ان التزام الطبيب بتبصير مريضه لا يقتصر على مرحلتي التشخيص والعلاج إنما يبقى التزامه هذا ممتدا إلى ما بعد العلاج ومهما كانت نتيجة التدخل العلاجي أو الجراحي سواءً ا كانت مكللة بالنجاح أم بالفشل. إلا أن هدف التبصير الرئيسي في هذه المرحلة هو المحافظة على حالة المريض وذلك بأعلامه بنتيجة العلاج وما يلزم اتخاذه من احتياطات في المستقبل من اجل تلافي الآثار السيئة التي قد تقع، في حين أن هدف التبصير في المرحلتين السابقتين هو الحصول على رضاء المريض المستنير بالعمل الطبي سواءً كان علاجياً أم جراحياً(1).وبناءً على ما تقدم إذا أجرى الطبيب عملية جراحية لمريضه على سبيل المثال عليه أولاً الإفضاء إليه بكيفية إجراء العملية وما يتعرض إليه المريض في اثنائها ومن ثم يعلمه بنتيجتها، وهنا نشير إلى انه إذا كانت النتيجة ايجابية، فيجب إعلامه بذلك، أما إذا كانت النتيجة سلبية، فالأمر يتطلب قدراً كبيراً من الحساسية في إعلام المريض من أجل المحافظة على حالته النفسية، كما يجب على الطبيب أن يُّبصر مريضه باتخاذ الإجراءات اللازمة التي تؤمن المحافظة على صحته كأن يبصره بكمية العلاج الذي يتناوله وأوقاته وكيفية استخدامه بتعليمات واضحة سهلة الفهم بحيث تتناسب مع المريض وقدرته واستيعابه. وتأسيساً على ذلك فقد قضت محكمة تمييز العراق بقرارٍ لها جاء فيه: (عدم قيام الطبيب بأخبار المريض بعد العملية عن الاحتياطات التي يجب اتباعها من اجل تجنب الآثار الجانبية التي قد تقع يُعدّ سبباً لقيام مسؤوليته)(2).
فقرار محكمة التمييز جديرٌ بالتأييد لأن العقد الطبي يفرض على الطبيب التزاماً بتبصير مريضه منذ التشخيص والعلاج وحتى المرحلة اللاحقة على العلاج، فعليه في هذه المرحلة أن يبصره بنتيجة العملية التي أجراها وما يتطلب منه من إجراءات واحتياطات يتخذها من أجل المحافظة على صحته وتجنب كل أثر سلبي يقع نتيجة عدم تبصيره بهذه الاحتياطات. فهذا دليل وتأكيد على ضرورة التبصير اللاحق على العلاج مقابل فقدان النص، ونأمل في هذا المجال من مشرعنا ايراد نص بهذا الخصوص يقضي بـأن: (لا يقتصر التزام الطبيب بتبصير مرضاه على مرحلتي التشخيص والعلاج إنما يمتد إلى المرحلة اللاحقة على العلاج). كما قضت محكمة النقض الفرنسية في 25/12/1946في قرار لها جاء مضمونه مطابقاً تقريباً لما قضت به محكمة تمييز العراق في تأكيدها على ضرورة تبصير المريض في المرحلة اللاحقة على العلاج مقتضاه: (لا يكفي أن يكون سلوك الطبيب مطابقاً للعادات المهنية كي يعفى من المسؤولية متى كانت هذه العادات تتعارض مع قواعد التبصير والحيطة في مراحل العمل الطبي)(3).
إذاً فالتبصير اللاحق على العلاج قد يأخذ هذه الصورة كما قد يقع بصورة أخرى وهي كثيرة الوقوع في الواقع العملي لمهنة الطب، كأن يكتشف الطبيب في أثناء تدخله الجراحي على سبيل المثال مرضاً أو حالة أشد خطورة ولا تحتمل التأخير، فما عليه إلا إجراء الجراحة أو العلاج اللازم مباشرةً دون حاجة إلى تبصير المريض فيها فيستمد الطبيب حريته هذه من عدم قابلية الحالة للانتظار والتأخير(4). وهذا يدخل ضمن حالة الضرورة والتي تعدّ من حالات الإعفاء من التبصير. لكن ألا يعد ذلك انتقاصاً من إرادة المريض؟! ذهب جانب من الفقه(5). إلى أن الطبيب في مثل هذه الفروض يسعى إلى تحقيق ما فيه مصلحة المريض ذاته باعتبار أن الحرية النسبية الطارئة للطبيب تحقق للمريض فائدة حتمية، إذ لو تأخر هذا التدخل الطبي فانه سوف يتم في ظروف نفسية وحتى جسدية قد تكون أكثر سوءاً، والطبيب يلتزم هنا بالتبصير اللاحق بعد إجراء الجراحة أو العلاج، فعليه أن يُعلم المريض بدواعي التدخل المفاجئ وتبصيره بما يترتب عليه من نتائج، فهذه الحالة تدخل ضمن حالات الضرورة والطوارئ، كما تدخل أيضاً ضمن الحالات التي تعد استثناءً من التزام الطبيب بتبصير مريضه.
من كل ما تقدم نخلص إلى ضرورة قيام الطبيب بتبصير مريضه تبصيراً تختلف طريقته من مرض إلى آخر ومن مريض إلى آخر نتيجة لتعدد الأمراض واختلاف المرضى أنفسهم في مستوى ذكائهم واستيعابهم ومستواهم العلمي والفكري، فمتى كان المرض بسيطاً وجب على الطبيب إعلام المصاب وتبصيره به تبصيراً مفصلاً وبالطريقة التي لا تؤثر في نفسيته، أما إذا كان المرض خطيراً إلا أنه من عداد الأمراض القابلة للشفاء فعلى الطبيب أن يكون في هذا الفرض أكثر حرصاً في تبصير المصاب به ومراعياً لحالته النفسية، لكن متى كان المرض خطيراً وغير قابل للشفاء فان هذا الأمر يفرض على الطبيب تبصير مريضه تبصيراً أكثر دقة وتفصيلاً عن غيره وإعلامه بما يفرض عليه من اتخاذ الاحتياطات اللازمة من اجل ضمان صحته وذلك بكيفية استخدام العلاج مثلاً ومقدار ما يستخدم وتنبيهه على عدم تكراره إذا تطلب الأمر ذلك. كما يفرض العقد الطبي على الطبيب في تبصيره للمريض التزاماً بمراعاة حالة كل مريض على حدة عند تبصيره اياه، لأن المرضى وفي الغالب هم من عامة الناس، وممن لا يدركون المصطلحات العلمية التي يتداولها الأطباء الفنيون، كما أنهم يتفاوتون فيما بينهم بحسب درجة ذكائهم ومستواهم العلمي، كل هذا وذاك يفرض على الطبيب استخدام المصطلحات الواضحة السهلة الفهم مع مرضاه لكي يتوصل إلى إقناعهم بما يعانون منه من آلام ومن ثم الأخذ بأيديهم إلى الشفاء وإقناعهم بأهمية التدخل العلاجي أو الجراحي وذلك من خلال حصوله على الرضاء المستنير.
وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن تبصير الطبيب للمريض يتم من خلال قيامه بتحويل اللغة والمصطلحات العلمية إلى لغة دارجة يفهمها العامة. فقد جاء في الواقع العملي لمهنة الطب في قضية(6). ملخصها أن أحد الأطفال كان يعاني من سوء في الجهاز التنفسي مع صدمة برد وسوء وزن شديد اذ أن وزنه لا يتجاوز 1600 غم، فتم إدخاله إلى ردهة خاصة في مستشفى الخنساء في الموصل وقد أكد الطبيب المختص على ذويه وأعلمهم بعدم إعطائه الحليب بعد إعطائه المضادات الحيوية، على اعتبار أن ذلك يؤثر في صحته سلباً، إلا أن والدة الطفل أعطته الحليب بعد أن أخذ المضادات الحيوية ولم تأخذ بعين الاعتبار ما أكده الطبيب الاختصاصي مما أدى ذلك إلى توقف التنفس ووفاة الطفل، لذلك قدَّم والد الطفل شكواه على الأطباء في المستشفى وتشكلت بموجب ذلك لجنة تحقيقية إدارية وكانت النتيجة إصدار القرار الآتي: تبين للجنة التحقيقية بأنه لا يوجد أي تقصير من ناحية إعلام ذوي الطفل بما تستوجب حالته، كما أنه لا تقصير من الناحية التشخيصية والعلاجية بدليل شهادة الأطباء الآخرين لذلك، يجب رد هذه الشكوى …. فوافق المدير العام على القرار. لكن من خلال إطلاعنا على الأوراق التحقيقية وإفادات الأطباء بذلك اتضح لنا أن والدة الطفل امرأة بسيطة وأمية لا تعرف القراءة والكتابة، وهذا بدوره يتطلب تبصيرها تبصيراً كافياً وافياً يتناسب مع قابليتها وفهمها المتواضع وإعلامها بمدى الخطورة البالغة التي ستقع على طفلها إن قامت بارضاعه والتأكيد عليها بأن أية مخالفة لإرشادات الأطباء تودي بحياة الطفل إلى الموت خصوصاً وأن جهازه التنفسي سيء إلى أبعد حد فإعطاؤه أي شيء عن طريق الفم يؤثر سلباً في صحته؛ إلا أن الأطباء لم يبصروا والدة الطفل بهذه الطريقة بل كل ما قيلَّ لها هو (سوف نعطيه المضادات الحيوية على أن لا تقومي بارضاعه لأن ذلك يؤثر في صحته). وهذا من وجهة نظرنا المتواضعة لا يكفي للحفاظ على حياة الطفل خصوصاً وأن الأم تضعف أمام بكاء طفلها فيتخيل لها أنها مقصرة أمامه وما عليها إلا إرضاعه لسد حاجته من الجوع، لذلك فان قرار اللجنة لم يكن منصفاً، بل جاء محابياً للأطباء ولم يأخذ بنظر الاعتبار الطفل وحياته ونحن نأمل في نهاية هذا المبحث من مشرعنا ايراد نص عام يلتزم فيه الطبيب بتبصير مريضه في مرحلة الفحص والتشخيص والعلاج وحتى المرحلة اللاحقة على العلاج باعتبار أن هذا الالتزام هو التطبيق الأمثل لمبدأ احترام إرادة المريض ونأمل أن يكون النص بالشكل الآتي:
(يلتزم الطبيب بتبصير مرضاه بجميع مراحل العمل الطبي وحتى المرحلة اللاحقة على العلاج بمعلومات صادقة وواضحة وملائمة له آخذاً بنظر الاعتبار كل حالة على حدة، وإلا تقام مسؤوليته تجاه المرضى).
_________________________
-[1] Louis Melennec، Op.Cit.، P.31.
2- رقم القرار 417/م1 منقول/2001 صدر في 12/5/2001، غير منشور.
3- أشار إليه: د. السيد محمد السيد عمران، التزام الطبيب باحترام المعطيات العلمية، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1992، ص20.
4- د. سهير منتصر، المصدر السابق، ص176.
5- د. سهير منتصر، المصدر السابق، ص177؛ د. عدنان السرحان، مسؤولية الطبيب المهنية في القانون الفرنسي، بحث منشور في المجموعة المتخصصة في المسؤولية القانونية للمهنيين المصدر السابق، ص151.
6- قرار أصدرته اللجنة التحقيقية في مستشفى الخنساء التعليمي للولادة والأطفال بموجب الأمر الإداري ذي العدد 16 بتاريخ 13/1/2003.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً