تنظيم المفاوضات في العقد الدولي
25. تمهيـد: أضحت المفاوضات لازمة ضرورية تسبق إبرام العقد الدولي، لا سيما في ظل الوضع الحالي للمبادلات والمعاملات الدولية، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
أولها، موضوعي، يرجع إلى أن العقود الدولية المعاصرة ليست بالعقود البسيطة التي يتفق على عناصرها وتبرم في أول لقاء. فهي عقود مركبة ومعقدة فنيا، على ما أشرنا عند بحث خطابات النوايا.
ثانيها، شخصية، ترجع إلى أطراف تلك العقود، فغالبا ما يتنافس على الفوز بتلك العقود شركات عملاقة ذات نشاط دولي، ويلزم التعامل معها الوقوف على سوابق أعمالها، وخبراتها السابقة، ومنهجها في التعامل.
كما أن الطرف الآخر، غالبا ما يكون كذلك من الدول النامية، التي تسعى إلى إقامة مشروعاتها وتحقيق أهدافها التنموية إجتماعيا وإقتصاديا وفق أفضل الشروط التي تتلاءم مع إمكانياتها المادية، وكل ذلك يستلزم الدخول مع مفاوضات شاقة وعسيرة حول ما تزمع إبرامه من عقود دولية .
وتلعب إرادة الأطراف دورا لا يستهان به في تنظيم عملية التفاوض، خصوصا وأن النظم القانونية المختلفة تكاد تخلو من أي تنظيم قاعدي يمكن إتباعه، ومنها النظام القانوني المصري. وبتلك المثابة، يبدو مهماً إلقاء الضوء على أساسيات تنظيم المفاوضات في النظام القانوني الدولي، وهو ما نعرضه في أربعة مطالب على التوالي.
—
المطلب الأول
ماهية المفاوضات وضرورتها
أولا: تعريف المفاوضات
الوضع قديما والفراغ التشريعي: قد يزعم البعض أن المفاوضات في إبرام التصرفات القانونية فكرة قديمة، ترجع بجذورها إلى التاريخ الذي عرف فيه الإنسان الإلتقاء مع بني جنسه في الأسواق للتبادل، بل ومقايضة السلع والخدمات، حيث تجري بعض المساومات speculations والأخذ والعطاء والرفض والقبول حول أسعار السلعة أو الخدمة، حتى يلتقي الطرفان، في النهاية، على كلمة سواء, وتتم عملية المبادلة أو المقايضة.
وتلك المساومات والحوارات هي نوع من المفاوضة التي تمهد لتلاقي الإرادات وترتيب الأثر المبتغى. وهذا الزعم يبدو مقبولا إلى حد ما، ذلك أن المعاملات والصفقات كانت بسيطة وإجراء مناقشة لبضع دقائق كافية لتسوية كل النقاط محل الخلاف بين الطرفين، وقد عضد هذا النظر إلى العقد على أنه تلاقي إرادتين، إيجاب يعقبه قبول، بعد محادثات وقتية سريعة.
ويبدو أن مشرعي بداية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين قد قنعوا بذلك الفكر المبسط لحالة المبادلات التعامل المالي بين الأفراد، ولذلك جاءت التقنيات المدنية بدءا من القانون المدني الفرنسي لعام 1804 وحتى القانون المدني المصري لعام 1949 خالية من أي إشارة إلى المفاوضات وقواعد تنظيمها.
ولم ينتبه إلى بعض مشكلات المفاوضات، وإن كان على نحو مبتور، إلا جانب من القوانين الأوروبية، كالقانون المدني الإيطالي لعام 1942 الذي تكلم فقط عن ضرورة التزام حسن النية في مفاوضات العقود عموما (م 1337) والقانون المدني اليوناني لعام 1946 (م 197 و 198).
26. العقود الدولية الحديثة وفرض المفاوضات: غير انه مع تطور وسائل النقل والإتصالات والدخول في الصفقات التجارية الكبرى، أضحت الأفكار التقليدية للتفاوض والمساومة غير كافية لإنهاء تلك الصفقات، والإستجابة لحاجات ومعطيات الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، حيث أن عقود تلك الصفقات تنطوي على جوانب كبيرة من المخاطر، ويترتب عليها إنتقال سلع وخدمات عبر الحدود تقدر بمليارات الدولارات.
وهو ما يوجب إفساح الوقت أمام أطراف التعامل للدخول في لقاءات ومناقشات مكثفة حول الثمن أو الأسعار، ومواعيد التوريد، وكيفية التنفيذ، وقته ومكانه، وضماناته، وجزاء الإخلال بالإلتزامات التي ستنشأ، فضلا عن مناقشة الأعمال التحضيرية مثل الفحوص الفنية ودراسات الجدوى الإقتصادية، وإعداد خطط المشروع وتوفير وسائل تمويله والتأمين على عناصره .
وكل هذا يقتضي جلوس أطراف التعامل سويا وتبادل الأفكار والمناقشات حتى تتم المعاملة المطروحة، أو تفشل ويذهب كل طرف إلى سبيله. ومما تقدم يظهر لنا أهمية الوقوف على ما هية المفاوضات، وهي ظاهرة عامة تقابل في ميدان العقود والعمل، والإدارة وغيرها .
27. تعريف المفاوضات: تلعب المفاوضات دورا وقائيا هاما في إبرام عقد إرتضاه أطرافه، وسينفذ كل منهم التزاماته بطريقة سلمية هادئة، وسيجنبهم مغبة الدخول في منازعات وولوج ساحات قضاء الدولة أو قضاء التحكيم.
ومن هنا نطرح السؤال: ما المراد بالمفاوضة أو المفاوضات؟
ذهب البعض إلى تعريف المفاوضة بأنها عملية تطرح فيها مقترحات او مشروعات صريحة لغرض التوصل لإتفاق بالتبادل أو المقايضة أو على أساس تحقيق مصلحة مشتركة عندما توجد المصالح المتفاوضة .
وجاء في الموسوعة الدولية للعلوم الإجتماعية أن المفاوضات هي شكل من أشكال التفاعل تحاول فيه الحكومات أو الأفراد أو المنظمات إدارة بعض مصالحهم المتصارعة، أو هو عملية صريحة تتعلق بمشروعات او مقترحات ومقترحات مضادة . وقيل إن التفاوض هو “التحاور والمناقشة للوصول إلى إتفاق مشترك بين طرفين للحصول على حل متفق عليه للحفاظ على مصالح الأطراف المتفاوضة وحل ما بينها من مشكلات أو تقريب وجهات نظرها بأسلوب حضاري .
ومن التعريفات المتداولة أيضا، نذكر ما قرره البعض من أن التفاوض هو تبادل لوجهات النظر وتسوية الإختلافات والبحث عن مناطق محل اتفاق مشترك والمصلحة المتبادلة والوصول لبعض أشكال الإتفاق شفويا أو تحريريا، رسميا أو غير رسمي. وجاء في قاموس ***ster’s أن المفاوضات عملية مواجهة أو تساوم أو مناقشة غرضها الوصول الى إتفاق .
28. تعريفنا للمفاوضات: ومهما يكن من أمر هذه التعريفات، فإنه يمكن القول إن المفاوضة هي التحاور والمناقشة وتبادل الأفكار والآراء والمساومة بالتفاعل بين الأطراف من أجل الوصول الى إتفاق معين حول مصلحة أو حل لمشكلة ما: إقتصادية، قانونية، تجارية، سياسية. من هذا التعريف يتبين أن هناك عدة عناصر يجب مراعتها للوصول إلى ماهية وجوهر المفاوضة.
أولا: وجود مشكلة أو مصالح متعارضة بين طرفي العملية التفاوضية، وفي مجال العقود الدولية يتمثل ذلك في محاولة حسم مشكلة السعر أو الثمن، أو إعادة التوازن إلى العملية التعاقدية عندما يطرأ تغيير في الظروف , يقلب الموازين والحسابات الإقتصادية إضرارا بمركز أحد طرفي التفاوض، أو أي أمر آخر….
ثانيا: التفاعل INTERACTIVITE والاتصال بين طرفي التفاوض، وذلك بالالتقاء الشخصي في موعد ومكان يتفق عليه، والدخول في محاورات ومناقشات ومساومات شخصية وتبادل المقترحات والأفكار حول المشكلة المطروحة.
ثالثا: القصد إلى الوصول إلى اتفاق أو حل للمسألة المطروحة، وهذا أمر بديهي، فالتفاوض الذي يجمع بين أطراف لا أهداف لهم، هو عبث واضاعة للوقت والنفقات. فلا خلاف في أن وجود هدف معين يحدده كل طرف هو الحافز الدافع الى الدخول في عملية التفاوض.
وعادة يتمثل ذلك الهدف في مصلحة مشتركة بين طرفي التفاوض . وهي ليست مصلحة إنفرادية لطرف دون طرف، وإلا ما إرتضى هذا الأخير الجلوس على مائدة المفاوضات.
غير أنه إذا كان للمفاوضات قصد أو هدف، هو تحقيق المصلحة المشتركة لطرفيها، إلا أنه لا ينبغي الوصول إليه بأي ثمن. فقد يفشل الطرفان في الوصول إلى إتفاق أو تسوية المشكلة القائمة بينهما. فليس بلازم أن تؤول نهاية المفاوضات إلى النجاح وتسفر عن إتفاق. فهناك العديد من الظروف والعوامل التي تتحكم في سير العملية التفاوضية، وتجعل نتائجها الإيجابية او السلبية إحتمالية الى حد بعيد .
فكفاءة المفاوض وخبرته، والقوه الإقتصادية لكل طرف، وحاجته إلى الدخول في هذا النوع من التعامل أو ذاك، نوع الإستراتيجية المتبعة في المفاوضات والتكتيك المستخدم لتنفيذها، وطبيعة العملية او المشكلة المطروحة على بساط التفاوض…. كلها عوامل تؤثر على النتيجة النهائية للمفاوضات .
وعلى هذا لا يبدو سليما القول إن المفاوضات ليست غير تبادل للتنازلات بين طرفيها ، لان مقتضى ذلك أن هناك نتيجة الوصول إليها بأي ثمن، وهو أمر قد يصيب بأبلغ الضرر المتعاملين في مجال التجارة الدولية، لأن تلك الأخيرة تقوم على حسابات وتوقعات وحدود لا يمكن النزول عنها. وسوف نزيد ذلك إيضاحا عند عرض ضرورة وإستراتيجيات التفاوض.
ثانيا: ضرورة وأهمية المفاوضات:
30. الضرورات المنطقية: المتأمل في فلسفة المفاوضات يدرك أن هناك عدة ضرورات منطقية تفرض اللجوء إليها. من ناحية، التواصل والتفاعل الإنساني، ومقتضاه أن الإنسان، منذ وجد لا يستطيع أن يحيا بمفرده منكفئا على نفسه قادرا على إشباع حاجاته اليومية إكتفاء بمساعيه وموارده الذاتية،
فهو لا بد داخل مع الغير من بني جنسه في معاملات يومية لإشباع تلك الحاجات، وهذا الدخول لا يتم فجأة، أو يحدث عرضا، بل يجب توطئه الطريق اليه، بتبادل الكلمات والأحاديث التي بها حاجته، فيلبي الآخر أو يعرض، وهذا هو التفاوض في صورته الأولى، فهو واقع بين الناس شئنا أم أبينا.
ومن ناحية ثانية، الوقاية من أسباب النزاع، ذلك أنه بإجراء المفاوضات يكون الأطراف قد تحصنوا بالتدابير والإحتياطات التي تمنع قيام أسباب النزاع مستقبلا، حيث يتصورون وينقبون عن النقاط والمسائل التي قد تكون مثار خلاف بينهم، وإذ يطرحونها، قبل أن تولد، فهم في الواقع يقتلون في المهد دواعي الخلاف، أو على الأقل يعدون الدواء لما عسى أن يطرأ من داء.
وكما يقول البعض، بحق، إن مفاوضات “ما قبل التعاقد تلعب دورا وقائيا سواء أسفرت عن إبرام العقد أم عدم إبرامه، فالمفاوضات الجيدة تكون خير ضمان لقيام عقد لا تثور منازعات بصدد تنفيذه، وفشل المفاوضات بعد تبين كل طرف لحقيقة الوضع يقي من إبرام عقد يفتح باب النزاع” .
اترك تعليقاً