لا فرق في الجوهر بين الشورى والديمقراطية
هل يختلف مفهوم «الشورى» في الفكر الإسلامي عن مفهوم «الديمقراطية» في الفكر الغربي؟ وهل يمكن ترجمته إلى نظام سياسي واضح المعالم وقادر على العمل وفق آليات منضبطة قابلة للتطبيق على أرض الواقع؟ لقد انشغلت النخب الفكرية العربية، ولا تزال، بهذه القضية، ولكن دون حسم واضح.
ويبدو أن الحرص على الخصوصية – وهي مسألة مهمة في حد ذاتها- دفع بالبعض إلى الاعتقاد بأن المحافظة عليها تتطلب أن يكون العرب مختلفين بالضرورة عن «الآخرين» في كل شيء.. وتلك مبالغة نظن أن ضررها أكبر بكثير من نفعها، خصوصا إذا صاحبتها قناعة بأن النظم السياسية في الديمقراطيات الغربية تتناقض صراحة مع تعاليم الإسلام.
من المعروف أن كلمة «الشورى» وردت في آيات قرآنية وفي أحاديث نبوية كثيرة. ولأن الإسلام لم يحدد شكلا معينا من أشكال الحكم، أو طريقة معينة ومفصلة لكيفية صنع القرارات المتعلقة بإدارة شؤون الدولة الإسلامية، فقد استقر رأي فريق من علماء المسلمين على أن النظم السياسية الديمقراطية الراهنة، تقوم على مفاهيم لا تتعارض بأي حال مع مفهوم الشورى والمفاهيم الإسلامية الأخرى ذات الصلة، غير أن فريقا آخر له رأي مختلف، ويعتقد أنَّ الشورى ليست ملزمة للحاكم، وأن لهذا الأخير أن يقبل برأي أهل الشورى أو يرفضه من منطلق أن الشورى «استنارة للإعلام لا للإلزام».
ويلاحظ أن هذا الفريق يستند أيضا في تبرير وجهة نظره المعارضة هذه إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومواقف تاريخية.
فهو يستند مثلا إلى الآية القرآنية: «فإذا عزمت فتوكل على الله» (آل عمران: 159)، ويفسرها بأنها تصرح للرسول – صلى الله عليه وسلم- بالمضي قدما في تنفيذ ما عزم عليه، سواء طابق المشورة أو لم يطابقها، وأيضا إلى الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء: 59)، ويفسرها بأنها تعني وجوب طاعة ولي الأمر، سواء تشاور مع أهل الشورى أو لم يتشاور. كما يؤكد هذا الفريق أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه- خالف رأي أهل الشورى بعد أن أخذ رأيهم في معضلة أمر الردة، ومضى قدما فيما عزم عليه، مخالفا بذلك رأي معظم مستشاريه.
ولا يقتصر الخلاف بين هاتين المدرستين على مدى إلزامية «الشورى»، وإنما يمتد ليشمل جملة من القضايا الأخرى ذات الصلة، مثل قضية الحكم بما أنزل الله، أو طاعة ولي الأمر، أو قضية الخلافة..
ولأن الإسلام دين شامل لا يفرق بين شؤون الدين وشؤون الدنيا، يجمع علماء المسلمين على أن الحكم بما أنزل الله هو أولى وأهم مسؤوليات الحاكم، وقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة تصف من لا يحكم بما أنزل الله بالكفر أو الفسوق أو الظلم، وهي آيات يفسرها علماء المسلمين بأنها تفرض الالتزام القطعي بتطبيق القواعد والأحكام التي ورد بشأنها نص صريح، وأجمع عليها علماء الأمة، غير أن البعض توسع في تفسير مبدأ «الحاكمية لله» إلى حد الادعاء بأن على الدولة الإسلامية مسؤولية إزالة أي تناقض بين القوانين الوضعية وأي قواعد أو أحكام ورد بشأنها نص صريح في القرآن الكريم، وإلا تعد «جاهلية».
ورغم استمرار احتدام الجدل حول هذه القضية في العالمين العربي والإسلامي، خاصة بين «العلمانيين» و«الإسلاميين»، فإن الإشكالية الأساسية التي تثيرها لا تكمن، في تقديري، حول مدى وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وإنما تكمن في تحديد الجهة التي يحق لها الفصل في مدى اتساق القوانين الوضعية المعمول بها أو القوانين التي يتعين استحداثها لمواكبة الحياة العصرية مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وهنا يلاحظ أن أطروحات المدارس والفرق والجماعات الإسلامية نفسها تختلف وتتباين من النقيض إلى النقيض، حيث تتراوح بين أقصى درجات التزمت، إلى حد التمسك بولاية «الفقيه» عند بعض فرق الشيعة، أو بمرجعية «أهل الحل والعقد» عند بعض مدارس السنة، وأقصى درجات المرونة، إلى حد القبول بفكرة أن الأمة مصدر السلطات وأن الهيئات النيابية المنتخبة انتخابا حرا، هي وحدها التي تملك الحق في التشريع.
أما فيما يتعلق بمفهوم الطاعة، فيفترض في المسلم أن يلتزم بما أمر الله به وينتهي عما نهى عنه (طاعة الله)، وأن يلتزم بسنة نبيه (طاعة الرسول) وأن يلتزم بتعاليم الحاكم (طاعة أولي الأمر) مصداقا لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59).
ورغم توافر ما يشبه الإجماع بين علماء المسلمين على أن طاعة الحاكم ليست مطلقة ومشروطة بالتزامه بتعاليم الدين والعدل بين الناس، من منطلق أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فإن الاختلافات بينهم لا تزال محتدمة حول شروط الخروج على الحاكم الظالم أو المستبد.
وينقسم الفكر الإسلامي في هذا الصدد إلى ثلاث مدارس على الأقل،
الأولى: تدعو إلى الصبر تجنبا للفتنة،
والثانية: تطالب بالتمكن قبل الانقضاض، والثالثة: تحرض على الثورة وتبررها.. وانطلاقا مما تستند إليه هذه المدارس الثلاث من براهين، خاصة المدرستين الثانية والثالثة، يمكن القول إن الفكر السياسي الإسلامي يميل إلى الاعتراف بحق الشعب ليس فقط في تنحية وإقالة حكامه، وإنما في تغيير نظامه السياسي أيضا وفي تشكيل المؤسسات التي تكفل العدالة مصداقا لقوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء: 58).
وتلك مسألة بالغة الأهمية وترتب نتائج بعيدة المدى لأنها تعني أن من حق الشعب مراقبة حكامه وتقييم أدائهم وتصرفاتهم، وبالتالي تغييرهم إن هم حادوا عن الطريق المستقيم، الذي لا يمكن بطبيعته إلا أن يكون متسقا مع المصلحة العامة التي هي مقصد الشريعة الإسلامية وغايتها النهائية. وفي تقديري أن هذا الطرح يقترب كثيرا من جوهر الفلسفة الليبرالية التي تقوم على فكرة أن الأمة مصدر السلطات.
وأخيرا يلاحظ أن «الخلافة» نظام، انفرد به العالم الإسلامي من الناحية العملية أو التطبيقية. غير أن القرآن الكريم لم يتضمن في الواقع أي نصوص قطعية توضح طريقة اختيار خليفة المسلمين، فضلا عن أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يوص بشخص أو يحدد طريقة لاختيار من يخلفه، مما يدل دلالة قاطعة على أن قضية الخلافة شأن سياسي في المقام الأول، وليست شأنا دينيا، وأمرها متروك ليقرره المسلمون بأنفسهم وفق ظروفهم وأوضاعهم الخاصة. ويشير التراث الإسلامي إلى اختلاف طريقة اختيار الخليفة من مرحلة إلى أخرى، حتى في زمن الخلفاء الراشدين.
فقد تم اختيار أول الخلفاء الراشدين، وهو أبوبكر الصديق، من خلال بيعتين: بيعة الخاصة أولا، أي بيعة أهل الحل، ثم بيعة العامة بعد ذلك، أي بيعة جمهور المسلمين. أما ثاني الخلفاء الراشدين، وهو عمر بن الخطاب فقد عينه أبوبكر بعد التشاور مع أهل الحل والعقد.
وقد اختلف الأمر تماما بالنسبة لثالث الخلفاء الراشدين، حيث قام عمر بتشكيل مجلس من ستة أشخاص عهد إليه بمهمة ترشيح أحد أعضائه ليخلفه، وبعد أن انحصرت المنافسة بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب تم حسمها بالأغلبية لصالح عثمان.
وحين جاء الدور على الخليفة الرابع بعد مقتل عثمان جرت مبايعة علي بن أبي طالب من خلال الشورى، غير أن البعض علق مبايعته على شروط رفضها علي مما أثار جوا من الخلافات انتهى بفتنة كبرى بعد دخول معاوية طرفا في حلبة المنافسة على الخلافة ومطالبته بإسقاط على.
وبمقتل على انتهى عصر الخلفاء الراشدين، وتحولت الخلافة إلى ملك في عهد الأمويين، واستقر أمرها كنظام وراثي لكنها راحت تضعف تدريجيا، مع انتقالها من أسرة إلى أخرى ومن عاصمة إلى أخرى، رغم بقائها كرمز، إلى أن آلت إلى آل عثمان، واستقرت في اسطنبول لعدة قرون قبل أن تنهار كليا عقب الحرب العالمية الثانية، حيث قام كمال أتاتورك بإلغائها رسميا عام 1924.
ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم- هو الذي تولى بنفسه شؤون القيادة في مرحلتي الدعوة وتأسيس الدولة، ثم قاد الدولة بعد تبليغ الرسالة التي اكتملت بوفاته، فقد كان من الطبيعي أن يسند لمن يخلفه تولي مسؤولية إدارة شؤون الدولة وحراسة الدين، غير أنه يصعب تصور تمتع خليفته بنفس الصلاحيات وذلك لأسباب كثيرة وبدهية.
ويرى بعض علماء المسلمين أن مبايعة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- كانت هي التجسيد العملي لمبدأ «الأمة مصدر السلطات»، وتأكيدا على حق الأمة في اختيار حاكمها، كما يرى هؤلاء أن نظرية «العقد الاجتماعي» ما هي إلا تطبيق معاصر لنظام البيعة. ومن الطبيعي حين يعترف للأمة بحقها في اختيار حاكمها وفق شروطها أن يكون لها حق مساءلته، وهناك آيات وأحاديث كثيرة تجعل من مقاومة الظلم واجبا شرعيا.
يقول خالد محمد خالد: «إن المفهوم الحديث للشورى التي زكاها الإسلام هو الديمقراطية البرلمانية، التي بها ينتخب الشعب نواباً عنه يمثلون إرادته ومشيئته، وهؤلاء النواب عندي هم أهل الحل والعقد». ونحن نتفق كليا مع هذا الرأي لأن النظام الديمقراطي يقوم على مجموعة مبادئ وأسس لا يتعارض أي منها مع تعاليم الإسلام أهمها: المواطنة وحكم القانون والتعددية وتداول السلطة والفصل بين السلطات.
وتخوف البعض من أن يؤدي تبني الأسس والمقومات الديمقراطية إلى إلغاء خصوصية المجتمعات العربية والإسلامية، هو في تقديري تخوف لا أساس له وليس له ما يبرره على الإطلاق. فالنظم الديمقراطية مجرد آليات أو أطر تملؤها الشعوب والمجتمعات، وتمنحها الثقافات والحضارات مضامينها الحقيقية.
فنجاح الديمقراطية في الهند أو في اليابان أو في ماليزيا لم يضر بالخصوصية الثقافية لهذه البلاد، بل على العكس كانت الديمقراطية وسيلة لتفعيل وتأكيد تلك الخصوصية.
ولأن المسلمين موزعون على كل أقطار الأرض فعليهم أن يدركوا أنهم يشكلون أغلبية في بعض الأقطار وأقلية في أقطار أخرى، وبالتالي فإذا أرادوا أن تتمتع الأقليات المسلمة بحقوقها الأساسية في المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة فعليهم أن يقبلوا منح الأقليات غير المسلمة، في بلادهم حقوقها الأساسية.
وفي تقديري أن الاستبداد، وليس الديمقراطية هو الذي يهدد الخصوصية الثقافية والحضارية للعالمين العربي والإسلامي على الأمد الطويل.
اترك تعليقاً