الأدلة المادية والمعنوية في الاثبات الجنائي
المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تقييم حجية الأدلة المادية والمعنوية
إذا كان الفقه قد طال الجدل بينه حول تقدير مراتب الأدلة الجنائية وحجتها في الإثبات الجنائي، إلا أنه وفي الحقيقة لا توجد معايير ثابتة يمكن من خلالها وضع قاعدة معينة لترتيب الأدلة الجنائية حسب مراتبها، تبعا لقوتها التدليلية بحيث يمكن إضفاء لبعضها صفة الأفضلية على البعض الآخر، طالما أن المبدأ السائد في الإثبات هو مبدأ القناعة الوجدانية(1) الذي خول للقاضي سلطة واسعة وحرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها، ففتح له باب الإثبات على مصراعيه، بأن يزن قوة ادلة الإثبات المستمد من كل عنصر بمحض وجدانه، فيأخذ ما تطمئن له عقيدته، ويطرح مالا يرتاح إليه(2) لذلك نجد أن القضاء لم يغلب احدهما على الآخر في حالة التعارض بينهما، إلا بالقدر الذي يطمئن القاضي إلى صحته وقد قضت محكمة النقض المصرية بقولها أن تطابق الدليلين القولي والفني غير لازم، كفاية أن يكون الدليل القولي غير متناقض مع الدليل الفني تناقضا يستعصي التوفيق بينهما(3) ومن هنا يمكننا القول أن تقدير مراتب الأدلة يتوقف على ما تأخذ به المحكمة فعلا وتستند إليه في حكمها، حسب ظروف وملابسات كل قضية على وجه الاستقلال، فتقدير صفة السيادة والحجية يتوقف على ما إذا كان الدليل يدخل في تكوين القاضي، ويعد عنصر من عناصر اقتناعه، كما أن وضع مراتب للأدلة، من شأنه الإخلال بقواعد الإثبات، وأهمهما حرية القاضي في تكوين عقيدته(4) وهذا يجعل حجية الأدلة الجنائية تقوم على مبدأ عدم تدرج الأدلة، باعتبار أن جميعها تخضع للسلطة التقديرية للقاضي من حيث مقبوليتها.
وفي الأخير يمكننا القول أنه وكقاعدة عامة لا يوجد أي دليل ولا حتى أي إجراء جنائي مهما كان مصدره، يمكن أن يكون محصنا تماما من عوامل التزوير والغش، فكما يمكن أن يقع الدليل المادي تحت شبهة التزوير يمكن أن يقع فيه كذلك الدليل المعنوي، فالأدلة بنوعيها مادية كانت أو معنوية يجب النظر إليها بعين واحدة، حيث أنها تكمل بعضها البعض الآخر وفقا لمبدأ تساند الأدلة هذا المبدأ الذي لا يمكن على ضوئه المفاضلة بين دليل ودليل طالما أن الأول يكمل الثاني. وحتى يكون اقتناع القاضي صحيحا يجب أن يكون مبنيا على أدلة منسقة وغير متعارضة، مساندة يشد بعضها بعض، وعليه يجب على القاضي أن يوازن بين الأدلة المعروضة على بساط البحث من خلال التحقيق والتمحيص الشامل لكافة الأدلة، والجدير بالذكر في هذا المقام أن هذا المبدأ لا يسلب من المحكمة حقها في استبعاد أي دليل لم تطمئن إليه، أو أن تأخذ بجزء منه وتطرح الآخر، فالهدف هنا هو أن تكون الأدلة مؤيدة إلى اقتناع القاضي بناء على الأثر الذي ترسخه في وجدانه(5) ومما لا شك فيه أن هذا المبدأ يعتبر ضمانة حقيقية للمتهم، فيما يتعلق باستخدام التقنيات الحديثة، لأنه عادة ما تتضارب الأدلة المستمدة من الوسائل العلمية مع باقي الأدلة. وعليه نخلص إلى القول أن التقدم العلمي كان له تأثير في تدعيم الدليل المادي وتأكيد الدليل القولي، إلا أن كل هذا لا يعني إلغاء دور القاضي، بل يظل لهذا الأخير السلطة في الترجيح بين الأدلة المادية والمعنوية(6).
________________
1- محمد حماد الهيتي، التحقيق الجنائي والأدلة الجرمية، الطبعة الأولى، دار المناهج للنشر والتوزيع، الأردن، 2010 ، ص 41
2- أحمد أبو القاسم، الدليل الجنائي المادي و دوره في إثبات جرائم الحدود والقصاص، الجزء الأول، أطروحة دكتوراه، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1993 ، ص 64 .
3- محمد محمد عنب، استخدام التكنولوجيا الحديثة في الإثبات الجنائي، دون طبعة، مطبعة السلام الحديثة، مصر، 2007 ، ص 312 .
4- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق، ص 42
5- رمزي، رياض عوض، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة، دون طبعة، النشر دار النهضة العربية، القاهرة، 2004 ، ص 53.
6- أحمد أبو القاسم، المرجع السابق، ص 57
الموازنة بين الأدلة المادية والمعنوية في التحقيق
لقد أدى التقدم العلمي الكبير إلى ظهور علامات بارزة في معالم نظام الإثبات الجنائي، تتمثل في استحداث وسائل علمية جديدة ظهرت إلى جانب الأدلة المعنوية، مما أثار الجدل والنقاش حول تقدير مراتب الأدلة وحجتها في الإثبات حسب قوتها التدليلية وصدقها واقترابها من الحقيقة والواقع، بحيث وجد هناك من أضفى على الأدلة المادية حجية وقوة تختلف عن الأخرى باعتبارها تستند إلى حقائق علمية ثابتة، في حين وجد اتجاه مناقض للأول، فاعتبر الأدلة القولية لها قوة، بحيث صار الاعتراف سيد الأدلة.
1- ترجيح الأدلة المادية على الأدلة المعنوية:
يعتمد هذا الاتجاه، والذي يرجح الأدلة المادية على المعنوية على أن للأدلة المادية أهمية في الإثبات الجنائي من خلال قدرتها على الإقناع(1)، إضافة إلى ما يتميز به هذا النوع من المميزات تجعله يحتل الصدارة بين وسائل الإثبات المتعددة(2) .
مميزات الدليل المادي:
– الثبات والاستقرار: يتميز الدليل المادي بالثبات، لأنه يستند على أسس وحقائق علمية ثابتة ومستقرة، الأمر الذي يعطيه قوة وحجية أكبر من الأدلة القولية إذا ما قورن بها.
– عنصر النزاهة والثقة: باعتبار أن هناك اختلاف كبير بين موقف الشاهد، وموقف من يقرر وجود الدليل العلمي والمقصود بذلك الخبير، فهذا الأخير يقف موقف حياديا من الدليل العلمي، وهذا ما يعطي المصداقية للدليل المادي أكثر من الدليل المعنوي(3) لأن الشاهد في الجريمة قد لا يقف موقف الحياد، فباعتباره بشر فهو عرضة للخطأ وسوء التقدير والخداع والنسيان، كما قد يختلف أداء الشهادة باختلاف الشهود وأعمارهم وثقافتهم وظروفهم النفسية وتصورهم للواقع، مع أنهم شاهدوها معا وفي ظروف واحدة(4)
– دور الدليل المادي في معالجة قصور العملية الإثباتية: لا شك في أن الجريمة المعاصرة قد تميزت بسمات خاصة، ميزت بينها وبين أنماط الجريمة التقليدية، فأصبح من الضروري أن يتغير تبعا لذلك أسلوب كشفها وطريقة إثباتها، وبما أن العملية الإثباتية ترتكز على دعامتين أساسيتين إحداهما الدليل المعنوي والأخرى المادي، وتبين أن هذا القصور يرجع إلى دعامة الدليل المعنوي لأسباب ترتبط بالعصر وتطوره، فان ذلك أدى إلى حتمية وضرورة اللجوء إلى الدليل المادي، لاسيما أن هذا الدليل يستمد قوته من معطيات العصر الحديث(5)
– استخدام تكنولوجيا العصر في الجريمة : نظرا لتطور أسلوب ارتكاب الجريمة، وعدم إمكانية فصل المجرم عن هذا التطور، وبما أن كافة وسائل الإثبات التقليدية تقف عاجزة أمام هذه الأبعاد الجدية للجريمة المعاصرة، حيث يصعب الحد منها مما يؤدي اللجوء إلى الدليل المادي الملموس كأفضل وسائل الإثبات لإسناد الجرم إلى مرتكبه(6) إضافة إلى خروج الدليل المادي عن نطاق سيطرة وتحكم الجاني، خلاف الأمر بالنسبة للدليل المعنوي الذي يمكن للجاني التحكم ببعض جوانبه، إذ يمكن له أن يختار الظروف الملائمة التي تمكنه من ارتكاب الجريمة دون أن يشهد عليه أحد، كما يحاول التأثير على من يشاهده فيما لو ظهر شاهد غير متوقع، وهذا بعكس الأدلة المادية فإن الجاني لا يستطيع التحكم ببصمات أصابعه، أو تساقط شعره…(7)
– عنصر الوحدة المرحلية في استخلاص الدليل: يتجسد في كون الدليل المادي وحدة متكاملة متجانسة في جزيئاتها، الأمر الذي يجعلها لا تحتمل التضارب الذي تحمله الأدلة المعنوية، فالبحث عن الأدلة المادية ينتهي إلى نتيجة واحدة مهما تعددت مصادر هذا الدليل، فهو يعطي دلالة واحدة لا تقبل الجدل أو الشك، الأمر الذي يغلب على الأدلة المعنوية.(8) ولذلك فقد اعتبرت الأدلة المادية، أدلة صادقة لا تخطئ ولا تكذب فهي عبارة عن شاهد صامت، لا يشهد بالزور، وإنما يقع الخطأ أو الزور عندما يقع نتيجة التفسير غير الصحيح من الشخص الذي يتعامل مع هذه الأدلة(9)
2- ترجيح الأدلة المعنوية على الأدلة المادية: لقد ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى التشكيك في قيمة الدليل المادي الحديث وذلك بالقول أن الاعتماد على التقنيات الحديثة في تحصيل الدليل المادي معناه العودة إلى نظام الأدلة المقيدة، نظرا للدقة العلمية للنتائج المتحصلة منها، وهذا يجعل القاضي مقيد ولو بطريقة غير مباشرة(10) كما ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى ابعد من ذلك في سبيل التشكيك بالأدلة المادية، وذلك بالقول بأنها قد لا تصدق أحيانا، الأمر الذي يؤدي عدم إمكان الاعتماد عليها بصورة مطلقة، فقد يستخدم الجاني أساليب الغش والخداع في نطاق هذه الأدلة مما يؤدي إلى إضعاف دليل الاتهام من قبل الجاني وتوجيه الاتهام إلى شخص آخر غير الجاني الحقيقي(11).
_____________
1- محمد حماد الهيتي، التحقيق الجنائي والأدلة الجرمية، الطبعة الأولى، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2010 ، ص 37 .
2- أحمد أبو القاسم، الدليل الجنائي المادي و دوره في إثبات جرائم الحدود والقصاص، الجزء الأول، أطروحة دكتوراه، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، الرياض، 1993 ، ص 111.
3- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق، ص 39 .
4- مصطفى محمد الدغيدي، التحريات والإثبات الجنائي، دار الكتب القانونية، مصر، 2006 ، ص 135.
5- أحمد أبو القاسم، المرجع السابق، ص 134 .
6- أحمد أبو القاسم، المرجع نفسه، ص 116 .
7- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق، ص 40 .
8- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق، ص 39
9- عبد الحكم فودة، سالم حسين الدميري، الطب الشرعي وجرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دون طبعة دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1996 ص 69
10- بطيحي نسيمة، اثر الإثبات الجنائي بالوسائل التقنية الحديثة على حقوق الإنسان مذكرة ماجستير في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، كلية الحقوق بن عكنون، 2010 -2011 ، ص 112 .
11- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق،40.
اترك تعليقاً