية المحاكم الأمريكية ترفض الأخذ بجهاز كشف الكذب كوسيلة في الإثبات الجنائي وذلك على أساس أن نتائجه لم تحظى بعد بالاعتراف أو التأييد العلمي(16) كما رفض المشرع الايطالي الأخذ بنتائج هذا الجهاز، واعتبر الدليل المستمد منه غير مشروع ، بل إن استخدامه يدخل ضمن طرق التعذيب المتبعة للحصول على دليل وهو نفس الاتجاه الذي انتهجه المشرع الألماني إذ انه يعاقب رجال الشرطة الذين يمارسون هذه الأساليب أثناء استجواب المتهم أو الشهود(17) أما بالنسبة للتشريعات العربية نجد أن المشرع اللبناني لم ينص بنص صريح استعمال هذه الوسيلة أو عدم استعمالها إذ اكتفى و بموجب المادة 401 من قانون العقوبات بتحريم ضروب الشدة و العنف(18) كما لا يجيز المشرع المصري استعمال هذه الوسيلة لان نتائجها غير مضمونة وبذلك لن يصبح لها قيمة علمية(19)
ب موقف المشرع الجزائري:
لم يتناول المشرع الجزائري و بنص صريح استخدام جهاز كشف الكذب من عدمه إلا انه و استنادا لنص المادة 34 من الدستور التي تنص على أنه :”تضمن الدولة عدم انتهاك حرمة الإنسان. ويحظر أي عنف بدني أو معنوي أو أي مساس بالكرامة”. يمكننا القول بعدم مشروعية هذه الوسيلة من أجل الحصول على اعتراف المتهم.
______________
1- Bertrand RENARD. L’usage du polygraphe en procédure pénale Institut National de Criminalistique et de Criminologie Belge، 2000، p 62.
2- فيصل مساعد العنزي، أثر الإثبات بوسائل التقنية الحديثة على حقوق الإنسان، بحث مقدم للحصول على درجة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2007 ، ص 98 ،99
3- مصطفى محمد الدغيدي، التحريات والإثبات الجنائي، دار الكتب القانونية، مصر، 2006 ، ص 249.
4- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع نفسه، ص 252.
5- سعد حماد صالح القبائلي، ضمانات المتهم في الدفاع أمام القضاء الجنائي، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، القاهرة، 1998، ص، 324 .
6- عادل عبد العال خراشي، ضوابط التحري والاستدلال عن الجرائم في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، دون طبعة، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية ، ص454.
7- (محمد حماد الهيتي، التحقيق الجنائي والأدلة الجرمية، الطبعة الأولى، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2010 ، ص 327 .
8- توفيق محمد الشاوي، حرمة الحياة الخاصة ونظرية التفتيش، الطبعة الأولى منشأة الناشر المعارف بالإسكندرية 2006، ص 284 .
9- سعد حماد صالح القبائلي، المرجع السابق، ص 224 .
10- عادل عبد العال خراشي، المرجع السابق، ص 456.
11- مصطفى محمد الدغيدي، التحريات والإثبات الجنائي، دار الكتب القانونية، مصر، 2006 ، ص 258 .
12- عادل عبد العال خراشي، المرجع السابق، ص 459 .
13- سعد حماد صالح القبائلي، المرجع السابق، ص 341 .
14- مصطفى محمد الدغيدي، مرجع السابق، ص 259.
15- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع السابق، ص 254 .
16- إبراهيم أحمد، مدى شرعية استعمال جهاز كشف الكذب في التحقيق ودوره في إثبات التهم، مجلة العدل، العدد الثالث والعشرون، ص 256
17- بوشو ليلى، قبول الدليل العلمي أمام القضاء، مذكرة من أجل الحصول على شهادة الماجستير في الحقوق كلية الحقوق، جامعة الجزائر، 2010 ، ص83.
18- وسام احمد السمروط، القرينة و أثرها في إثبات الجريمة، الطبعة الأولى، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2007 ، ص 318
19- كوثر أحمد خالند، الإثبات الجنائي بالوسائل العلمية، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية القانون والسياسة، جامعة صلاح الدين، العراق، 2007 ، ص 164.
اترك تعليقاً