ما هي الدول التي تسمح برفع الدعوى في الجرائم المرتكبة خارج إقليمها؟
تختلف القوانين من دولة إلى أخرى، ولكنه لا يكفي – مع الأسف – أن تصادق دولة ما على معاهدة تلزمها بمقاضاة من يزعم قيامهم بالتعذيب أو ارتكابهم جرائم حرب، ولا يكفي النص في القانون الدولي القائم على العرف على مقاضاة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، حتى نضمن في كل الأحوال أن تسمح قوانين تلك الدولة برفع الدعوى القضائية.
ونرى في بلدان كثيرة أن المعاهدات (بل والقانون الدولي القائم على العرف في بعض الحالات) تصبح بصورة تلقائية جزءاً من القانون الوطني، دون حاجة إلى إصدار تشريع محدد “بتنفيذ” تلك المعاهدات، وذلك أساساً في البلدان التي استوحت قانونها المدني من تقاليد القانون المدني الفرنسي، على نحو ما نشهده في بلدان إفريقيا الناطقة بالفرنسية وفي مصر على سبيل المثال. وهكذا فإذا كان القانون الدولي التقليدي أو القائم على العرف ينص على عالمية الاختصاص القضائي، فلا بد أن يتوافر لدى محاكم هذه الدول الأساس الكافي لرفع الدعوى القضائية.
وعلى غرار ذلك نجد أن الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا لديها من القوانين ما يشير بصفة عامة إلى المعاهدات التي صادقت عليها تلك البلدان؛ فعلى سبيل المثال، ينص قانون العقوبات في بنما على ما يلي: “بغض النظر عن القانون الخاص بالمكان الذي ارتكب فيه الفعل، وبغض النظر عن جنسية المتهم ، فإن القانون الجنائي في بنما يسري على كل من يرتكب فعلاً يُعاقَب عليه، مما هو منصوص عليه في المعاهدات الدولية التي صادقت عليها جمهورية بنما”.
وهكذا نرى أنه، من حيث المبدأ، يخضع مرتكب التعذيب في الخارج للعقاب في بنما بناءً على “اتفاقية مناهضة التعذيب”.
وهذا هو المتبع في النمسا وبوليفيا والبرازيل وكوستاريكا وقبرص وجمهورية التشيك والدانمرك وإكوادور والسلفادور وإثيوبيا وفرنسا وجورجيا وألمانيا وغواتيمالا وهندوراس وباراغواي وبيرو وروسيا وإسبانيا وسريلانكا، وسويسرا وأوروغواي وغيرها.
ولكن بلداناً كثيرة أخرى تصر على ضرورة “إدماج” المعاهدات بصورة محددة في القوانين الوطنية قبل الارتكان إليها؛ وكثيراً ما تقوم البلدان بالمصادقة على المعاهدة ثم لا تصدر اللوائح التنفيذية لإدماج المعاهدة في القانون الوطني. وفيما يلي عرض موجز لما نعرفه عن القوانين المحلية في شتى البلدان، وإن كان على الضحايا أن يستشيروا المحامين في كل حالة في دولة الادعاء قبل اتخاذ أي خطوة من الخطوات.
توجد في بلدان كثيرة تشريعات محددة تضع “اتفاقية مناهضة التعذيب” موضع التنفيذ، مثل قانون العدالة الجنائية في المملكة المتحدة، وهو الذي استمدت بريطانيا منه سلطة اعتقال بينوشيه؛ وهو ينص على ما يلي: “تتوافر أركان جريمة التعذيب إذا تعمد مسؤول حكومي أو أي شخص يمارس عمله باعتباره مسؤولاً حكومياً، أياً كانت جنسيته، وسواء كان ذلك في المملكة المتحدة أو في أي مكان آخر، إحداث ألم أو معاناة شديدة لغيره، في غضون أدائه لواجباته الرسمية أو بقصد أدائه لهذه الواجبات”.
وتوجد تشريعات مماثلة فيما يتعلق بالتعذيب لدى دول أخرى من بينها أستراليا وكندا وبلجيكا وفرنسا ومالطا، وهولندا، ونيوزيلندا والولايات المتحدة.
وعلى غرار ذلك قامت بلدان كثيرة بإدماج اتفاقيات جنيف في قوانينها الوطنية، وإن كان ذلك عادة دون التعميم الذي تتسم الاتفاقيات به؛ وهكذا فإن قوانين الولايات المتحدة تقضي بمعاقبة “كل من يرتكب جريمة حرب، سواء أكان ذلك داخل الولايات المتحدة أم خارجها”، وهي تحدد جريمة الحرب هنا بأنها أي انتهاك خطير لاتفاقيات جنيف أو أي انتهاك للمادة الثالثة المشتركة بينها.
ولكن هذا النص لا يُطبَّق إلا إذا كان الجاني أو المجني عليه فرداً من أفراد قوات الولايات المتحدة أو مواطناً من مواطنيها. وموقع الإنترنت الخاص باللجنة الدولية للصليب الأحمر يتضمن أسماء كثير من البلدان التي أدرجت في قوانينها الأحكام الخاصة بجرائم الحرب المرتكبة خارج إقليمها
وهناك بعض البلدان التي تمنح محاكمها الاختصاصات والسلطة اللازمة لمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية خارج إقليمها، مثل بلجيكا وكوستاريكا وألمانيا ونيكاراغوا وإسبانيا.
وثمة بلدان قليلة لديها من القوانين ما يسمح بصفة محددة بمحاكمة من يرتكب جريمة ضد الإنسانية في الخارج، ومن بينها بلجيكا وفرنسا وإسرائيل وفنزويلا؛ كما إن بعض بلدان شمال أوروبا، مثل النرويج والسويد، تعتبر أن جميع الجرائم المرتكبة في الخارج من الجرائم التي يعاقب عليها القانون مادام مرتكبها موجوداً في دولة الادعاء.
وما هو الحال إذا كانت هناك ضحايا من أبناء دولة الادعاء؟
بالإضافة إلى عالمية الاختصاص القضائي، تمنح بلدان كثيرة محاكمها صلاحية معاقبة من يرتكب جريمة في الخارج ضد أحد مواطنيها (وهو ما يسمى بالاختصاص القائم على أساس “الجنسية السلبية” أو “الشخصية السلبية”)؛
وعادة ما يشترط في هذه الحالة أن يكون الفعل المرتكب من الأفعال التي تعتبر من الجرائم في البلد الذي تقع فيه أيضاً، وألا يكون مرتكبه قد عُوقب عليه. وهكذا فإن القضايا المرفوعة ضد بينوشيه في بلجيكا وفرنسا وسويسرا كانت تستند إلى الشكاوى التي قدمها أفراد من مواطني هذه الدول، وزعموا فيها أنهم تعرضوا للضرر على يدى بينوشيه في شيلي. ولا شك أن وجود ضحايا من أبناء الدولة نفسها يزيد من المصلحة السياسية للدولة في إقامة الدعوى.
مسألة الإرادة السياسية
تعتبر الإرادة السياسية للدولة التي ترفع الدعوى (أو التي تقوم بتسليم الشخص) من العوامل التي تحسم إمكانية مقاضاته، خصوصاً إذا كان القانون لا يسمح للمجني عليهم بالشروع في إجراءات التقاضي الجنائي بصورة مباشرة.
ففي حالة بينوشيه، قامت الشرطة البريطانية على الفور بتنفيذ الأمر القضائي الذي أرسلته إسبانيا لإلقاء القبض عليه؛ كما قام وزير الداخلية البريطاني جاك سترو مرتين باتخاذ القرار الصعب من الناحية الدبلوماسية وهو قرار السماح بالمضي في إجراءات طلب التسليم الذي قدمته إسبانيا.
وأغلب الظن أن بعض الدول الأخرى، إذا واجهت مثل هذا الموقف، ستميل إلى اتخاذ قرار يعفيها من الثمن السياسي الذي لابد من دفعه مقابل الخروج على الأوضاع الدولية الراهنة، على نحو ما حدث مؤخراً، حين قام عزة إبراهيم الدوري، أحد كبار مساعدي الرئيس العراقي صدام حسين، بزيارة فيينا في أغسطس/ آب 1999 بقصد العلاج، إذ رفع أحد أعضاء المجلس المحلي للمدينة دعوى جنائية عليه استناداً إلى الدور النشيط الذي اضطلع به في حملة الإبادة الجماعية التي شنها العراق على الأكراد؛ ولم تمضِ ثمانٍ وأربعون ساعة حتى تركته الحكومة النمساوية يغادر البلد، فوضعت بذلك علاقاتها مع العراق فوق التزاماتها بموجب المعاهدات الدولية.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1999، قام طاغية إثيوبيا الأسبق، منغستو هايلي ماريام، الذي تسعى السلطات الإثيوبية لاعتقاله بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، بزيارة جنوب إفريقيا بقصد العلاج؛ وعلى الرغم من الأصوات التي ارتفعت من الجماعات المحلية والدولية للمطالبة باعتقاله، وعلى الرغم من السجل المشرف لحقوق الإنسان في جنوب إفريقيا، فإنه لم يتعرض للاعتقال بل عاد إلى منفاه في زمبابوي، حيث تؤويه الحكومة منذ سقوطه.
وعندما اعتقل أبو داود في فرنسا عام 1976، وهو المتهم في حادثة المذبحة التي وقعت لفريق ألعاب القوى الإسرائيلي في دورة ميونيخ الأوليمبية عام 1972، لم تأبه باريس لطلبات تسليمه التي قدمتها ألمانيا الغربية وإسرائيل، بل أطلقت سراحه بعد القبض عليه بأربعة أيام.
ومن الواضح أن وجود حكومة ديموقراطية وسلطة قضائية مستقلة، وربما وجود جالية كبيرة من أبناء البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم ممن يعيشون في المنفى، سوف يساعد على إيجاد المناخ السياسي المواتي الذي يسمح بالسير في إجراءات القضية في دولة الادعاء. ولم يكن من الممكن أن ترفع الدعوى على بينوشيه في إسبانيا، حيث تتعرض حكومتها المحافظة للضغط من شركائها التجاريين في أمريكا الجنوبية لإغلاق القضية، إلا بسبب استقلال السلطة القضائية في إسبانيا، ووجود جالية كبيرة من أبناء شيلي الذين يعيشون في المنفى في إسبانيا، وقوة التأييد الشعبي لمحاكمته.
كما سمحت السنغال بالسير في إجراءات الدعوى المرفوعة على حسين حبري دون تدخل سياسي، ولا غرو، إذ تفخر السنغال بأنها كانت أول دولة في العالم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما كان لها وجودها البارز في القضايا الدولية لحقوق الإنسان.
ولكننا نرى، من جهة أخرى، أنه من المستبعد أن تُرفع الدعوى القضائية على عيدي أمين، دكتاتور أوغندا السابق، الذي يقيم حالياً في المملكة العربية السعودية؛ فهي دولة لا تتمتع بأي مشاركة سياسية تُذكر، ولا بسلطة قضائية مستقلة، ولم تستجب حكومتها للطلبات التي قدمتها المنظمات غير الحكومية الدولية ومجموعات الضحايا لإحالة عيدي أمين إلى العدالة.
وقد تحاول حكومة البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم منع رفع الدعوى، وإن كان ذلك يتوقف ـ إلى حد ما ـ على ما إذا كان النظام الحاكم الذي ينتمي إليه مرتكب الجريمة ما زال قائماً؛ فقد تكون لذلك آثاره الهامة من حيث إمكان الحصول على المعلومات وعلى الأدلة، بل ومن حيث سلامة الشهود والضحايا وأسرهم. بل إن مثل تلك الحكومات قد تحاول أيضاً إغلاق ملف القضية، على نحو ما فعلت شيلي في قضية بينوشيه؛ وعندها قد تتوقف نتيجة الدعوى على الإرادة السياسية لدولة الادعاء، وعلى استقلال سلطتها القضائية، وعلى النفوذ المضاد الذي قد تتمتع به الجماعات ذات المصلحة.
والواقع أنه حتى إذا لم تكن السياسة الدولية تمثل عاملاً من عوامل رفع الدعوى، فقد يكون من العسير إقناع النائب العام أو قاضي التحقيق في بلد أجنبي بالشروع في التحقيق في جريمة ارتكبت خارج بلده، لأن ذلك يقتضي اقتطاع قدر من الموارد المالية والبشرية اللازمة للقضايا المحلية، خصوصاً بسبب التكاليف الباهظة للقضايا الدولية، واحتمال عدم الاهتمام محلياً بالقضية المزمع رفعها.
وهكذا لابد من القيام بحملة توعية قوية؛ ومن بين الحجج التي قد يسوقها المؤيدون المحليون لرفع الدعوى أن بلدهم لا يجوز أن يصبح “ملجأً آمناً” لمرتكبي جرائم حقوق الإنسان.
وتسمح بعض البلدان للضحايا وللمنظمات غير الحكومية برفع الدعوى في المحاكم مباشرة دون الحاجة إلى موافقة النيابة العامة، ولو أن هذه الصعوبات ذاتها قد تنشأ عند إقناع القاضي بنظر القضية.
اترك تعليقاً