فشل محاولات إقرار تعريف قانوني للإرهاب.
أجمع فقهاء القانون عامة بمختلف فروعه التي ساهمت في محاولة تعريف الإرهاب على صعوبة هذه المحاولة وهذا التعريف، فمن أصعب جوانب دراسة الإرهاب بصفة عامة والإرهاب الدولي بصفة خاصة هو محاولته الوصول إلى تعريف محدد للإرهاب. هناك مشاكل كثيرة ومتنوعة تحول دون التوصل لمثل هذا التعريف. من أهمها أنّه ليس لهذا المصطلح محتوى قانوني محدد، فقد تعرض مصطلح الإرهاب إلى تطور وتغير في معناه. منذ بدأ استخدامه في أواخر القرن الثامن عشر( [31]).
لكن رغم هذه الصعوبات فقد بذلت جهود فقهية كثيرة سواء من الفقهاء أو الأكادميين (أ) أو في الممارسة العملية الدولية داخل المنظمات والمؤتمرات الدولية المختلفة (ب). وظهرت هذه المحاولات في كتابات الفقهاء وفي القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية( [32]). كل هذه المحاولات والجهود انطلقت وتشعبت من مختلف فروع القانون العام والخاص بل تجاوزت الدراسات القانونية لتصبح الظاهرة الإرهابية موضوعا مغريا للبحث من مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وإذا كانت دراسة الظاهرة تعتبر من مشمولات مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية فإنّ دراسة الظاهرة تعتبر من مشمولات مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية فإنّ دراسة الجريمة تبقى من اختصاص القانون الجنائي الذي يتكفل بالبحث والتدقيق في أصول الجريمة ونطاقها وخاصة تحديد مختلف عناصرها وشروط قيامها وقيام المسؤولية الناشئة عنها مع تحديد ما قد يستوجب من عقاب وزجر( [33]).
الفقرة الأولى: محاولات إقرار تعريف قانوني للإرهاب على الصعيد الدولي.
إذا كان تعريف مفهوم الإرهاب مثل ولا يزال معضلة للدراسة القانونية التي تنفر من المصطلحات الغامضة والمتلونة وترنو للوضوح والتحديد في معالجتها لمختلف المواضيع والإشكاليات لذلك سعى الفقه والقانون الدولي إلى محاولة تحديد ظاهرة الإرهاب حسب التعريفات القانونية التي اقترحها بعض فقهاء القانون الجنائي الدولي منذ مطلع القرن العشرين والتي بدت غامضة وغير مقنعة أو تلك التي اقترحها وطرحها من قبل المنظمات الدولية والإقليمية ولم تلق القبول والرضا والتوافق حولها. ومن خلال هذه المحاولات الفقهية والقانونية خصوصا تلك المقترحة من العلوم الاجتماعية والسياسية، سنسعى إلى استخراج أهم عناصر الإرهاب وخصوصياته التي حظيت بجد أدنى من الإجماع وقبول الفقهاء.
أ – المحاولات الفقهية والقانونية لتعريف الإرهاب.
يعتبر مصطلح الإرهاب بدلالته الحديثة دخيلا على القاموس العربي، ذلك أنّ المعنى الأصلي للكلمة لا يتعدى كونه مصدر لفعل أرهب أي خوف، إلاّ أنّ المصطلح اليوم اكتسب دلالة مختلفة عن دلالته الأصلية تمثل السياسة جوهرها، ذلك أنّه عبر مختلف مراحل التطور الفكري في التاريخ المعاصر اكتسبت عبارة الإرهاب مضمونا سياسيا واضح المعالم( [34]).
ويمثل هذا المضمون عاملا مركزيا من العوامل الأساسية لزيادة الاهتمام بظاهرة الإرهاب( [35]). ولعل هذا الارتباط بالمعنى السياسي أو بمعنى آخر هذه الشحنة أو الدلالة السياسية التي أصبغت على مصطلح الإرهاب هي التي خلقت صعوبات وتعقيدات إن لم نقل استحالة على مستوى الدرس والتدقيق والتحديد فالظاهرة السياسية بطبيعتها وثيقية متغيرة حسب الظروف وحسب اختلاف الزمان والمكان، ولعلنا نستطيع في محاولة للاستدلال على هذه النتيجة أن نقوم بعملية قياس “الجريمة الإرهابية” و”الجريمة السياسية”.
فلقد أكد “الأستاذ ناجي البكوش” على هذا المعطى النسبي في كل الحالات، يتغير بتغير أصول الحكم والقواعد التي تحدد علاقة الدولة بمواطنيها”( [36]). إنّ الطبيعة السياسية للجريمة هي التي حسمت القول في وصفها بالمتغيرة والنسبية، وهذه الطبيعة ذاتها هي التي تتصف بها “الجريمة الإرهابية” لذلك يجوز لنا التساؤل عن مدى نسبية هذه الجريمة ومدى تغيرها وتلونها مع الظروف”.
لذلك سوف نتعرض بالدرس إلى عدة تعريفات فقهية لهذه الظاهرة المعقدة وغير المحددة( [37]) التي تجمع وتتوحد على عناصر تمثل قواسم مشتركة، قد تختلف في تركيزها على عنصر دون آخر بحسب الاختصاص العلمي الذي صدر عنه هذا التعريف أو ذلك في قراءة تاريخية لانطلاقة فعلية للمجهود الفقهي، نجد أهم عبارة تصدر عن المؤتمر الأول لتوحيد القانون الجنائي الذي انعقد في مدينة “بروكسال” “بلجيكا” وقد قام “سوتيل” « SOTTILE » باقتراح تعريف للإرهاب ركز فيه على: “استعمال العنف والرعب كمنهج إجرامي لغاية تحقيق هدف محدد”( [38]).
ورغم ما لهذا التعريف من فضل كونه أشار إلى العنف كوسيلة لتحقيق غاية، إلا أنّ هذا التعريف يحوزه الكثير من الدقة والوضوح ذلك أنّه يساوي بين العنف والرعب إلى جانب أنّه لم يركز على الطبيعة السياسية للإرهاب لذلك سعى ومن جهته سالداما « Saldama » لتقديم تعريفا واسعا ركز فيه على أنّ “الإرهاب هو كل جناية أو جنحة سياسية أو اجتماعية تخلق حالة من الخطر العام عن طريق استعمال وسائل خاصة يكون الهدف منها نشر الخوف والرعب”( [39]).
نلاحظ هنا أنّ “سالدانا” ينطلق من عموميات دون أن يميز بين الجرائم أو الجنح أو بين الجريمة الاجتماعية والسياسية وكأنه ينزع عن مصطلح الإرهاب كل خصوصية. إنّ الاعتماد على فقه الأوائل في القرن العشرين، خاصة من رجال القانون أمثال « Sottile » و « Saldama »”لن يمكننا من إعطاء الإرهاب كظاهرة اجتماعية سياسية” أبعادها الحقيقية ودورها في ضبط حدود المصطلح ودلالته وبالتالي تحديد علاقة الظاهرة “بالجريمة الإرهابية”.
لذلك يستحسن الاعتماد على فقهاء علوم الاجتماع والسياسة، فقد اعتبرهم ( [40])Gaillaune أكثر جرأة وضحا، ونذكر من بين هؤلاء « Roland Gaucher » “رولان غوشيه” الذي حدد الإرهاب بأنّه “لجوء إلى أشكال من القتال، قليلة الأهمية بالنسبة للأشكال المعتمدة في النزاعات التقليدية، ألا وهي قتل السياسيين أو الاعتداء على الممتلكات، بل يذهب الإرهاب إلى أبعد من ذلك، إذ انّه يشكل نسقا صراعيا معلنا بصورة واضحة يرسمه جهاز معين وينفذه جيش سري”( [41]).
لقد انتقد أحد الفقهاء هذا التعريف معيبا عليه إعطاء الإرهاب مفهوما لا ينطبق إلى على “إرهاب الضعفاء” دون غيره أي الإرهاب الذي يمارسه الأفراد والجماعات ضد السلطان السياسية، وبالتالي فهو يستثني إرهاب الدولة التي تمارسه السلطات السياسية عن طريق مؤسساتها الرسمية، لذلك قدم “توم ماليسون” « Tom Malisson » تعريفا مغايرا حيث ميز بين الإرهاب بصفة عامة الذي قد يشمل أعمال إجرام عادية تهدف إلى الكسب المادي وبين الإرهاب السياسي حيث جاء في تعريفه أنّ الإرهاب السياسي هو عبارة عن: “الاستعمال المنسق للعنف أو التهديد باستعماله من أجل بلوغ أهداف سياسية”( [42]).
وتجدر الإشارة إلى أنّ لهذا التعريف إضافة لا يجب تجاهلها وهي العنصر النفسي أو البسيكولوجي الذي ساهم مليسون في إبرازه للإرهاب كظاهرة متميزة عن ظواهر العنف الأخرى. إنّ هذا المعنى يتوافق مع التعريف الذي اقترحه “ريمون أرون”( [43]) الذي اعتمد أيضا على العنصر النفسي. ولقد انتهج عديد الفقهاء منهج “ريمون” في تركيزهم على العنصر البسيكولوجي وعمدوا إلى حصر خصائص الإرهاب دون البحث عن تعريف له.
ومن هذا المنطلق يتضح أن المحرك الرئيسي للإرهاب هو تخويف النفوس وهذا ما نص عليه “جوليان فرويند” « Julien Freund » عندما عبر على أنّ الإرهاب: “يبدو كفعل سياسي شامل، لا يهدف إلى نتيجة عينية بناءة وإيجابية بقدر ما يهدف إلى الفضاء على إمكانيات الأفراد في المقاومة والتفكير”( [44]).
وبالرّجوع إلى ما قد بيناه نتبين أنّه قد حاول العديد من الفقهاء أن يعرفوا الظاهرة الإرهابية وذلك بتركيزهم على عنصر من عناصرها دون آخر، مما ترك مجالا واسعا لنقدهم واتهام تعريفاتهم بالغموض والنقص وهذا ما دفع فقهاء آخرين انطلاقا من مختلف علوم الاجتماع والسياسة والقانون أن يسلكوا منهجا مغايرا يهدف إلى الإلمام والشمول
وذلك باتباعهم منهج الجمع والتأليف بين مختلف العناصر الجوهرية المؤلفة للظاهرة، ومن بين هؤلاء الفقهاء، نذكر بالخصوص في مجال علم الاجتماع السياسي: أدونيس العكرة حيث قدم تعريفا تأليفيا مختصرا يركز على الإرهاب السياسي الذي يمثل جوهر الظاهرة الإرهابية، فقد عرف هذا الفقيه الإرهاب السياسي بأنّه: “منهج نزاع عنيف يرمي الفاعل بمقتضاه، وبواسطة الرهبة الناجمة عن العنف إلى تغليب رأيه السياسي أو إلى فرض سيطرته على المجتمع أو الدولة من أجل المحافظة على علاقات اجتماعية عامة، أو من أجل تغييرها أو تدميرها”( [45]).
كذلك حاول “شهيد” « Schmid » في كتابه الإرهاب السياسي « Political Terrorism » بعد أن استعرض ما يناهز المائدة وتسعة تعريفات للإرهاب من مختلف الفروع العلوم الاجتماعية بما فيها علوم القانون، أن يقوم بمغامرة تأليفية بلغ بها التعريف التالي [46]) “… الإرهاب هو أسلوب من أساليب الصراع الذي تتمتع فيه الضحايا الجزافية أو الرمزية كهدف عنف فعال.
وتشترك هذه الضحايا الفعالة في خصائصها مع جماعة أو طبقة مما يشكل أساسا لانتقاءها من أجل التضحية بها.
ومن الاستخدام السابق للعنف أو التهديد الجدي بالعنف، فإنّ أعضاء تلك الجماعة أو الطبقة التي تمّ تفويض إحساس أعضاءها بالأمن عن قصد، هي هدف الرهبة، وتعتبر التضحية بمن اتخذ هدفا للعنف عملا غير سوي من قبل معم المراقبين من جمهور المشاهدين على أساس قسوة أو زمن أو مكان (في غير ميادين القتال) القيام بعملية التضحية، أو عدم التقيد بقواعد القتال المقبولة في الحرب التقليدية، وانتهاك حرمة القواعد، مما يخلق جمهورا يقظا متحفّزا خارج نطاق هدف الرهبة ويحتمل أن تشكل قطاعات من هذا الجمهور بدورها هدف الاستمالة الرئيسي.
والقصد من هذا الأسلوب غير المباشر للقتال هو إمّا شلّ حركة هدف الرهبة وذلك من أجل إحداث إرباك أو إذا كان، وإمّا لحشد أهداف من المطالب الثانوية (حكومة مثلا)، أو أهداف للفت الانتباه (الرأي العام، مثلا) لإدخال تغييرات على الموقف أو السلوك بحيث يصبح متعاطفا مع المصالح القصيرة أو الطويلة المدى لمستخدمي هذا الأسلوب من الصراع”( [47]).
ومن جل هذا يتأكّد لنا على أنّ الإرهاب هو في أساسه معيار سلوك اجتماعي سياسي يحاول الوصول إلى مركز حقوقي أو قانوني في ميدان القانون، لكنها محاولة تبدو صعبة أو شبه ميؤوس من تحققها عند النظر في المحاولات القانونية لتعريف “الجريمة الإرهابية” ضمن إطار المنظمات الدولية والاتفاقيات الإقليمية ذات الطابع الدولي.
ب – محاولات تعريف الإرهاب في إطار المنظمات الدولية والاتفاقيات الإقليمية ذات الطابع الدولي.
اترك تعليقاً