الكفاءة في الزواج
المبحث الأول في تعريفها والأمور التي تعتبر فيها:
الكفاءة في اللغة: المساواة والمماثلة مطلقاً . يقال : فلان كفء لفلان أي مساوٍ له ومماثله.
وفي اصطلاح الفقهاء أي المطلوبة في الزواج: يراد بها مساواة خاصة. وهي المساواة أو المقاربة بين الزوجين في أمور مخصوصة بحيث لو اختلف كانت الحياة الزوجية غير مستقرة لما يلحق الزوجة وأولياءها من التعير والأذى، ولقد اختلف فقهاء المسلمين في جعلها شرطاً في الزواج، كما أن الشارطين لها اختلفوا فيما تعتبر فيه الكفاءة، والسبب في ذلك أن القرآن لم يعرض لهذا الأمر، بل جاء فيه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والسنة جاءت موافقة له في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى”.
فالقرآن والسنة متفقان على أنه لا فضل لأحد على غيره إلا بالدين والخلق، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في شأن الزواج : “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”، وعلى هذا الأصل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند وكان حجاماً، كما أمر قوماً من الأنصار أن يزوجوا بلالاً الحبشي عند امتناعهم عن تزويجه، وزوج أبو حذيفة بنت أخيه الوليد عتبة من سالم الذي تبناه وهو مولى امرأة من الأنصار كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما، ومن ذلك ترى أن الأساس في الكفاءة الزوجية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الدين والخلق، وعلى هذا القدر اقتصر بعض فقهاء الصحابة والتابعين.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الكفاءة حق للزوجة وأوليائها.
وذهب أحمد في رواية إلى جعلها حقاً للشارع فلا تسقط بإسقاط المرأة ووليها.
وفي الرواية الأخرى يوافق الجمهور ويجعلها حقاً للزوجة والأولياء من العصبات لأنهم يتعيرون عند الزواج بدونها.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يتفاخرون إلا بالسبق في الإسلام ومنزلة الرجل فيه، ولم يكن المال عندهم إلا وسيلة للحياة. فلم يكن بينهم تعير بفقر ولا فخر بغنى، ومثل ذلك يقال في الحرف، وما كان الواحد منهم يأنف من أن يتزوج ابنته لفقير أو صاحب حرفة بسيطة، ما دام دينه سليماً وخلقه مرضياً.
وإن الزواج كما عرفناه عقد الحياة، يربط بين الأسر ويجعل الزوج كفرد من أفراد أسرة زوجته، والناس في كل عصر تختلف عاداتهم فيما يتعيرون منه.
وإن اشتراط الكفاءة فيه لم يكن إلا وسيلة لدعمه واستقراره ليؤتى ثمرته المرجوة منه.
ولا مانع شرعاً من اعتبار أمور أخرى في الكفاءة ما دامت لا تخرج عن نطاق الشريعة وأن هذه الأمور تختلف من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى، ومن هنا جاء اختلاف الأئمة في الأمور التي تعتبر فيها الكفاءة:
ذهب مالك إلى أن الكفاءة تعتبر في الدين أي التدين. بأن يكون الزوج ذا دين، أي غير فاسق مع السلامة من العيوب الجسمية التي لا يمكن الحياة معها إلا بضرر، وجعلوا الأول حقاً للزوجة والأولياء، والثاني حقاً لها خاصة.
وذهب الشافعي إلى اعتبارها في أمور خمسة: الدين والنسب والحرفة والحرية، والخلو من العيوب المثبتة للخيار. كالجنون والجذام والبرص، وقد زاد بعض أصحابه أمراً سادساً وهو المال، والأصح عدم اعتباره، لأن المال غاد ورائح ولا يفتخر به أهل المروءات.
وذهب أحمد إلى روايات مختلفة فيها: ففي بعضها تعتبر في التدين فقط. وفي أخرى تعتبر في التدين والنسب، وفي ثالثة في الدين والنسب والحرفة.
وذهب الحنفية إلى اعتبارها في أمور ستة. وهي النسب والإسلام والحرية والحرفة، والمال والديانة على خلاف بينهم في بعضها.
المبحث الثاني
34- في أي الجانبين تشترط فيه الكفاءة ؟ وصاحب الحق فيها:
تشترط الكفاءة في جانب الرجل فقط لأمور.
أولاً: أن المرأة هي التي تعير بزواج غير الكفء، كما أن أهلها يعيرون بذلك، أما الرجل فلا يلحقه هو ولا أسرته معرة بزواج امرأة لا تساويه في المنزلة، ولو فرض وتعير بها استطاع أن يتخلص منها بالطلاق.
ثانياً: أن الرجل له القوامة على المرأة، فسلطة التوجيه له لا لها، فلابد من مساواته لها على الأقل حتى تتقبل منه التوجيه، لأنه لو كان أقل منها منزلة فقد تستهين به وتأنف من تنفيذ ما يطلبه منها.
ثالثاً: أن الرجل إذا كان صاحب منزلة بين الناس رفع امرأته مهما كانت درجتها، عكس المرأة فإنها مهما علت درجتها فلن ترفع ما في زوجها من خسة ووضاعة.
35- وقت اعتبار الكفاءة:
تعتبر الكفاءة وقت إنشاء العقد فهي شرط في ابتدائه ولا تشترط لبقائه. وعلى ذلك لو تزوج رجل امرأة وكان كفئاً لها ثم زالت كفائته. بأن كان غنياً وافتقر، أو كان صالحاً ثم انحرف وأصبح فاسقاً، أو كان صاحب حرفة شريفة فاحترف غيرها أقل منها فالزواج باقٍ لا يفسخ لزوال الكفاءة.
لأننا لو شرطناها في البقاء لتهدمت الأسر ولما استقر عقد من عقود الزواج، لتقلب الأحوال كما هي سنة الحياة، ولأن المرأة في هذه الحالة لا يلحقها عار ببقائها مع من زالت كفائته، بل قد تكون محمودة مشكورة على صبرها ورضاها بقضاء الله، وفي عرف الناس يعد بقاؤها ورضاها وفاء، ونفورها وعدم رضاها غير ذلك.
ذهب الفقهاء إلى أن الكفاءة هي حق للزوجة وأوليائها ثابت لكل منهما على حدة لا يسقط إلا بإسقاطه، فلو أسقطه أحدهما بقي حق الآخر، لكنه ثابت للولي في جميع الصور من غير استثناء، وللزوجة إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا كانت فاقدة الأهلية وزوجها بغير الكفء ولي من أصولها أو فروعها غير معروف بسوء الاختيار فإن العقد صحيح لازم عند أبي حنيفة.
ويتفرع على ذلك الفروع الآتية:
1- إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها بدون إذن وليها من غير كفء، فإن هذا العقد موقوف على إجازة الولي على إحدى الروايتين عند أبي حنيفة، وفاسد على الرواية المفتى بها.
2- إذا زوج الولي البالغة العاقلة بغير كفء بدون رضاها توقف ذلك على إجازتها، لأن حقها في الكفاءة ثابت لا يسقط إلا بإسقاطها.
3- إذا زوجت نفسها ممن لا تعرف حاله، ولم تشترط الكفاءة عند العقد، ثم ظهر أنه غير كفء سقط حقها بتقصيرها في البحث عنه وعدم الاشتراط وبقي حق الولي فيتوقف على إجازته.
4- إذا زوجها الولي من رجل لا تعرف كفاءته برضاها ولم تشترط هي ولا وليها الكفاءة ثم ظهر أنه غير كفء لزم العقد وسقط حقهم بتقصيرهم في البحث وعدم الاشتراط في العقد.
وعلى هذا لو شرطت هي أو وليها الكفاءة في الصورة السابقة ثم تبين أنه غير كفء كان الحق ثابتاً للشارط دون غيره.
5- إذا غرر الزوج عند العقد في الكفاءة بأن ادعى ما يثبت كفاءته ثم تبين أنه غير كفء كان الحق لها ولأوليائها سواء كانت هي التي باشرت العقد أو باشره وليها برضاها.
6- إذا غرر الزوج في النسب بأن نسب نفسه إلى عائلة أعلى من عائلته ثم ظهر كذبه، فإن لم يكن مكافئاً لها يثبت الحق لها ولوليها، فإن رضيت به كان لوليها حق الاعتراض وبالعكس، فإن رضيا سقط حقهما ولزم العقد، وإن كان كفئاً لها سقط حق الأولياء لأن حقهم في الكفاءة فقط ولم يوجد تغرير فيها وبقي حقها في الفسخ لأنها قبلت زواجه على أساس نسب معين ولم يوجد فلا تجبر على إبقاء هذا العقد، لأن المرأة قد ترضى بالزواج ممن هو أفضل منها ولا ترضى به ممن يماثلها، ومن هنا يدخل الخلل في رضاها الذي هو أساس صحة العقد.
وإذا كان التغرير من جانبها بأن انتسبت إلى غير أسرتها فتزوجها على ذلك ثم ظهر أنها من أسرة أخرى أقل مما انتسبت إليهما فلا خيار له، لأنه لا يلحقه عار بزواج امرأة أقل منه، وعلى فرض حصوله يمكنه التخلص منها بالطلاق.
ثم إن حق الكفاءة يثبت للولي العاصب القريب دون غيره من ذوي الأرحام والأم والقاضي، فإن كان لها ولي واحد ثبت الحق له، وإن تعددوا كان الحق للأقرب.
وعلى ذلك إذا رضي القريب بغير الكفء لم يكن للبعيد حق الاعتراض، وإن لم يرض القريب فلا يؤثر رضا من بعده.
وإن تعددوا وكانوا متساوين كالإخوة الأشقاء أو الأعمام الأشقاء مثلاً فإن الحق يثبت لكل منهم، فإن اتفقوا على الرضا بالعقد نفذ وإن رضي البعض بهذا العقد قبله أو عند إنشائه ولم يرض الآخرون.
ذهب أبو حنيفة إلى أن رضا البعض مسقط لحق الباقين، لأن الولاية حق لا يتجزأ، لأن سببها القرابة وهي لا تتجزأ فيثبت الحق لكل منهم كاملاً، وعلى هذا يكون رضا البعض بمثابة رضا الجميع كما في ولاية الأمان فإنها تثبت لكل واحد من المسلمين ولو كان امرأة، فإذا أعطى واحد منهم الأمان لشخص من الأعداء استجار به نفذ على الجميع، وكذلك العفو عن القصاص إذا عفا أحد الأولياء للمقتول على القصاص سقط حق الباقين في المطالبة به.
اترك تعليقاً