بحث فى الدستور والقوانين المكملة لة
1- تمثل فكرة الدستور ، أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في تنظيم شؤون الحياة ، وفق إطار توافقي محدد يعبر عن أهدافه و مصالحه المشتركة ولذلك تحرص الدولة على تنظيم شؤون الحكم وتنظيم علاقاتها بالأفراد من خلال قواعد الدستور
ومن ثم فأن دستور الدولة ، هو مرآة نظامها، و الفيصل بين الحاكمين و المحكومين، والانعكاس البليغ للضمير الجماعي لشعبها ، ولذلك فهو سيد القوانين وأعلى هرمها، يتضمن مجموعة المبادئ القانونية العامة و القواعد الأساسية الكلية التي تخضع لها القواعد القانونية العادية المنظمة للحياة العامة والخاصة فيها وتعتبر الوثيقة الدستورية صورة صادقة ، عن مدى وعي القوى السياسية و الشعبية في الدولة وعن مدى التأصل الحضاري و التطلع إلى المستقبلي لديها جميعا
2-أن تعريف الدستور وبمختلف أطوار حياته ونموه وتطوره يستلزم البحث في مختلف مراحل حياة الدستور فحياة الدستور تبدأ بميلاده في زمن معين وتمر بمراحل متعددة ثم تنتهي حياته في زمن آخر فالدستور يولد ثم يحيى ثم تنقضي حياته والفترة الزمنية ما بين الميلاد والموت ، تختلف من دستور إلى آخر
ومن ثم فأننا نتناول دراسة ( نظرية الدستور) طبقا لهذا النهج إذ نبحث في المبادئ الدستورية العامة المتعلقة بماهية الدستور و ميلاده و أعلويته و محتواه ، البحث في كيفية الرقابة على الدستور
وسوف نتعرض لدراسة هذه الموضوعات المختلفة وعلى النحو التالي :
الفصل الأول : ماهية الدستور
الفصل الثاني : إقامة الدستور
الفصل الثالث : المحتوى و الرقابة على الدستور
—
الفصل الأول
ماهية الدستور
تقتضي دراسة ماهية الدستور ، أن نتعرض لبيان فكرة الدستور وفقا للاتجاهات المختلفة و كذلك نتناول بالبحث مسالة وجود الدستور ، وعلى ذلك سنقسم هذا الفصل إلى ثلاث مباحث
المبحث الأول : فكرة الدستور
المبحث الثاني : وجود الدستور
المبحث الثالث : طبيعة الدستور
المبحث الأول
فكرة الدستور
للإحاطة بفكرة الدستور يقتضي أن نحدد أصل تسمية الدستور ومعناه وتحديد قواعده
أولاً : أصل تسمية الدستور
لئن بحثنا عن أصل اللغوي لكلمة (الدستور) لوجدنا أنها ليست عربية المنبت أو الأصل فهي كلمة يرجع أصلها إلى اللغة الفارسية و(الدُستور) بضم الدال كلمة مركبة تتكون من مقطعين : ((دست)) بمعنى قاعدة و ((ور)) بمعنى صاحب فيكون معناها صاحب القاعدة
وتشير معاجم اللغة العربية إلى أن كلمة (الدستور) يراد بها
القاعدة الأساسية التي يعمل بمقتضاها كالدفتر الذي تجمع فيه قوانين الملك وضوابطه أو تكتب فيه أسماء الجند و مرتباتهم وقد يطلق تعبير ( الدستور) على الوزير الكبير الذي يرجع إليه في الأمور و المسائل المهمة والخطيرة
وتعني كلمة ( الدستور) في اللغة العربية : الأساس أو القاعدة كما تعني الإذن أو الترخيص ويقابل كلمة ( الدستور) في اللغة العربية اصطلاح (( القانون الأساسي )) الذي استعمله الدستور العراقي الأول الصادر عام 1925
ثانيا : معنى الدستور
تواتر الفقه الدستوري على إبراز معنيين متمايزين للتعبير الدستور وذلك حسب النظرة التي يوليها كل فقيه اهتماماً وذهب البعض إلى تبيان المعنى السياسي للدستور بينما ذهب البعض الآخر إلى تبيان المعنى القانوني للدستور
أ- المعنى السياسي للدستور
يأخذ جانب من الفقه بالمدلول أو المعنى السياسي للدستور إذ عرف د مصطفى أبو زيد الدستور بأنه ( مجموعة القواعد التي تنظم مزاولة السلطة السياسية في الدولة فتنظم شكل الدولة الخارجية والسلطة المختلفة فيها ووظيفة كل منها و العلاقات بينها )
ويوضح دسعد عصفور أن المقصود بالدستور( مجموعة القواعد التي تنظم علاقة الدولة بالفرد من الناحية السياسية أي التي تحدد التنظيم السياسي في دولة ما )
لعل ابرز تعريف للدستور : وفقاً للنظرة السياسية : هو ما جاء به د منذر الشاوي ، فيعرف الدستور أنه ( مجموعة من القواعد الأساسية التي تبين الطريقة التي تمارس بها السلطة السياسية من قبل القابضين عليها )
وهذا يعني أن الدستور يبين مقدار إسهام الحكام في ممارسة السلطة فالدستور إذاً هو وسيلة لتكريس القوانين المهيمنة في الدولة أو بعبارة أدق هو وسيلة يتحدد أو يُبان بها القابض على السلطة في الدولة
ب- المعنى القانوني للدستور :
ابرز جانب من الفقه المعنى القانوني للدستور ويعرف د0 السيد صبري ، الدستور ، بأنه ( مجموعة القوانين التي تنظم قواعد الحكم ، وتوزع السلطات وتبين اختصاص كل منها وتضع الضمانات الأساسية لحقوق الأفراد )
وبين د محسن خليل أن الدستور هو (مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة ) ويرى د ماجد الحلو أن الدستور هو (مجوعة القواعد القانونية التي تحدد نظام الحكم في الدولة وتبين السلطات العامة بها من حيث تكوينها واختصاصاتها و العلاقات التي تربطها ببعضها وبالأفراد) ومن ثم فأن الدستور يهتم بالدرجة الأولى بوضع قواعد قانونية تتناول تنظيم السلطة في الدولة وتنظيم حياة الجماعات البشرية التي تعيش على أرضها بشكل يضمن حقوق كل من الطرفين وحمايتها فهو يحدد الهيئات التي يعود إليها حقق ممارسة السلطة السياسية كما أنه يقيد من هذه الممارسة بالدرجة التي يحفظ بها للأفراد حقوقهم
ثالثا :تحديد قواعد الدستور
أن تحديد القواعد الدستورية وتمييزها عن القواعد القانونية يتم وفق معيارين شكلي وموضوعي
أ- المعيار الشكلي :
تتميز القواعد الدستورية عن القواعد القانونية العادية من حيث الجهة التي صدرت عنها وشكل صدورها و الإجراءات التي تتبع في وضعها وفي تعديلها وعليها فالقواعد الدستورية هي القواعد التي يقيمها مشرع آخر غير المشرع العادي الذي يضع القواعد القانونية العادية فقواعد الدستور هي من صنع جهة تسمى ( السلطة التأسيسية الأصلية أو السلطة المؤسسة ) التي تختلف عن السلطة التي تتولى وضع القواعد القانونية العادية ( السلطة المنشأة أو السلطة المؤسسة ) هذا الاختيار بين المشروعين يعني وجود اختلاف في الطريقة أو الشكل الذي تقام وفقا له القواعد الدستورية والقواعد القانونية العادية 0
ب- المعيار الموضوعي :
تتميز القواعد الدستورية عن القواعد القانونية العادية من حيث موضوع هذه القواعد أو محتواها أو مادتها وعليه، تكون قواعد دستورية، كل القواعد التي تحدد شكل الدولة (موحدة أو مركبة) وشكل حكومتها ( جمهورية أو ملكية) وتبين تنظيم واختصاص سلطاتها العامة و العلاقة بينها و تنظم حقوق الأفراد
المبحث الثاني
وجود الدستور
أولا : شروط وجود الدستور
أ- يعتبر وجود المجتمع السياسي من الناحية القانونية الشرط الأساسي لوجود الدستور وهذا يعني أن
وجود الدولة ( من الناحية القانونية ) الدولية هو الشرط الأساسي لوجود الدستور أو القاعدة الدستورية فالدولة إذن أقدم من الدستور في الوجود من الناحية الزمنية وبمعنى آخر أن الدولة تسبق الدستور بالوجود و الدولة تتكون حالما تتوفر الشروط الجوهرية وهي وجود جماعات من الناس ذات غاية واحدة تقيم فوق إقليم معين وتتمتع بالسيادة والشخصية المعنوية وقيام الدولة يقتضي وجود قواعد دستورية سواء كانت تلك القواعد ، مدونة في وثيقة مكتوبة أو قواعد غير مدونة ( عرفية ) استقر في وجدان الجماعة فارتفعت إلى مستوى إلزام القانون
ب- يعتبر تحقق الفصل بين السلطة والأشخاص الذين يمارسونها شرط لوجود الدستور
إذ يوجد الدستور عندما يصبح بالإمكان وضع القواعد الأساسية للدولة وتنظيم حياة الأفراد والتفريق بين السلطة والهيئات التي تتولى ممارستها وعليها فأن الدستور يتضمن قواعد تحديد اختصاصات الحكام والمبادئ الأساسية التي يتوجب عليهم احترامها وبخاصة المتعلقة بحقوق الأفراد
ج- يعتبر إقامة نظام الحكم على أساس ديمقراطي ، شرط الدستور
فوجد الدستور يرتبط بمضمونه وأنه لا يكفي القول بوجوده أن يتضمن قواعد المنظمة للسلطة السياسية للدولة وإنما يجب أن يتضمن فضلاً عن ذلك القواعد التي تكفل وتصون حقوق الأفراد حيث يتوجب أن
تتضمن القواعد الدستورية إقامة نظام حكم يتبنى مبادئ نظام الحكم الذي يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات ومبادئ سيادة الشعب ، ويقر ويضمن حقوق الإنسان ولقد عبر عن هذا الاتجاه الفقه التقليدي والذي ربط بين الدستور والنظام الديمقراطي الحر فالدستور لا يوجد – في نظره – إلا في دولة يقوم فيها الحكم على أسس ديمقراطية واستند هذا الفقه إلى الدستور الأمريكي الصادر عام 1787 والذي كفل الحريات الفردية عن طريق تقييد السلطة ، كما استند أيضاً إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر عام 1789، وبصفة خاصة ما نصت عليه المادة السادسة عشر منه من أن (( كل مجتمع لا يكفل ضمانات الحقوق ، ولا يأخذ بالفصل بين السلطات ، هو مجتمع ليس له دستور))
وعلى هذا النحو يستلزم وجود الدستور أن يتضمن المبادئ الديمقراطية التي تجعل من سلطة الحكام سلطة مقيدة لا مطلقة ويكفل نظاما للحكم تصان فيه حقوق الأفراد
ونحن من جانبنا ، نعضد هذا الاتجاه ، ونؤكد ضرورة التفرقة بين أمرين : الوجود الشرعي للدستور والوجود الفعلي للدستور
فالوجود الشرعي للدستور ، يستلزم أن يوضع الدستور ( المدون ) من قبل السلطة التأسيسية الأصلية ( السلطة المؤسسة ) و المتمثلة بالشعب ، وأن يؤسس الدستور ( المدون و غير المدون ) نظام حكم مقيد لا مطلق بحيث تتقيد جميع السلطات الحاكمة فيه بالقواعد الدستورية على نحو يضمن حقوق الأفراد و على هذا الأساس فأن الوجود الشرعي للدستور يقتصر على بعض الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي
أما الوجود الفعلي للدستور ، فأنه يتحقق في كل دولة أياً كان النظام السياسي السائد فيها مقيداً آم مطلقاً ما دام فيها تنظيم للسلطة
فالدستور يكون موجودا فعليا في الدول ذات الحكم الديمقراطي والدول ذات الحكم المطلق فالبرتغال كان لها دستور هو الدستور الصادر عام 1963 في الوقت الذي كلن يسودها نظام حكم دكتاتوري ، وأثيوبيا كانت أيضاً دولة ملكية مطلقة وكان لها دستور هو الدستور الصادر عام 1955 والتاريخ الدستوري مليء بأمثلة لعدة دساتير ، أقامت نظم سياسية معادية للأنظمة الديمقراطية ، كدستور النمسا لعام 1934 ودستور بولونيا لعام 1935
وصفوة القول أن لكل دولة دستور ذلك أن لكل دولة قواعد تتعلق بنظام الحكم بغض النظر عما إذا كان الدستور مدون أم غير مدون ولكل دولة دستور بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم فيها ، سواء كان الحكم مطلقاً أم مقيداً ، وأياً كانت الفلسفة التي تدين بها الدولة
– والتساؤل الذي يطرح في هذا الشأن : عن الفرق بين مصطلحين ( دولة لها دستور ) و ( دولة
دستورية)
يميز الفقه بين مصطلح (( دولة لها دستور )) و (( دولة دستورية )) ذلك أنه لكل دولة حتما دستور ينظم السلطات فيها إلا أنه ليس من الضروري أن تكون هذه الدولة دولة دستورية أو دولة ذات نظام دستوري والدولة الدستورية هي دولة يتضمن دستورها ، المبادئ الديمقراطية التي تكفل قيام حكم مقيد يصون الحقوق والحريات وبهذا يتضح اختلاف مصطلح (( دولة ذات الدستور)) و مصطلح (( دولة دستورية ))
ثانياً : الصلة بين وجود الدستور وسيادة الدولة :
يتجه جانب من الفقه إلى القول بوجود الدستور إذا تطورت الجماعة البشرية وأصبح فيها تنظيم للسلطة واتخذت هذه الجماعة شكل الدولة
و الملاحظ أن الدستور يوجد في كل دولة بغض النظر عن الفلسفة السياسية التي تنتهجها
إذا كان وجود الدستور أمر يرتبط بوجود الدولة فهل المقصود بلفظ الدولة في هذا المقام الدولة كاملة السيادة فقط أم أنه يمتد ليشمل الدولة ناقصة السيادة
بمعنى آخر هل يقتصر وجود الدستور على الدولة كاملة السيادة فقط دون الدولة ناقصة السيادة يسلم جانب الفقه الدستوري بأن وجود الدستور لا يقتصر على الدولة كاملة السيادة وإنما يمتد ليشمل الدولة ناقصة السيادة
فالدولة ناقصة السيادة يمكن أن يكون لها أيضاً دستور وقد استند الفقه في تأسيس وجهة نظره على أن الدولة ناقصة السيادة إذا امتلكت القدرة على تنظيم سلطاتها العامة الداخلية في وثيقة معينة فأن الوثيقة تسمى دستور
لم يقف الفقه عند هذا الحد بل أقر بوجود الدستور في الدولة ناقصة السيادة حتى إذا كانت الدولة الحامية أو الدولة صاحبة الوصاية هي التي وضعت هذا الدستور ولا يفقد صفته إلا إذا كانت الدولة خاضعة للوصاية لا تستطيع تغيره بإرادتها متى رأت ذلك
ومن خلال استقراء ما ذهب إليه جانب من الفقه بشأن مسألة وجود الدستور يجدر أن نلاحظ ما يلي :
1- أن الرأي الذي تبناه جانب من الفقه الدستوري قد ارتكز على المعيار الشكلي في بحث مسالة وجود الدستور في الدولة ناقصة السيادة ومفاد هذا المعيار الاعتماد على مصدر القواعد الدستورية أو الشكل الذي تصدر فيه وكذلك الإجراءات التي تتبع في وضعها وفي تعديلها
ومن ثم اقر الفقه بوجود الدستور في حالتين
– صدور وثيقة الدستور من جانب الدولة ناقصة السيادة
– صدور الدستور من جانب الدولة الحامية أو الدولة صاحبة الوصاية
وأنكر الفقه وجود الدستور في الحالة الثانية إذا لم يكن في استطاعت الدولة ناقصة السيادة أن تغير أحكام الدستور عندما تشاء ذلك
2- لقد اغفل أصحاب هذا الرأي المعيار الموضوعي في بحث مسالة وجود الدستور في الدولة ناقصة السيادة و مفاد هذا المعيار الاعتماد على مضمون القواعد الدستورية ومحتواها ومدى تنظيمها للسلطة السياسية وكفالتها لحقوق الأفراد
وبعبارة أخرى ، مدى تبني قواعد الدستور لمبدأ تقيد السلطة بالشكل الذي يضمن الحقوق ويصونها
3- لم يكن الفقه موفقا فيما ذهب إليه من الإقرار بوجود الدستور – بصفة عامة – في الدولة ناقصة السيادة
حيث لم يميز أصحاب هذا الاتجاه بين حالتين :
– الوجود الفعلي والواقعي للدستور
– الوجود الشرعي والقانوني للدستور
–
ونرى وجوب التميز بين هاتين الحالتين :
الحالة الأولى : الوجود الفعلي والواقعي للدستور :يمكن الإقرار بوجود الدستور من الناحية الفعلية أياً كانت السلطة التي أقامته سواء الدولة ناقصة السيادة أو الدولة صاحبة الحماية أو الوصاية
الحالة الثانية : الوجود الشرعي والقانوني للدستور: يقتضي وجود الدستور من الناحية الشرعية أن يساهم الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر في كتابة وثيقة الدستور وإقرارها والموافقة عليها وسواء أنفرد الشعب في هذا الشأن أم اشترك مع الدولة (ناقصة السيادة) في إقامة ووضع الدستور هذا ولا يمكن الإقرار بوجود الدستور إذا صدرت وثيقة الدستور من الدولة ناقصة السيادة دون إسهام الشعب في وضع تلك الوثيقة وإقرارها وكذلك في حال صدرت وثيقة الدستور بالإرادة المنفردة للدولة صاحبة الحماية أو الوصاية أو في حال صدرت تلك الوثيقة باتفاق إرادتين بإرادة الدولة ناقصة السيادة وإرادة الدولة صاحبة الحماية أو الوصاية متجاهلة إرادة الشعب ودوره في هذا المجال
و التساؤل الذي يرد في هذا الشأن : عن مدى حرية الدولة ناقصة السيادة في وضع وتعديل الدستور
لئن كان الدستور يمكن أن يوجد في الدولة ناقصة السيادة فأنه يجب أن يلاحظ أن حرية هذه الدولة في وضعه أو تعديله لن تكون كاملة فهي لن تستطيع بطبيعة الحال أن تضع لنفسها دستور يؤمن لها نظام دستوري ديمقراطي يضمن ويصون حقوق الأفراد بالشكل الأمثل إذ يكون طبيعياً أن تعمل الدولة الحامية أو صاحبة الوصاية على أن تضمن نصوص الدستور ، من المبادئ التي تباعد بين الشعب وسيادته حتى يجعل من سيادة الشعب سيادة إسمية وغير فعلية أو تجعل من السلطات العامة في الدولة أداة طبيعية و موالية لها الأمر الذي يعمل على تدعيم مركزها ويثبته في الدولة المحمية أو الخاضعة للوصاية
أن التجارب الدستورية تبين بوضوح أن الدساتير التي صدرت في الدولة ناقصة السيادة ( أبان عهد الحماية أو الانتداب ) كانت متأثرة إلى حد كبير بالوضع السياسي السائد فيها وأن حقيقة هذه الدساتير تشير إلى أنها كانت تنظيما للسلطة السياسية فقط وبحسب رؤية الدولة الحامية أو الدولة صاحبة الوصاياً فالملاحظ أن هذه الدساتير لا تتضمن أي تنظيم لحقوق الأفراد واستثناءا من ذلك يمكن أن نجد بعض تلك الدساتير قد تضمنت تنظيم لحقوق الأفراد إلى جانب تنظيمها للسلطة ولكن هذا التنظيم يعد تنظيم شكلي أو أسمي و غير واقعي
أن الوثائق الدستورية التي توضع في الدولة ناقصة السيادة سوف تبتعد بطبيعة الحال عن الأنظمة النيابية الحرة وتقترب إلى حد ما إلى أنظمة الحكم المطلقة
المبحث الثالث
طبـيعـة الـدسـتـور
اختلف الفقهاء وتباينت اتجاهاتهم بشأن طبيعة القواعد الدستورية ويمكننا تلخيص آرائهم في هذا الصدد بالحديث عن الاتجاهات الأربعة التي اتخذها أساسا لتحديد طبيعة قواعد الدستور , وعلى النحو الآتي :
الاتجاه الأول : القواعد الدستورية ذات طبيعة قانونية
ذهب جانب من الفقه إلى أن القواعد الدستورية , هي قواعد ذات طبيعة قانونية وهي لا تختلف من حيث الطبيعة عن غيرها من القواعد التي تحكم الأنشطة المختلفة في الدول 0
واستند هذا الاتجاه إلى فكرة سمو الدستور ذلك أن قانونية الدستور مرتبطة ارتباطا وثيقا بفكرة سمو وعلوية الدستور
وعلية فأن الدستورية تتوج الهرم القانوني بحيث أن الدستور يعلو على جميع القواعد القانونية في الدولة كما أن هذه القواعد تستمد قوتها الملزمة من الدستور
وبناء علية فأن جميع القواعد القانونية في الدولة تكون معلقة على الدستور بحيث يكون الدستور مصدر صحتها وقانونيتها وبما أنه هو الذي يعطيها هذه الصفة القانونية فمنطقيا يتوجب أن يتمتع الدستور بنفس الصفة التي تتمتع بها هذه القواعد ( وهي الصفة القانونية )
فالدستور أذن هو مجموعة قواعد قانونية لا تختلف في طبيعتها عن القواعد الأخرى بل هو مصدر قانونية هذه القواعد
ومن هنا يجيء الربط ، بين سمو وعلوية الدستور ، طبيعته القانونية : فالدستور يعلو على جميع القواعد القانونية في الدولة وهو بالتالي مصدر قوتها إذ منه فقط ، تستمد صحتها أي قوتها الملزمة حين تكون موافقة له من حيث طريقة إقامتها و من حيث مضمونها 0
الاتجاه الثاني : القواعد الدستورية ذات طبيعة غير قانونية
أنكر جانب من الفقه الطبيعة القانونية على القواعد الدستورية وذلك لافتقار هذه القواعد لعنصر الجزاء
وقد أيد هذا الاتجاه أصحاب المدرسة الشكلية في القانون وعلى رأسهم الفقيه الإنكليزي(أوستين Austin)0
والجزاء بالنسبة لأصحاب هذه المدرسة يعتبر عنصر جوهري من عناصر القاعدة القانونية وهذا الجزاء يجب أن يكون محدداً ومنظماَ ويتمتع بطبيعة مادية وهناك سلطة عليا تستطيع أن تفرض هذا الجزاء وبالتالي لا يمكن اعتبار القواعد الدستورية قواعد قانونية بسبب افتقارها لعنصر الجزاء
وهم يصلون إلى لهذه النتيجة من خلال اعتقادهم في عدم إمكانية تطبيق أي جزاء على الجهة التي تخالف القواعد الدستورية ويرون أنه إذا كان عنصر الجزاء – وهو العنصر المهم في القاعدة القانونية والذي يميزها عن غيرها من قواعد السلوك الاجتماعي – يتمثل في احتمال تدخل القوه الجبرية عند الاقتضاء وما دامت الدولة التي تحتكر وحدها في المجتمعات الحديثة هذه القوة الجبرية فأن معنى ذلك أن يختلط القانون
بإرادتها وبالتالي فلن تكون قواعد ملزمة لها لأنة لا يمكن أن تكون هذه القواعد نافذة بحقها قسرا لعدم وجود سلطة أعلى موكل لها تنفيذ هذه القواعد بحقها أذا ما اقتضى الأمر وعلية فليس من المعقول أن تكون الدولة الخصم والحكم في الوقت ذاته
واتفاقا مع هذا المنحنى من التحليل تفقد القواعد الدستورية خاصيتها الملزمة للدولة وهو الأمر الذي يزيل الصفة القانونية
– غير أن اغلب الفقهاء يرفضون الرأي المتقدم الذي ينكر على القواعد الدستورية قانونيتها ويعتقدون بأن القواعد الدستورية تعتبر من قبيل القواعد القانونية
ونحن نتفق مع الغالبية العظمى من الفقهاء ( الغربيين والعرب ) والذين يعتبرون القواعد الدستورية من قبيل القواعد القانونية
ويمكن الدفاع عن قانونية القواعد الدستورية بالحجج التالية :
1- يلاحظ أن المدرسة الشكلية قد ربطت بين القاعدة القانونية والجزاء المادي الذي توقعه الدولة أو اعتبرت أن القاعدة التي لا تتضمن جزاء ماديا توقعه الدولة على المخالفين لا تعتبر من قبيل القانون في شيء
وقد فات على المدرسة الشكلية أن الجزاء الذي يجب أن يوقع عند مخالفة القاعدة القانونية لا يتخذ صورة واحدة بل تتعدد صوره ويرجع سبب هذا التعدد إلى اختلاف القواعد القانونية الفرع الذي تنتمي إليه من فروع القانون إذ يتلائم الجزاء مع مضمون ومستوى القاعدة القانونية وكذلك طبيعة المصالح التي تتكلف القاعدة القانونية بحمايتها
فالجزاء في القانون الجنائي يدور حول الحكم بالغرامة أو مس الحرية فيقيدها ( الحبس ) أو يمس الحياة ( الإعدام ) وذلك طبقا لجسامة الجرم المرتكب والجزء في القانون المدني يختلف تماما عن الجزاء في القانون الجنائي فقد يكون الجزاء عبارة عن بطلان التصرف الذي تم مخالفا للقانون أو التعويض المالي
في ضوء ذلك فالجزاء في القواعد الدستورية يختلف بطبعته عن الجزاء في غيرة من فروع القانون الأخرى
2- تتضمن القواعد الدستورية جزاء يضمن لها احترام الدولة وسلطتها العامة
ويتخذ الجزاء في القاعدة الدستورية صورتين :الجزاء المنظم والجزاء غير المنظم
– ويتمثل الجزاء المنظم في إيجاد نوع من الرقابة المتبادلة من السلطات العامة بحيث أذا خرجت أحداها على مقتضى ما يقرره الدستور من إحكام كان للسلطتين الاخريتين أن ترداها إلى جادة الصواب وألزمتها باحترام القواعد الدستورية فالسلطة التنفيذية تستطيع اللجوء إلى حل البرلمان حلاً رئاسيا أو وزاريا في حالة مخالفة للدستور كما أن البرلمان يستطيع هو الآخر أن يسحب الثقة من الحكومة وفي اتهام أعضاءها ومحاكمتهم أما السلطة القضائية فأنها تستطيع حماية قواعد الدستور من الانتهاك عن طريق مراقبة مدى تطابق القوانين التي تسنها السلطة التشريعية مع الدستور والتي تؤدي إلى إلغاء القانون المخالف للدستور أو الامتناع عن تطبيقه فهذه العملية تعتبر أيضاً جزاء يفرضه القضاء على المشرع في حالة مخافة القواعد الدستورية
– إما الجزاء غير المنظم فيتخذ شكل رد الفعل الاجتماعي الذي يحدث مخالفة قاعدة دستورية
ومن هذا المنطلق يمكن أن نتصور وجود جزاء على من يخالف القاعدة الدستورية غير أن هذا الجزاء غير محدد وغير منظم ويصطلح على تسميته (الجزاء المرسل ) ويأخذ إشكال مختلفة ومن هذهلاالإشكال: استياء الرأي العام والاحتجاج ، والعصيان المدني والانتفاضة وقد يتطور هذا الجزاء ويصل
إلى حد الثورة والإجهاز على النظام القائم وهكذا يجد الجزاء مكانه في قوة الرأي العام ورقابته
لحكامه ، واستعداده للذود عن دستوره ودرء أي اعتداء يقع علية مستخدما مختلف الوسائل التي لا تخلو من عامل القهر والإجبار ويلاحظ من استقراء التجارب الدستورية أن حماية الدستور تتوقف وعلي الشعب وصدق إخلاص الإفراد حكاما ومحكومين ، كما تتوقف على درجة حرصهم على الدستور ووفائهم له وهذا لا يتحقق إلا أذا جاء الدستور من وحي حياة الشعب وتاريخه وأهدافه ومعبر عن آماله و أمانيه
الاتجاه الثالث : القواعد الدستورية ذات طبيعة سياسية
أبرز جانب من الفقه أن القواعد الدستورية هي قواعد ذات طبيعة سياسية وأن هذه الطبيعة تكمن في أن القواعد الدستورية تبين الطريقة التي تمارس بها السياسة في الدولة إلا أن القواعد الدستورية لا يمكن أن تبين طريقة ممارسة السلطة دون أن تحدد أو تكرس القابضين على هذه السلطة
و تنظيم القواعد الدستورية إشكال ممارسة السلطة السياسية وفق نظامين :نظام تركيز السلطة و نظام توزيع السلطة
فبالنسبة إلى نظام تركيز السلطة : فأن الطبيعة السياسية للدستور بوضوح أكثر ففي هذا النظام سيبقى الدستور متمتعا بميزته الأولى كوسيلة لتكريس سلطة فرد أو فئة أو حزب أو طبقة
وعلية فأن الدستور في ظل هذا النظام سيبين طريقة تركيز السلطة بيد فرد بحيث يعود له وحدة أمر ممارستها كما أن السلطة يمكن أن تتركز بيد جماعة قليلة من الإفراد ( لجنة ) كما يمكن أن تتركز بيد جماعات كبيرة من الإفراد تشكل مجلسا أو جمعية ومن ثم فأن الدستور يعد وسيلة لتكريس القوه المهيمنة في الدولة أو بعبارة أخرى وسيلة يتحدد بمقتضاها القابض على السلطة في الدولة
أما بالنسبة لنظام توزيع السلطة : فأن الطبيعة السياسية للدستور تتضح من خلال آلية ممارسة السلطة وفي هذا النظام نجد أن الهيئات الحاكمة تتعدد وتوزع السلطة بينها
فهناك أذن أسهام مشترك بين هذه الهيئات الحاكمة في ممارسة السلطة في الدولة
وعليه فأن الدستور – في نظام توزيع السلطة – هو وسيلة توازن سياسي فالسلطة لا تعود إلى قابض واحد بل هناك ، إسهام مشترك في القبض عليها وفي ممارستها
ومن ثم فأن القواعد الدستورية هي قواعد توازن سياسي أي أنها قواعد سياسية تنظم العلاقة بين القابضين على السلطة
وهذه الحقيقة أدركها الأستاذ ( جورج سلGeorges Seelle ) حين قال (( أن القواعد الدستورية هي بالأحرى قواعد توازن سياسي أكثر من كونها أساساً للمشروعية …)) وهذا يعني أن الدستور تبرز أهميته في نظام توزيع السلطة كوسيلة توازن سياسي يبين مدى أسهام الحكام في ممارسة السلطة
الاتجاه الرابع : القواعد الدستورية ذات طبيعة قانونية وسياسية:
يرى جانب من الفقه أن القواعد الدستورية تحمل طبيعة مزدوجة فهي قواعد ذات طبيعة قانونية وسياسية ذلك أن الدستور هو الوثيقة القانونية والسياسية الأسمى في الدولة ، أو الإطار العام الذي يحدد نظام الدولة وينظم عمل السلطات فيها ويكفل حقوق الأفراد والجماعات ويجسد تطلعات الشعب و لهذا فأن أي تغيير أو تبديل يطرأ على البنية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية للدولة يستتبع حتماً تبديل دستورها أو تعديله بما يتلائم مع الأوضاع أو الظروف الطارئة أو المستجدة ولأن الدستور هو القانون الأعلى للدولة فأن جميع التشريعات التي تصدر في الدولة يجب أن تخضع لأحكامه
والناحية المهمة التي تسترعي إنتباهنا هي أن الدستور ليس فقط مجموعة من القواعد القانونية المدونة في وثيقة مكتوبة تتعلق بنظام الحكم في الدولة وإنما هو عملية صياغة قانونية للفكرة سياسية استطاعت في صراعها مع الأفكار الأخرى أن تؤكد إنتصارها بوصولها إلى السلطة وفرض فلسفتها واتجاهاتها كقواعد قانونية ملزمة
ومن هنا فأن الدستور حين يبني النظام القانوني لسلطة الدولة يؤكد كذلك سيطرة القوة السياسية الصاعدة كما يرسي الأسس اللازمة لكفالة عنصر الشرعية لهذه القوة وفي ضوء ذلك يمكننا القول بفكرة الحياد السياسي للدستور والمقصود بها أن الدستور يقوم بدور في تنظيم الحكم ، أياً يكن النظام السياسي القائم سواء كان ديمقراطياً أم غير ديمقراطي فكلما صعدت إلى سلطة الدولة قوة سياسية جديدة حملت معها فلسفة سياسية جديدة و لا يكون الدستور في هذه الحالة إلا صياغة قانونية لها لكل ما تقتضي به في شأن نظام الحكم وسلطة الدولة وحقوق الأفراد وحرياتهم العامة
ولهذا قيل أن الدستور هو الوثيقة القانونية الأسمى التي توضع في لحظة تاريخية معينة لتحدد طبيعة النظام السياسي و هوية المجتمع والدولة وتعكس ميزان القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في تلك اللحظة
الفصل الثاني
إقـــــامة الدســتور
تمثل وثيقة الدستور المصدر الرئيسي للقواعد الدستورية في الدولة التي تتبنى نظام الدستوري المكتوب بما تتضمنه من مبادئ وأحكام أساسية تتعلق بتنظيم السلطات العامة في الدولة وتحديد اختصاصاتها ، وبحقوق وحريات الأفراد وبيان الاتجاهات السياسية والاجتماعية و الاقتصادية لنظام الحكم
و التساؤل الذي يرد في هذا المقام هو : من هي السلطة التي تتولى وظيفة إعداد ووضع وثيقة الدستور؟ وما الأسلوب الذي يتبع في ظل تلك الوثيقة ؟
وتم ذلك بمبحثين
المبحث الأول / السلطات المختصة بإقامة الدستور
المبحث الثاني / أساليب نشأة الدستور
المبحث الأول
السلطة المختصة بإقامة الدستور
أن مسألة إقامة الدستور تقودنا حتما إلى دراسة السلطة التي تقيم الدستور 0 وعلى ذلك نتناول في محاور ثلاثة ، طبيعة سلطة إقامة الدستور وبيان مدى حريتها والحالات التي تتدخل فيها لوضع وثيقة الدستور
أولاً :- طبيعة سلطة إقامة الدستور ( السلطة المؤسسة )
أن السلطة التي تخلق أو تقيم الدستور هي السلطة المؤسسة أو بتعبير أخر السلطة التأسيسية الأصلية بما أن الدستور يخلق أو ينشئ بدورة جميع السلطات في الدولة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) ويترتب على هذا أن السلطة المؤسسة (السلطة التأسيسية الأصلية) أعلى من هذه السلطات التي أنشئها الدستور والسلطة المؤسسة (السلطة التأسيسية الأصلية) ليست فقط أعلى من هذه السلطات بل أنها متميزة منطقا وواقعا عنها وهذا يعني أن السلطة المؤسسة تتمتع بوجود مستقل عن باقي السلطات في الدولة فهي التي أسست هذه السلطات
وذلك لإقامتها وثيقة الدستور ولذلك يطلق على السلطات في الدولة اسم ( السلطات المؤسسة ) أو ( السلطات المنشأة) تميز لها عن (السلطة المؤسسة ) أو ( السلطة التأسيسية الأصلية ) فهناك أذن سلطة مؤسسة متميزة وأعلى من السلطات المؤسسة
فالسلطة المؤسسة هي سلطة تعلو على السلطات المنشأة
ولكن السلطة المؤسسة وأن تميزت بالاعلوية فهي لا توجد لوحدها ولذاتها وإنما تعود لأحد ما يقبض عليها ومن ثم يمارسها
وبما أننا بصدد السلطة العليا في الدولة فلمن تعود هذه السلطة ,ومن يقبض عليها ؟ ومن يمارسها ؟
أن صاحب السلطة العليا (السلطة المؤسسة) لا يمكن أن يكون غير الشعب فالشعب هو مصدر جميع السلطات في الدولة
والسلطة المؤسسة تعود إلى مصدر جميع السلطات وهو الشعب فالشعب أذن صاحب السلطة المؤسسة لأن جميع السلطات في الدولة تنبثق عنه وهو الذي يمارس السلطة المؤسسة حين يؤسس السلطات في الدولة أي حين يقيم دستورها
وفي ضوء ما تقدم فأن السلطات التي أوجدها الدستور تتأتى جميعا بدون تميز من الإرادة العامة كلها تتأتي من الشعب إلا أن الشعب لا يستطيع من الناحية العملية أن يمارس مباشراَ سلطته المؤسسة إذ من المتعذر أن يجتمع لهذه الغاية ولذلك فأن ممثلين عنهم سيمارسون هذه السلطة المؤسسة فالشعب صاحب مصر سلطات يستطيع أن يفوض ممارسة هذه السلطات لممثلين عنه يمارسونها باسمه ولحسابه وفي الحدود التي يعينها
والشعب عندما يقيم دستوره ينظم ممارسة السلطة في الدولة من قبل هيئات متعددة ( تشريعه و تنفيذية وقضائية) وهذه الهيئات التي تمارس السلطة في الدولة( سلطة الشعب ) تمارسها نيابة عن الشعب ولحساب الشعب فبإقامة الدستور قد تخلى الشعب عن الممارسة المباشرة للسلطة وتبنى الممارسة غير المباشرة (الممارسة التمثيلية)
ثانياً :- مدى حرية السلطة المؤسسة ( السلطة التأسيسية الأصلية ) في وضع الدستور
أذا كانت السلطة المؤسسة تقوم بوضع وثيقة الدستور على النحو السابق فأن التساؤل يثار على مدى حريتها في وضعها أي مدى ما يكون لها من سلطات في هذا الخصوص0
– يجيب الفقيه الدسوري على ذلك بأن السلطة المؤسسة تكون حرة في عملها بحيث أنها لا تخضع لأية
قاعدة أو مجموعة قواعد تحدد نشاطها الخلاق ( أقامة الدستور ) فهي سلطة لا تخضع في ممارستها
لأي قاعدة سابقة الوجود على هذه الممارسة
فهي لا تنظمها نصوص خاصة ولا تتلقى اختصاصاتها من نصوص موجودة إذ تتدخل في الوقت قد لا يكون بالدولة نصوص دستورية قائمة وتقوم هي في هذه الحالة بوضع وثيقة الدستور ويترتب على ذلك أن للسلطة المؤسسة الحق في أن تهجر النظام الملكي في الحكم إلى النظام الجمهوري ، وهي تستطيع أن تعدل النظام الديمقراطي النيابي إلى النظام الديمقراطي شبه المباشر ، وتستطيع أم تستبدل النظام البرلماني بالنظام الرئاسي ، وهي تستطيع أن تأخذ بالفلسفة السياسية التي تروق لها
وصفوة القول أن السلطة المؤسسة ( السلطة التأسيسية الأصلية) وهي تضع الدستور تتمتع بسلطات واسعة فهي حرة – إلى حد ما – في اعتناق ما تراه مناسبات وملائما لظروف الدولة
ثالثاً : حالات تدخل السلطة المؤسسة :
إذا كان كانت السلطة المؤسسة هي التي يناط بها أمر إعداد ووضع وثيقة الدستور فمتى تتدخل هذه السلطة وبمعنى آخر متى يثار آمر وضع وثيقة الدستور؟
تظهر الحاجة إلى السلطة المؤسسة ( السلطة التأسيسية الأصلية ) في عدة حالات :
تتمثل الحالة الأولى : عند نشأت دولة جديدة فتقوم هذه السلطة بوضع أول وثيقة دستورية للدولة وتتجسد الحالة الثانية : عند استقلال الدولة وهذا ما حدث بعد موجة الاستقلال في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية إذ حاولت الدول التي نالت استقلالها أن تضع دساتير تنظم بها حياتها الجديدة
وتبرز الحالة الثالثة : عندما يبادر النظام السياسي القائم ذاته في إصدار دستور جديد يحل محل الدستور القائم وينسجم مع المتغيرات التي طرأت في الدولة
أما الحالة الرابعة : فتحدث عند حصول تغيير في النظام السياسي في دولة من الدول وينتج عن هذا التغيير إسقاط الدستور القائم فتظهر الحاجة إلى وضع دستور جديد يعبر عن اتجاهات نظام الحكم الجديد عن طريق سلطة تأسيسية أصلية لا تستند إلى الدستور القديم
المبحث الثاني
أساليب نشأة الدستور
تختلف أساليب نشأة الدستور حسب المفهوم السائد عن صاحب السلطة المؤسسة ( السلطة التأسيسية الأصلية) الذي يملك وضع وإقامة الدستور ، اهو الحاكم و أم الحاكم و الشعب أم الشعب وحده .
وقد درج الفقه الدستوري على تفسير أساليب نشأة الدستور : من حيث مدى اعتناقها للمبادئ الديمقراطية – إسلوبين أولهما : الأسلوب غير الديمقراطي والآخر الأسلوب الديمقراطي
ولدراسة كل من هذين الأسلوبين سوف تقسم هذا المبحث إلى محورين
– المحور الأول : الأسلوب غير الديمقراطي في نشأة الدستور
– المحور الثاني : الأسلوب الديمقراطي في نشأة الدستور
المحور الأول
الأسلوب غير الديمقراطي في نشأة الدستور
أن الأسلوب الغير الديمقراطي في نشأة الدستور هو الأسلوب الذي تسود فيه إرادة الحاكم على إرادة الشعب أو تشترك الإرادتان في وضع الدستور
وتوضيحاً لذلك فأن الدستور قد يصدر بإرادة الحاكم المنفرد، وقد يتم وضعه باتفاق إرادة الحاكم مع إرادة الشعب عن طريق العقد
أولاً : المنحة :
يعني إسلوب المنحة تصرف الحاكم وحده كسلطة تأسيسية أصلية تضع الدستور وتنشا السلطات الأخرى في وقت تكون الدولة خالية من النصوص الدستورية التي تحدد أسس الحكم وذلك أي كانت التسمية التي تطلق على الحاكم ( ملك ، أمير ، سلطان ، ….الخ)
ولذلك يصف بعض الفقه هذه الطريقة بأنها (( غير ديمقراطية )) حيث أنها لا تعترف مطلقاً بالشعب أو بأنها الطريقة (( المونوقراطية )) لإقامة الدستور حيث أن السلطة تعود لفرد واحد
والتساؤل الذب يطرح في هذا المجال عن كيفية وضع الدستور عن طريق المنحة ؟
أن نشأة الدستور- بمقتضى هذه الطريقة – تتمثل في : أن الحاكم – صاحب السلطان أو السيادة – يعد الدستور ويستقل بوضع أحكامه ويصدره بعد ذلك بإرادته المنفردة ويقدمه إلى الشعب كمنحة أو هبة منه أو كإيذان منه بانتقال سلطته من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري
فالمنحة كطريقة لوضع الدستور تعني إذا أن ينفرد الحاكم في وضع الدستور و إصداره دون مشاركة من الشعب بحيث يتنازل الحاكم- بوصفه صاحب السيادة – عن بعض سلطته للشعب في صورة عهد أو ميثاق أو وثيقة دستورية
ويمكن أن يقال من الناحية النظرية أن الحاكم الذي يمارس السيادة المطلقة يوافق عند منح وثيقة الدستور على التضحية بجزء من تلك السيادة أو يوافق على الأقل على تنظيم ممارسة لتلك السيادة ولكن الواقع يخالف ذلك لأن المنحة ليست في الحقيقة سوى طريقة ينقذ بها الحاكم كبريائه ويغطي مبدأ سيادته غير المقيدة
حيث أن الواقع العملي يشير إلى أن منح الدستور من ناحية الحاكم تأتي نتيجة ضغط الشعب على إرادته ( أي إرادة الحاكم ) فاضطره إلى إصدار الدستور تفاديا لما قد ينتج رفض ذلك من ثورة تذهب بعرشه أدراج الرياح
فمن النادر أن نجد أمثلة تاريخية لحاكم تنازل بمحض إرادته و اختياره عن جزء من سلطاته ويكاد أن يكون الدستور البافاري الصادر عام 1818 هو المثال الوحيد لدستور صدر بطريقة المنحة الخالصة من قبل الملك للشعب
إلا أنه في اغلب الحالات يحس الحاكم بأن الشعب لم يعد مستعدا للخضوع لنظام حكم مطلق بصفة دائمة إزاء ذلك وحفظا لكرامته وضماناً لاستمراره في كرسي السلطة يصدر الحاكم المطلق دستوراً يتنازل بموجبه عن بعض سلطاته للشعب
ويتضح لنا من ذلك أن الدستور في صورة منحة يعتبر كذلك من الناحية الشكلية أو الرسمية فقط أما من الناحية السياسية والواقعية فأنه يعبر عن إدراك الحاكم لتغير الظروف المحيطة به واستجابة اضطرارية منه لمتغيرات التي حدثت
وقد نتج عن هذا التكييف القانوني لكيفية صدور الدستور عن طريق المنحة نقاش فقهي حول مدى أحقية الحاكم في سحب أو إلغاء الدستور الصادر وفق هذا الأسلوب
أنقسم الفقه في شأن الإجابة على هذا التساؤل إلى اتجاهين متمايزين :
فذهب الاتجاه الأول – ويمثل بعض الفقه الدستوري إلى أن صدور الدستور في شكل منحة أو هبة بالإرادة المنفردة للحاكم يعطيه كامل الحق في إلغاء الدستور أو سحبه لأن من يملك المنح يملك المنع ، وبتعبير آخر أن يملك المنح يملك الاسترداد ولا يحرم الحاكم من هذا الحق إلا إذا كان قد تنازل عنه في نصوص الدستور ويساند هذا الاتجاه أمثلة تاريخية حدثت بالفعل فقد قرر ملك فرنسا ( شارل العاشر) في عام 1830 إلغاء دستور عام 1814 والذي كان قد صدر في شكل منحة متعللا أن الشعب الفرنسي قد اظهر جحود للمنحة ونكران للجميل
وفي مصر قام الملك فؤاد عام 1930 بإلغاء دستور عام 1923 واصدر بدلا منه دستور جديد يعطيه سلطات أقوى مما كانت له في الدستور السابق وذلك بحجة التوفيق بين النظم الأساسية وبين أحوال البلاد وحاجاتها
وذهب الاتجاه الثاني – ويمثل رأي غالبية الفقه الدستوري – إلى أن الدستور وقد منح من جانب الحاكم فأن الحاكم لم يعط للشعب حقا جديدا تفضل عليه ولكنه أعاد إليه سلطته الأصلية التي كانت مغتصبة في ظل حكمه المطلق ، وحجتهم في ذلك
أ- أن الدستور ولو كان قد صدر في شكل منحة ، إلا أنه في حقيقة الأمر ليس وليد إرادة حرة للحاكم بل كان وليد الضغوط السياسية و الشعبية القوية التي أحس الحاكم بأسها من جانب الشعب ومن ثم فأن الصحيح أن يقال أن إرادة الشعب قد شاركت بدورها في إصدار الدستور ، فلا يجوز للحاكم أن ينفرد من جانبه بإلغائه
ب- أن المنحة تعد بمثابة التزام بالإرادة المنفردة من جانب الحاكم ، ومن المقرر قانونياً في هذا الصدد أن الالتزام إذا صدر بالإرادة المنفردة يكون منتجا لكافة آثاره القانونية ومن ثم فأن الرجوع عنه باطل قانوناً فيمتنع على الحاكم إلغاء الدستور بعد أن صادف إصداره بالإرادة المنفردة قبولا من جانب الشعب والذي تتعلق به حق له
ومن أمثلة الدساتير التي صدرت في شكل منحة : الدستور الفرنسي لعام 1814 والدستور الايطالي لعام 1848 و الدستور الياباني لعام 1889 و الدستور الروسي لعام 1906 و دستور إمارة موناكو لعام 1911 و الدستور المصري لعام 1923 والدستور اليوغسلافي لعام 1931 وكذلك دستور إثيوبيا لعام 1931 ولعام 1955
وجدير بالذكر أن جميع الدساتير التي صدرت بموجب طريقة ( المنحة ) قد أندثر باستثناء أمثلة نادرة منها دستور إمارة موناكو الذي اصدر في العام 1962 بدلا من دستورها عام 1911 0
أما دستور إثيوبيا لعام 1955 فقط سقط بنتيجة الانقلاب العسكري الذي وقع فيها عام 1974
ثانياً : العقـــد
ينشا الدستور في شكل عقد حينما تكون السلطة التأسيسية الأصلية ، شركة بين الحاكم و الشعب : فكل منهما يشترك في وضع الدستور
وعلى هذا النحو ، لا تنفرد إرادة الشعب وحدها بوضع الدستور وإنما يكون الدستور – تبعا لطريقة العقد – قد تم وضعه عن طريق اشتراك إرادتين : إرادة الحاكم و إرادة الشعب فهو ثمرة عمل مشترك بين الحاكم و الشعب
والتساؤل الذي يرد في هذا الصدد : عن كيفية وضع وإصدار الدستور عن طريق العقد ؟
يصدر الدستور طبقا لهذه الطريقة من خلال مشاركة الشعب بشكل غير مباشر حيث ينتخب الشعب هيئة تنوب عنه في المساهمة في إعداد ووضع مشروع الدستور ، ويطلق على هذه الهيئة مسميات مختلفة فقد تسمى الجمعية التأسيسية أو المجلس التأسيسي فإذا انتهت هذه الهيئة من إعداد مشروع الدستور تعرضه إلى الحاكم فيوافق عليه ويوقعه ويصدره و عندئذ يصبح نافذا
و إسلوب العقد يفترض من الناحية النظرية مساهمة طرفي العقد – الشعب والحاكم – بنصيب متساوٍٍ في وضع الدستور ولكن للظروف العملية أحكامها التي قد تهدم هذه المساواة
ولعل ذلك هو الذي حدا بالبعض إلى انتقاد إطلاق صفة العقد على الدساتير الصادرة بهذا الأسلوب لأنها لم تصدر نتيجة توافق و رضا حقيقي لإرادتين وإنما نتيجة لضغوط و ثورات شعبية قام ممثلوا الشعب على أثرها بوضع الدستور وبذلك يكون اشتراك الحاكم في التعاقد صوريا
وتعتبر طريقة العقد نسبيا مرحلة أكثر تقدمية من المرحلة السابقة ( المنحة ) لأنها تجعل الشعب طرفا في العقد وتضفي على الدستور صبغة تعاقدية تحول دون إلغاءه أو تعديله بناءا على مشيئة طرف واحد
ومن أشهر المواثيق التي صدرت بهذا الأسلوب :
(أ) وثيقة العهد الأعظم Magna Carta التي عقدت في العام 1215 بين الملك الإنكليزي وبين ممثلي الشعب ورجال الدين و الأشراف ، وكذلك الوثائق التي تلتها مثل ملتمس الحقوق Petition Rights للعام 1628 و وثيقة الحقوق Bill of Rights عام 1689
وتعتبر هذه الوثائق جزءا هاما من الدستور الإنكليزي الذي يقوم في معظم أجزائه على القواعد العرفية
(ب) الدستور الفرنسي الصادر عام 1830 ويعتبر هذا الدستور خير مثال على الوثائق الدستورية التي
وضعت عن طريق التعاقد بين الحاكم و الشعب حيث اجتمع المجلس النيابي بعد تنازل ( شارل
العاشر ) عن العرش و وضع دستورا جديدا ، ودعي ( دوق أورليان ، لويس فيليب ) لتولي العرش
على أساس الالتزام بأحكام الدستور الجديد ، ولقد ظهرت الصيغة التعاقدية بالنسبة لوضع هذا
الدستور حتى في مراسيم التتويج فلما حضر دوق أورليان يوم 14 أغسطس عام 1830 إلى قاعة
الاجتماع لم يأخذ مكانه على العرش مباشرة وإنما جلس في معقد مجاور له وثم تلي عليه الدستور
الجديد فوافق عليه واقسم اليمين على احترامه ثم اعتلى العرش من بعد ذلك ملكا على فرنسا
ومن الأمثلة الأخرى للدساتير التي صدرت بصيغة التعاقد الدستور اليوناني لعام 1844 والدستور
البلغاري لعام 1879
(ج) ومن أمثلة الوثائق الدستورية التي وضعت بهذه الطريقة خلال القرن العشرين الدستور الأردني لعام
1952 و الدستور البحريني لعام 1973 والدستور السوداني لعام 1973 الذي وضع عن طريق
التعاقد بين رئيس الجمهورية و مجلس الشعب
المحور الثاني
الأسلوب الديمقراطي في نشأة الدستور
يقر الأسلوب الديمقراطي للشعب بسلطة وضع الدستور باعتباره صاحب السيادة و مصدر جميع السلطات و الدساتير التي توضع تبعا للأسلوب الديمقراطي إما تكون عن طريق الجمعية التأسيسية و إما أن تكون عن طريق الاستفتاء الدستوري
أولاً : الجمعية التأسيسية
يعتبر هذا الأسلوب تطبيقا للديمقراطية النيابية حيث يقوم الشعب بانتخاب ممثلين يكونون هيئة نيابية ( تسمى الجمعية التأسيسية أو المجلس التأسيسي ) ذات وكالة محدودة تضطلع بالسلطة التأسيسية الأصلية و تتولى مهمة وضع و إقرار دستور الدولة باسمه ونيابة عنه بحيث يعد الدستور الذي يصدر عنها و كأنه صادر عن الشعب بأسره
و على ذلك فأن الشعب لا يتدخل في وضع الدستور وإنما تنفرد الجمعية التأسيسية و حدها و التي قام الشعب بانتخاب أعضائها في وضع وإعداد مشروع الدستور وبعد ذلك تتولى الجمعية التأسيسية ذاتها إقرار الدستور بصيغته النهائية و بمجرد إقرار الجمعية التأسيسية لوثيقة الدستور في صيغتها النهائية تصبح ذات قوة قانونية واجبة النفاذ على إقرار من جانب الشعب
وتتخذ الجمعية التأسيسية إحدى الصورتين
الصورة الأولى : جمعية تأسيسية مخصصة :
و معنى ذلك أن يقتصر اختصاص الجمعية التأسيسية على أنشاء الدستور دون غيره فلا يكون لها أي اختصاص آخر سوى هذا الأمر فلا يمكن لها أن تقوم بالوظيفة التشريعية العادية أو بأية وظيفة أخرى لذلك أطلق على صورة هذه الجمعية – تبعا لمدى اختصاصها – الجمعية المتخصصة لأنها تختص فقط بإنشاء ووضع و إقرار الدستور
إذا كنت الجمعية التأسيسية يتم انتخابها من الشعب خصيصا لوضع الدستور فأن عملها ينتهي بالانتهاء من صياغة الدستور ، وقد تحقق ذلك بالنسبة للجمعية النيابية التأسيسية التي تولت مهمة وضع و إقرار دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 حيث صدر هذا الدستور عن طريق جمعية نيابية اجتمعت في فلاديفيا في 17 سبتمبر عام 1787 وضمنت هذا الدستور مقدمة أوضحت فيها أن شعب الولايات المتحدة الأمريكية هو الذي اصدر هذا الدستور و قرره وأصبح هذا الدستور نافذا منذ الأول من يناير عام 1789 بعد موافقة أعضاء الجمعية النيابية
الصورة الثانية : جمعية تأسيسية عامة
ومعنى ذلك أن اختصاص الجمعية التأسيسية لا يقتصر فقط على وضع وإقرار الدستور بل يكون اعم من ذلك فإلى جانب الاختصاص في وضع و إقرار الدستور تقوم الجمعية بممارسة الاختصاص التشريعي أي بالوظيفة التشريعية المتمثلة في وضع القوانين العادية وقد تختص بالإضافة إلى ذلك بوظيفة تشكيل الوزارة أي اختيار الوزراء الذين يقومون بالوظيفة التنفيذية
لذلك أطلق على صورة هذه الجمعية – تبعا لمدى اختصاصها – الجمعية العامة لأنها علاوة على أنشاء الدستور تقوم بالوظيفة التشريعية واختيار من يمارس الوظيفة التنفيذية
وهو ما تحقق في فرنسا بالنسبة للجمعية النيابية التأسيسية التي انتخبت وتولت مهمة وضع و إقرار دستور عام 1791 حيث جمعت في قبضت يدها فضلاً عن اختصاص وضع الدستور الوظيفة التشريعية و التنفيذية وكذلك كان الشأن في الجمعية التأسيسية التي أنتخبت في فرنسا و التي تولت وضع و إقرار دستور عام 1848 0
وقد وجد أسلوب الجمعية التأسيسية تطبيقات في عدة الدساتير .
ومن أمثلة الدساتير التي صدرت وفق الجمعية التأسيسية :
الدستور النمساوي لعام 1920 والدستور الاسباني اعلم 1931 والدستور اليوغسلافي لعام 1946 و الدستور الياباني لعام 1947 و الدستور الايطالي لعام 1947 و الدستور الروماني لعام 1948 والدستور الهندي لعام 1949 والدستور السوري لعام 1950 والدستور الليبي لعام 1951
ثانيا : الاستفتاء الدستوري :
قد يمارس الشعب بنفسه السلطة التأسيسية الأصلية متبعا في ذلك إسلوب الاستفتاء الدستوري أو كما يسميه البعض الاستفتاء التأسيسي ( الاستفتاء المؤسس ) – كطريقة لوضع وثيقة الدستور
وتبعا لطريقة الاستفتاء الدستوري يتم وضع مشروع الدستور عن طريق هيئة منتخبة أو لجنة حكومية تقوم بمجرد تحضيره وإعداده ثم يعرض هذا المشروع على الشعب لاستفتائه ويأخذ الدستور قوته الملزمة بعد موافقة الشعب عليه وإقراره في الاستفتاء فإذا تم ذلك صار الدستور نافذا
وتتجسد طريقة الاستفتاء الدستوري في مرحلتين وعلى النحو التالي :
المرحلة الأولى : وتتمثل في إعداد ووضع مشروع الدستور
ويوضع مشروع مسودة الدستور الذي يعرض على الاستفتاء الشعبي بإحدى الطريقتين هما : طريق الجمعية المنتخبة و طريقة اللجنة الحكومية
– الطريقة الأولى ، يوضع مشروع وثيقة الدستور الذي يعرض للاستفتاء الدستوري بواسطة هيئة نيابية (أياً كانت تسميتها جمعية نيابية أو جمعية تأسيسية ) ولقد شهد التأريخ الدستوري الفرنسي وضع الدساتير والتي قامت بإعداد مشاريعها جمعيات منتخبة من جانبا لشعب لهذا الغرض وتم عرضها على الشعب بعد ذلك في استفتاء عام مثل دستور عام 1793 و دستور عام 1795 و دستور عام 1946 إما الدستور المصري الصادر عام 1971 فقد قامت بوضعه لجأن برلمانية منبثقة من مجلس الشعب ثم طرح للاستفتاء الشعبي عليه حيث حصل على موافقة أغلبية الشعب في سبتمبر عام 1971
– الطريقة الثانية : فمؤداها أن تتولى الحكومة وضع مشروع وثيقة الدستور عن طريق لجنة تشكلها لهذا الغرض و تزودها بالتوجيهات التي تراها مناسبة وهذه الطريقة لا تسمح للشعب – عن طريق
ممثليه – بالمشاركة في إعداد مشروع الدستور وتضمينه ما يشاء من أحكام ويقتصر دوره في النهاية على مجرد الموافقة أو الرفض بالنسبة لمشروع الدستور المعروض ككل لا مجال لمناقشة محتوياته ومن أمثلة الدساتير التي صدرت وفقا لهذه الطريقة الدستور المصري عام 1956 وأيضاً الدستور الفرنسي لعام 1958 فكلاهما صدر بطريق الاستفتاء الدستوري وكان مشروعيهما من إعداد لجأن حكومية
ونتساءل عن الطريقة الأوفق في وضع الدستور
يفضل جانب من الفقه أن يكون إعداد مشروع الدستور من عمل جمعية منتخبة لا من عمل لجنة فنية حكومية ولعل السبب يعود إلى بعض التجارب التاريخية المريرة التي عهد فيها إلى لجأن فنية بتحضير مشاريع الدساتير فانحرفت عن أهدافها واكتفت بتقنين رغبت الحكام في الاستئثار بالسلطة
و يمكن تفسير الحذر من عمل اللجان الحكومية بكثرة استخدام هذا الأسلوب في فترات عدم الاستقرار (عقب الثورات و الانقلابات و عشية الحروب ) فنرى السلطة الحاكمة تسرع إلى عرض مشروع الدستور على الشعب ليبدي رأيه فيه مستغلة حماسته للعهد الجديد أو كراهيته للنظام السابق
ونحن من جانبنا نفضل أن تقوم جمعية منتخبة من الشعب بمهمة وضع الدستور على أن يكون لها الاستعانة بمن تشاء من أصحاب الخبرة و المتخصصين في المجال الدستوري ، إلا أن الاستفتاء يبقى بحد ذاته في الطريقتين أسلوباً ديمقراطياً في إقرار الدستور
المرحلة الثانية : فتتمثل في عرض مشروع الدستور على الشعب في استفتاء عام
سواء قام بوضع مشروع وثيقة الدستور جمعية نيابية تأسيسية أو لجنة حكومية فأنه يشترط لصدور الوثيقة الدستورية ونفاذها و جوب عرضها للاستفتاء الدستوري و موافقة الشعب عليها
وبالتالي فأن مشروع وثيقة الدستور الذي يوضع بإحدى الطريقتين السابقتين لا يتخذ قوته القانونية الإلزامية إلا بعد موافقة الشعب عليه عن طريق الاستفتاء الدستوري بحيث إذا لم يوافق الشعب عليه اعتبر كان لم يكن
وعلى هذا النحو ترتكز القوة القانونية للدستور إلى موافقة الشعب ذاته لا إلى جهة التي قامت بإعداده وصياغته حتى لو كانت الجمعية منتخبة ودليل ذلك ما حدث في فرنسا عند إعداد دستور عام 1946 إذ رفض الشعب في 5 مايو 1946 الموافقة على الدستور الذي أعدته الجمعية التي تم انتخابها لهذا الغرض وكان من نتيجة ذلك أن اعد مشروع جديد بواسطة جمعية أخرى و عرض على الشعب في أكتوبر عام 1946 وكل مواطن توافرت فيه شروط الناخب – كالجنسية و السن – يستطيع أن يبدي برأيه في مشروع الدستور
هذا ويلاحظ أن نظام الاستفتاء الدستوري من شأنه أن ينمي قدرات المواطنين و يرفع من مكانتهم السياسية ويشعرهم بأهمية الدور الذي يقومون به في تحديد نظامهم السياسي و بناء مؤسساتهم الدستورية ، ونظرا لأهمية طريقة الاستفتاء الدستوري في وضع الدستور فلا بد من توافر بعض الشروط وذلك لكي تكون النتيجة خير معبر عن الإرادة الشعبية ومن هذه الشروط
أ- أن يكون الشعب المستفتى قد وصل لدرجة مقبولة من النضج و الوعي السياسي
ب- أن يعلن مشروع الدستور على الشعب بواسطة أجهزة الإعلام المختلفة وأن يتم نشر مشروع الدستور بشكل متكامل دون أدنى حذف أو تغيير
ج- أن تترك مدة كافية و مناسبة للشعب للاطلاع على مشروع الدستور و مناقشة مواده وما تضمنه من أحكام لكي تسمح لأفراد الشعب بأن يكونوا على بينة و معرفة كاملة بحقيقة و جوهر المشروع المستفتى عليه ليتمكنوا من المفاضلة بين اتجاه وآخر
د- أن يتم الاستفتاء في جو من الحرية و النزاهة و الحيادية بحيث تستقل إرادة الشعب وحدها في التعبير عن الموافقة أو الرفض لمشروع الدستور
ومن أمثلة الدساتير التي وضعت بطريقة الاستفتاء الدستوري :
الدستور الفرنسي لعام 1958 و الدستور التركي لعام 1982 والدستور المصري لعام 1971 والدستور السوري لعام 1973 والدستور الجزائري لعام 1989 و الدستور اليماني لعام 1990 والدستور الموريتاني لعام 1991
المعاهدة الدولية كأحد أساليب نشأة الدستور
أضاف جانب من الفقه إلى أساليب نشأة الدستور – والتي اشرنا إليها – أسلوبا آخر : وضع الدستور بواسطة المعاهدات الدولية
ورأى الفقه أن قواعد القانون الدولي ساهمت في تكوين القواعد الدستورية من خلال إقامة عدد من الدساتير بموجب أحكام معاهدة بين عدد من الدول أو على اثر معاهدة بينها
وعلى سبيل المثال الدستور السويسري الصادر عام 1848 والذي يرجع أساسه إلى معاهدة عقدت بين عدد من المقاطعات اتحدت للدفاع عن مصالحها المشتركة ، وفي ألمانيا كان الدستور الصادر عام 1867 ( والنافذ حتى عام 1918) يجد أصول قواعده في المعاهدة المعقودة بين (39) دولة ألمانية عام 1815 وفي الوثيقة التي اقرها مندبوا هذه الدول عام 1820
ويسري هذا التأصيل على جميع الدساتير الفيدرالية والكونفدرالية حيث أن أحكامها تجد أصولها في معاهدات و مواثيق دولية
وقد ساهمت قواعد القانون الدولي في إقامة دستور النمسا الاتحادي عام 1920 ووضع الدستور اليوغسلافي عام 1946 وفي تكوين قواعد الدستور السوفيتي الصادر عام 1924 كما تأثرت دساتير دول أمريكا اللاتينية في تكوين قواعدها بالمعاهدات الدولية التي عقدت بين الدول المكونة لها ومن أمثلة ذلك الدستور الأرجنتيني لعام 1853 والدستور المكسيكي لعام 1850 والدستور البرازيلي لعام 1889 و كذلك دستور عام 1946
ومن أمثلة الدساتير العربية التي تأسست بمقتضى اتفاق دولي الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة لعام 1958 و الذي صدر بموجب اتفاق المعقود بين سوريا و مصر بعد إجراء استفتاء عام عليه
لقد امتد دور القانون الدولي في إقامة الدساتير الوطنية من خلال عهد العصبة و ميثاق الأمم المتحدة في ضوء نظامي الانتداب و الوصاية واستغلال ذلك في إقامة دساتير الدول التي وضعت تحت نظام الحماية أو الانتداب بما يحفظ مصالح الدول الكبرى القائمة على أمرها و من ذلك الدستور الأردني عام 1928 الذي وضع بناء على قرار دولي تمثل في صك الانتداب و كذلك إقامة الدستور الليبي الاتحادي الصادر عام 1956 تحت تأثير الأمم المتحدة و إقامة دستور الحبشة عام 1952 بمقتضى قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1950
ونجد الأصل ألاتفاقي : أيضاً في الدستور العراقي لعام 1925 إذ كان للمعاهدة المعقودة بين بريطانيا والعراق عام 1922 دورا رئيسيا و مباشرا في تكوين القواعد الأساسية التي حددت سمات الدستور العراقي وذلك بما وضعته هذه المعاهدة في مادتها الثالثة من التزامات فرضت على العراق تنفيذها من خلال صياغتها في قواعد دستورية فلقد جاء في هذه المادة ، أن يوافق فيصل الأول ملك العراق على وضع مشروع ((قانون أساسي))
لعرضه على المجلس التأسيسي العراقي كما يوافق على تنفيذ هذا الدستور بشرط أن لا يتضمن شيئا مناقضا لأحكام معاهدة 1922 واشترطت هذه المادة أيضاً أن يأخذ الدستور في الاعتبار حقوق جميع السكان في العراق و رغباتهم و مصالحهم وأن يضمن للجميع حرية الرأي و حرية القيام بمختلف الشعائر الدينية بشرط أن لايضر ذلك بالنظام و الآداب العامة كما اقتضت المادة المذكورة بأن لا يفرق الدستور بين سكان العراق و لا يقيم أي تميز بينهم بسبب اللغة أو الجنس أو الدين وبأن تحتفظ كل طائفة بمدارسها الخاصة في تعليم أفرادها بلغتها الخاصة على أن يكون ذلك متفقا ومقتضيات التعليم العامة التي تتطلبها الحكومة وأخيراً نصت هذه المادة على أن يعين الدستور الأصول الدستورية تشريعية كانت أو تنفيذية التي ستتبع في اتخاذ القرارات في جميع الشؤون المهمة بما فيها المرتبطة بالمسائل المالية والنقدية و العسكرية
وقد جسدت نصوص الدستور العراقي الصادر في (21) آذار 1925 مضمون هذه المادة تجسيدا كاملا ويتضح هذا بجلاء في النصوص الخاصة بالحقوق والحريات العامة وأخيراً يجدر التذكر أن دستور قبرص الصادر عام 1960 كان ثمرة معاهدة الضمان التي عقدت بين اليونان و تركيا و بريطانيا عام 1960وهو جزء منها
وهكذا قامت الطريقة على أساس نشأة الدستور نتيجة اتفاق أو معاهدة دولية معقودة بين دولتين أو أكثر و الأخذ بهذا الأسلوب يعني أن المعاهدة الدولية تكون واجبة النفاذ من تلقاء نفسها أي لا يتوقف هذا النفاذ على إقرارها من قبل السلطات المختصة داخل الدولة
غير أن هذا الاتجاه لم يلق تأييداً من جانب آخر من الفقه حيث لا يقر بالمعاهدة كأسلوب مستقل من أساليب نشأة الدستور ذلك لأن مضمون المعاهدة يرمي إلى تنظيم العلاقات بين الدول على عكس مضمون الدستور الذي يهدف إلى تنظيم سلطات الدولة و العلاقات بينها وبين الأفراد ومن ثم فأن الدستور يجب أن يكون صادرا عن سلطة تأسيسية داخل الدولة فإذا تم وضع الدستور عن طريق معاهدة دولية فأن إقرار هذه المعاهدة ونفاذها يعود إلى السلطة الحاكمة وهذا يعني أن صدوره يبقى من صلاحيات السلطة الداخلية
وصفوة القول أنه في الحالات التي يثبت فيها أن وثيقة الدستور قد نشأت نتيجة معاهدة دولية ينبغي – لكي يمكن تحديد الأسلوب الذي نشأت به – أن نبحث عن السلطة التي تملك داخل الدولة إقرار تلك المعاهدة وأن نعتبر وثيقة الدستور صادره عنها
أساليب نشأة الدستور ليست جامعة مانعة
لقد اشرنا إلى الأساليب العامة التقليدية في نشأة الدساتير وبينا تقسيمات الفقه الدستوري لتلك الأساليب ديمقراطية أو غير ديمقراطية
والتساؤل الذي يثار بهذا الشأن : هل أن أساليب نشأة الدساتير جامعة مانعة ؟
أن الأساليب التي ذكرناها ليست أساليب جامعة أو مانعة بمعنى أن هذه الأساليب قد تتنوع فيلحق بها طرق أخرى لا يمكن إدراجها ضمن الأساليب الأربعة التقليدية
ومن أمثلة ذلك الدستور المصري لعام 1953 والدستور العراقي لعام 1958 وكذلك الدستور العراقي لعام 1964 فهذه الدساتير لا يمكن اعتباراها منحة أو عقدا كما لا يمكن اعتبارها صادرة عن جمعية تأسيسية أو نتيجة استفتاء شعبي فهي في حقيقتها قد نشأت بأساليب أخرى مغايرة و مختلفة ومن ثم لا يمكن أن تنضوي تحت أي من التقسيمات التقليدية
الفصل الثالث
المحتوى و الرقابة على الدستور
المبحث الأول
محتوى الدستور
لئن نضرنا إلى الدستور بمفهومه الضيق ، أي اعتباره الوثيقة الدستورية المكتوبة وأردنا التعرف إلى محتواه فإننا نجده يختلف من دولة إلى أخرى
ولكن بالرغم من هذا الاختلاف بين دساتير دول العالم فهناك حقيقة واقعة تتمثل في إن الدساتير في أساس وجودها وفي الهدف الذي تسعى إليه ، تخضع لقواعد عامة مشتركة ، وعلى هذا الأساس يمكننا ان نتكلم عن محتوى الدستور وبنائه الداخلي انطلاقا من المعالم و السمات الرئيسية التي تشترك فيها اغلب الدساتير
ولو القينا نظرة على الأوضاع الدستورية في عدد من النظم الدستورية لوجدنا كلها تقريبا قد انتهجت في تبويب وثيقة الدستور احد إسلوبين
الأول : ويتجسد في صياغة وثيقة الدستور على نحو يُضمنها مقدمة وديباجة تتصدر أحكامها وتمهد لها كما تحتوي قواعد تجسد صلب ومتن الدستور
الثاني : ويتجسد في صياغة وثيقة الدستور بشكل لا يتضمن التمهيد لأحكامها حيث لا تحتوي وثيقة الدستور على مقدمة أو ديباجة و إنما يقتصر بناءها الداخلي على القواعد تمثل صلب ومتن الوثيقة الدستورية
وفي ضوء ما تقدم سنعرض لمحتوى وثيقة الدستور وذلك في محورين وعلى النحو التالي :
المحور الأول : مقدمة الدستور
المحور الثاني : صلب الدستور
المحور الأول
مقدمة الدستور
تحرص بعض الدساتير على أن تتضمن في مستهلها ديباجة او مقدمة
وتحتل المقدمة صدر الوثائق الدستورية وبدايتها قبل سرد موادها المختلفة ونتناول بالتحديد المبادئ الأساسية التي يحرص عليها المجتمع و الفلسفة التي تحدد صورة المذهب السياسي و الاجتماعي في الدولة وبصفة خاصة ما يحرص عليه الشعب من حقوق ويتمسك بها
وبتعبير آخر تتضمن المقدمة الإشارة إلى منابع الدستور و المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها والأهداف التي يسعى المجتمع لتحقيقها وترسم المقدمة – عادة – الخطوط الرئيسية التي يبتغيها واضع الدستور كمنهج لسياسة الدولة وإرادتها
وقد تضمنت الديباجة ( المقدمة ) قواعد تتعلق بحقوق الإنسان المدنية والسياسية و الاجتماعية و الاقتصادية والثقافية
ويلاحظ إن دستور فرنسا لعام 1791 مثلا يتصدر إعلان الحقوق الصادر عام 1789 كما ان دستور فرنسا لعام 1946 أكد في ديباجته التمسك بإعلان الحقوق الصادر عام 1789 بالإضافة لطرحه في هذه الديباجة ، مبادئ أخرى وقد أكد الدستور الفرنسي لعام 1958 في ديباجته تمسكه ( أو تمسك الشعب الفرنسي – على حد تعبيره ) بحقوق الإنسان كما حددها إعلان الحقوق لعام 1789 وكما أكدتها وأكملتها ديباجة دستور عام 1946
هذا ويختلف إسلوب صياغة المقدمة ( الديباجة ) فقد تصاغ و تنتظم على شكل فقرات عدة
ومن أمثلة ذلك الدستور العراقي لعام 1925 والدستور اللبناني لعام 1926
أو قد تصاغ على شكل سرد وشرح للأفكار وفقا لمنهج علمي وفلسفي
ومن أمثلة ذلك الدستور الفرنسي لعام 1946 والدستور الفرنسي لعام 1958 والدستور التونسي لعام 1959 والدستور الصيني لعام 1982 والدستور الموريتاني لعام 1991 والدستور السويسري لعام 1998
ونعرض فيما يلي لبعض الوثائق الدستورية التي تضمنت مقدمة أو ديباجة
وقد تضمن الدستور الايطالي لعام 1947 مقدمة احتوت على المبادئ الأساسية التالية :
المبدأ الأول : الاعتراف بحقوق الإنسان
المبدأ الثاني : الحق في الكرامة
المبدأ الثالث : الحق في المساواة أمام القانون
المبدأ الرابع : الحق في العمل
المبدأ الخامس : الحق في الحرية الدينية
المبدأ السادس : تقييد النظام القضائي بالقوانين الدولية
المبدأ السابع : حق اللجوء السياسي
كما احتوى الدستور الفرنسي الصادر عام 1946 على مقدمة أشارت إلى (( انتصار الشعوب الحرة على الأنظمة التي حاولت استعباد الإنسان))
وقالت إن الشعب الفرنسي يرى أن يعلن مجدداً على اثر هذا النصر إن كل كائن بشري يتمتع بحقوق مقدمة دون تمييز أو تعريف بسبب العنصر أو الدين أو المعتقد
كما وان المقدمة أعلنت تمسك الشعب الفرنسي بالمبادئ التي تضمنتها قوانين الجمهورية وهذا يعني إن دستور عام 1946 يعترف بالمبادئ التي وردت في (( قوانين هامة )) صدرت من قبل ، كقانون الصحافة و قانون التجمع وقانون الجمعيات
والملاحظ إن المقدمة احتوت على ثلاث محاور أساسية :
أولا : المبادئ المضافة لإعلان عام 1789 :
تضمنت المقدمة مبادئ تشكل إضافات لإعلان الحقوق الصادر عام 1789 وعلى النحو التالي
المبدأ الأول : حق المساواة بين المرأة و الرجل
المبدأ الثاني : حق اللجوء السياسي
ثانيا : المبادئ الاقتصادية و الاجتماعية :
أراد واضعو مقدمة 1946 من وراء صياغة هذه المبادئ ، توسيع الديمقراطية السياسية إلى المجالين الاقتصادي و الاجتماعي و على النحو التالي :
المبدأ الأول : العمل حق وواجب
المبدأ الثاني : الاعتراف الرسمي بالتعددية النقابية و حرية الانتساب إلى النقابة
المبدأ الثالث : ممارسة حق الإضراب في نطاق القانون
المبدأ الرابع : إسهام كل عامل في تحديد شروط العمل
المبدأ الخامس : موقع الأسرة
المبدأ السادس الحق بحياة لائقة
المبدأ السابع : الحق بالتضامن الوطني
المبدأ الثامن : الحق بالتعلم والثقافة
ثالثا : المبادئ المتصلة بالقانون الدولي :
أشارت المقدمة إلى التزام الجمهورية الفرنسية و تمسكها بقواعد القانون الدولي العام ولن تخوض أي حرب تستهدف الغزو ولن تستخدم قواتها أبدا ضد أي شعب
وتضمن الدستور الفرنسي الصادر عام 1958 مقدمة أوضحت تمسك الشعب الفرنسي بصفة رسمية بحقوق الإنسان و مبادئ السيادة الوطنية كما حددها إعلان عام 1789 وأكدتها وأكملتها مقدمة دستور 1946
– كما حرصت دساتير الدول العربية على تضمين وثائقها الدستورية على ديباجة أو مقدمة تحدد الفلسفة التي تحكم نظام الحكم في هذه الدول فقد تضمن الدستور اللبناني الصادر عام 1926 مقدمة ارتكزت على المبادئ التالية :
المبدأ الأول : استقلال لبنان
المبدأ الثاني : احترام الحريات العامة
المبدأ الثالث : سيادة الشعب
المبدأ الرابع : الفصل بين السلطات و توازنها و تعاونها
المبدأ الخامس : النظام الاقتصادي الحر
المبدأ السادس : إلغاء الطائفية السياسية
كما احتوى الدستور التونسي لعام 1959 على (( توطئة)) أوضحت تصميم الشعب التونسي على توثيق عرى الوحدة القومية و التمسك بالقيم الإنسانية المشاعة بين الشعوب التي تدين بكرامة الإنسان و العدالة والحرية كما أوضحت أن النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان
والتساؤل الذي يرد في هذا المجال حول مدى القيمة القانونية لمقدمة الدستور ( أو الديباجة ) ؟
أثار موضوع القيمة القانونية لمقدمة الدستور الكثير من الجدل بين فقهاء القانون العام و تتراوح الآراء المختلفة حول هذا الموضوع بين الاعتراف لمقدمة الدستور بقيمة أعلى من الدستور وبين عدم الاعتراف لها بأي قيمة قانونية مع وجود آراء عديدة تبنت منهجا وسطا بين هذين الرأيين وتتمثل الآراء الفقهية بما يأتي :
الرأي الأول :
يعترف لمقدمة الدستور بقيمة قانونية أعلى من قيمة الدستور وأساس هذا الرأي إن المقدمة تدون مبادئ كامنة في ضمير الشعوب يتعين احترامها وهذه المبادئ واجبة الاحترام من السلطة التأسيسية الأصلية التي تضع الدستور
وهذا الرأي مردود لسببين أساسين ، الأول لتعارضه مع مبدأ تدرج القوانين الذي لا يتضمن قواعد تعلو الدستور والثاني لتعارضه مع المنطق فالسلطة التأسيسية الأصلية هي التي وضعت الدستور وضمنته مقدمة لا يمكن القول بان إرادتها عند وضع المقدمة أعلى من إرادتها عند وضع المتن أو صلب الدستور
الرأي الثاني :
يذهب إلى إن مقدمة الدستور لها قيمة قانونية تعادل قيمة النصوص التي يتضمنها الدستور ، طالما ان المقدمة تعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور
فالسلطة التأسيسية الأصلية عند وضعها الدستور عبرت عن إرادتها في شكلين :
الشكل الأول / هو المبادئ والمثل والأهداف وضمنتها مقدمة الدستور
الشكل الثاني / هو القواعد القانونية المحددة التي تعالج على وجه الدقة حقوقا والتزامات واختصاصات
ومن هنا فإن المقدمة وصلب الدستور لهما نفس القيمة القانونية باعتبارهما تعبيرا عن ارادة واحدة وصادرين في وثيقة واحدة
الرأي الثالث :
يمنح المبادئ الواردة في المقدمة قيمة قانونية أدنى من قيمة الدستور وبتعبير آخر قيمة تعادل القانون العادي
وسند هذا الرأي إن السلطة التأسيسية الأصلية لو كانت تريد منح هذه المبادئ ذات القيمة القانونية التي تتمتع بها النصوص الدستورية ، لنصت عليها في صلب الدستور
الرأي الرابع :
يجرد مقدمة الدستور في كل ما تضمنته مبادئ من القيمة القانونية ويقر لها بالقيمة المعنوية و الأدبية فهي مجرد مبادئ توجيهية على المشرع أن يلتزم بها وان يدخل مضمونها في نصوص قانونية عادية غيرؤ ان هذا الالتزام يظل التزاما أدبيا ، فإذا امتنع المشرع عن ذلك أو خالف محتوى تلك المبادئ فانه لا يجوز التمسك بها قانونا في مواجهة السلطة العامة
الرأي الخامس :
لا يساوي بين جميع المبادئ والقواعد التي تضمنها مقدمة الدستور فمضمون هذا الرأي إنما يقوم على التمييز بين نوعين من الأحكام التي تنطوي عليها مقدمة الدستور وهما الأحكام الوضعية والقواعد المنهجية
– الأحكام الوضعية : وهي عبارة عن نصوص محددة تنتمي بمظهرها إلى وجوهرها إلى أحكام القانون الوضعي فهي نصوص قانونية ملزمة بذاتها ويتعين تطبقها فورا شأنها في ذلك شأن نصوص القانون الوضعي فإذا احتوت مقدمة الدستور على النصوص وضعية محددة تكون لهذه النصوص الصفة الإلزامية التي تعادل قوة مواد الدستور ذاتها وهي في ذات الوقت تمثل قيد على المشروع العادي باحترام ما جاء فيها فهي تقرر مراكز قانونية يتعين احترامها
ومن أمثلة الأحكام الوضعية التي وردت في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي والذي أكدت الالتزام به مقدمة الدستور الفرنسي لعام 1946 والدستور الفرنسي لعام 1958 حيث نصت المادة العاشرة من الإعلان على إن لايضار احد بسبب أفكاره أو معتقداته وكذلك المادة السابعة عشر التي قررت (( وجوب التعويض العادل مقدما في حالة نزع الملكية أو الحرمان منها ))
– القواعد التوجيهية أو المنهجية : وهي عبارة عن نصوص غير محددة و تتجرد بذاتها من صفة
الإلزام الفوري فان الأفراد لا يستطيعون المطالبة بتطبيقها إذا يقتضي الأمر يتدخل المشرع كي يضع
مبادئها موضع التطبيق فيما يصدر من قوانين بحيث يتعين عليه احترامها عند قيامه بالتشريع فإذا اصدر
المشرع قانون يخالف هذه القواعد عُد هذا التشريع غير دستوري
ويلتزم المشرع إزاء النصوص التوجيهية أو المنهجية بالتزامين :
الالتزام الأول : وجوب تدخل المشرع لإصدار القوانين اللازمة لتنفيذ هذه النصوص
الالتزام الثاني : فيتمثل في وجوب إصدار المشرع لقوانين تتفق مع هذه النصوص ولا تخالفها بشكل صريح أو ضمني
ومن أمثلة النصوص التوجيهية أن تتضمن مقدمة الدستور نص يقرر إن (( الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق )) وفي هذه الحالة لا يستطيع المشرع أن يصدر قانون يعترف فيه ببعض الحقوق للابن غير الشرعي وسوف يكون هذا القانون – إن صدر – مخالفا للدستور
ونتساءل أي الآراء الفقهية السابقة الذكر يعد الرأي الأرجح و الأوفق في تحديد القيمة القانونية لمقدمة الدستور ؟
نرى إن الرأي الراجح في الفقه يتجسد في الرأي الثاني كونه يمثل اتجاه توفيقي يعطي لمقدمة الدستور قيمة قانونية تساوي قيمة النصوص التي يتضمنها الدستور ذاته
ويستند هذا الاتجاه إلى ثلاث حجج:
– حجة تاريخية : تشير إلى أن إعلانات الحقوق الواردة في المقدمة كانت تعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور
– حجة واقعية : مستوحاة من الممارسة القضائية ، التي تساوي بين المقدمة ومتن الدستور من ناحية
القوة القانونية وتخضعها للرقابة على دستورية القوانين
– حجة قانونية : ترى في كل دستور نوعين من الدساتير : دستورا سياسيا يحدد نظام الحكم ودستورا
اجتماعيا يحدد أسس النظام الاجتماعي وحقوق المواطن والجماعات
يعزز هذا الاتجاه ما ذهبت إليه الجهات المختصة بالرقابة الدستورية حيث ذهب المجلس الدستوري في فرنسا في قرار صادر في 16/7/1991 إلى عدم دستورية القانون المعروض عليه لمخالفته لمقتضيات حرية تكوين الجمعيات التي نصت عليها مقدمة دستور عام 1946 واقرها وأحال إليها دستور عام 1958 وأكد المجلس الدستوري إن ديباجة الدستور الفرنسي (( تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الدستور ذاته )) وسار المجلس الدستوري في لبنان على ذات النهج وأضفى على ديباجة الدستور اللبناني قيمة دستورية شأنها في ذلك شأن أحكام الدستور نفسها
المحور الثاني
صلب الدستور
يتباين محتوى الوثائق الدستورية بما تضمنه من مبادئ وأحكام ولكن بالرغم من هذا التباين والاختلاف فهناك قواعد مشتركة تتضمنها وتشكل (( النواة الصلبة للدستور)) ويجري تبويب ، صلب ومتن الدستور إلى أقسام أو أبواب وكذلك إلى فصول أو مواد تحتوي المبادئ الأساسية للدولة وتتركز في الجانب السياسي إلى الجانب المتعلق بممارسة السلطة وكذلك الجوانب الأخرى الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية وغير ذلك ، وفي ضوء ماتقدم يمكن تحديد محتوى صلب ومتن الدستور بما يأتي
أولاً : القواعد المتعلقة بالدولة :
يشتمل الدستور على عدد من النصوص التي تتصل بالدولة في أساسها و تكوينها وشكلها وقواعد الدستور تبين طبيعة الدولة أي شكلها فتحدد ما إذا كانت دولة موحدة بسيطة او دولة مركبة اتحادية
ثانيا : القواعد المتعلقة بشؤون الحكم في الدولة :
تتضمن وثيقة الدستور بيان الأحكام و القواعد المنظمة لشؤون الحكم في الدولة ، وتبين شكل الحكم وما إذا كان ملكيا أو جمهورياً وطبيعة نظام الحكم السياسي ما إذا كان نظام تركيز السلطة أو نظام توزيع السلطة وكذلك ما إذا كان النظام السياسي رئاسيا أم برلمانياً أم مجلسياً أم مختلطاً
وتنظم القواعد الدستورية السلطة السياسية وتحدد مصدرها و كيفية ممارستها وانتقالها وتحدد تكوين السلطات العامة و العلاقة بينها حيث تشير قواعد الدستور إلى طرق تكوين السلطات العامة واختصاصاتها وحدود ممارستها لهذه الاختصاصات
ويتناول الدستور تنظيم السلطة التشريعية ويبين تشكيل البرلمان ( مجلس واحد – أم مجلسين ) وكيف تجري عملية اختيار أعضائه (الانتخاب – أم التعين ) ويحدد كذلك وظائفه في المجال التشريعي والمالي والرقابي
وبعد أن يتناول الدستور السلطة التشريعية فانه ينظم السلطة التنفيذية فيبين تكوينها واختصاصاتها وحدود تلك الاختصاصات والمسؤوليات ويحدد الدستور طريقة تولية رئيس الدولة ( الانتخاب – أم الوراثة ) واختصاصاته وكذلك الحال بالنسبة لتكوين الحكومة واختصاصاتها كما ينظم الدستور – عادة – العلاقة بين السلطتين : التشريعية و التنفيذية وهي علاقات تحظى بالتنظيم الدقيق حيث أن اخطر ما تواجهه الدولة هو النزاع بين هاتين السلطتين فهو نزاع قادر على تعطيل الحياة السياسية والدستورية للدولة و عرقلة أعمالها ويرسم الدستور – في الغالب – طرق ووسائل حل التنازع بين السلطتين
متى ما فرغ الدستور من ذلك فانه ينظم السلطة القضائية في فصل مستقل إبرازا لدورها كحصن للحقوق وملجأ للمواطنين وضامنا لحماية القواعد الدستورية في مواجهة السلطتين التشريعية و التنفيذية
ثالثا : القواعد المتعلقة بالفكرة القانونية المؤسسة للحكم في الدولة :
لا يكتفي الدستور بوصف آلية الحكم وإنما يُعين الاتجاه الذي تسير فيه وتعمل بموجبه انه يعين هدفا للسلطات العامة و الفكرة القانونية التي تسعى هذه السلطات لتحقيقها
ومن هذا المنطلق فان النصوص الدستورية التي تحدد الاتجاهات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية في الدولة تبين الأساس الفكري أو الفلسفي الذي تأسس عليه نظام الحكم في الدولة و ترسم الإطار الذي ينبغي إن تعمل في نطاقه السلطات العامة في الدولة
وتختلف الدساتير في كيفية بيان الفكرة القانونية حيث نجد إن بعض الدساتير تنص صراحة على الفكرة القانونية الغالبة في المجتمع السياسي الذي جاء الدستور لوصف نظامه ومن أمثلة ذلك الدستور الصيني لعام 1982 الذي ينص على انتقال المجتمع الصيني إلى مجتمع اشتراكي بمستوى عالي من الثقافة والديمقراطية
كما تضمن صلب الدستور على عدة نصوص توضح الاتجاهات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية وتضمن الدستور التونسي لعام 1959 الفكرة القانونية المؤسسة للدستور حيث نص في ديباجته على ( إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب و قوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة الفصل بين السلطات ) وقد تضمن الدستور على عدة نصوص تحدد المذهب الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي
وأوضح الدستور الفرنسي السويسري لعام 1998 الأساس الفكري والفلسفي الذي يرتكز إليه فقد ورد في الديباجة التأكيد على ( تصميم الأقاليم السويسرية على تحديد التحالف لتقوية الحرية والديمقراطية و الاستقلال و السلام في التضامن و الانفتاح نحو العالم) وأوضحت نصوص الدستور الاتجاهات الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية في الدولة
وقد لا تنص الدساتير صراحة على الفكرة القانونية المهيمنة على النظام و مع ذلك يمكن استنتاج هذه الفكرة بصورة ضمنية عن طريق تحليل طبيعة النشاط السياسي الذي جاء به الدستور و الغرض المقصود منه فعندما يخص الدستور الشعب ، بالقيام بمهام السلطة التشريعية مباشرة أو عن طريق ممثليه – مثلا – فانه يحدد بذلك فكرة قانونية تختلف تماما عما لو ركزت سلطة التشريع في فرد في نظام فردي مطلق أو كذلك عندما ينص الدستور على مبدأ ( عدم جواز عزل القضاة ) فانه يشير بذلك إلى فكرة قانونية تختلف عن تلك التي تضع مصير القضاة تحت رحمة السلطة التنفيذية
وصفوة القول إن كل دستور حينما يحدد النظام السياسي – أياً كانت طريقة ممارسة السلطة فيه فهو يتبنى فكرة قانونية أساسية هي منار التنظيم الاقتصادي و الاجتماعي فيه و المبدأ المرشد للنشاط السياسي في الدولة
رابعا : القواعد المنظمة لعلاقة الدولة بالفرد :
لا تتضمن الوثيقة الدستورية – في الغالب – قواعد تتعلق بتنظيم ممارسة السلطة فقط ، بل توجد بجانب هذه القواعد نصوص تتعلق بتنظيم علاقة الدولة بالفرد
وينظر لعلاقة لدولة بالفرد من زاويتين أساسيتين
الأولى : حقوق الفرد إزاء الدولة و الالتزامات المتولدة عنها والتي تقع على عاتق الدولة
الثانية :واجبات الفرد إزاء الدولة
ويلاحظ إن الدساتير قد أولت علاقة الدولة بالفرد اهتماما كبيرا وحرص واضعوا الدساتير على تضمينها عدد من النصوص تنظم حقوق الفرد إزاء الدولة كما تتضمن نصوص تنظم واجبات الفرد إزاء الدولة
(أ) حقوق الفرد إزاء الدولة :
يتمثل الجانب الأول لعلاقة الدولة بالفرد في حقوق الفرد ونجد إن المشرعين الدستورين قد ضمنوا الوثائق الدستورية نصوصا تقر وتعترف بتلك الحقوق وتحيطها بضمانات تكفل التمتع بها و ممارستها وتكفل حمايتها
وبشأن الأسلوب المتبع في تنظيم الحقوق فيلاحظ أن النصوص المتعلقة بها إما أن تتصدر وثيقة الدستور ، بشكل (( ديباجة أو مقدمة )) ( كما اشرنا سابقا ) أو إنها تكون جزاءا أو باباً من أبواب الوثيقة الدستورية
والاتجاه الأكثر شيوعا أن يرد تنظيم حقوق الفرد في متن وصلب وثيقة الدستور
قد تضمن دستور العراق لعام 1925 بابا كاملا ( الباب الأول ) خصصت معظم مواده لضمان الحقوق لفردية للمواطنين تحت اسم (( حقوق الشعب )) وسارت على هذا النوال بابا ( الباب الثاني ) بعنوان ((مصدر السلطات و الحقوق والواجبات العامة )) وتعلق عدد من مواده بتنظيم عدد من الحقوق
واحتوى الدستور اللبناني لعام 1926 فصلا ( الفصل الثاني ) بعنوان أللبنانين و حقوقهم وواجباتهم وشمل على عدة نصوص منظمة للحقوق المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية
– خصص الدستور المصري لعام 1971 بابا ( الباب الثالث ) بعنوان ( الحريات و الحقوق والواجبات العامة ) وتضمن عدد من النصوص المنظمة للحقوق
– كما افرد الدستور الجزائري لعام 1996 فصلا كاملا ( الفصل الرابع ) بعنوان (الحقوق و الحريات)
– واحتوى الدستور السويسري لعم 1998 باباً ( الباب الثاني ) بعنوان الحقوق الأساسية و حقوق المواطنة و الأهداف الاجتماعية ) وتفرع الى ثلاث فصول ، تضمن الفصل الأول – الحقوق الأساسية – وتضمن الفصل الثاني – الجنسية وحقوق المواطنة و الحقوق الأساسية وأما الفصل الثالث – فتضمن الأهداف الاجتماعية
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن موضوع حقوق الإنسان يعد من الموضوعات التي تشترك بتنظيمها اغلب الدساتير لذلك قيل إن المبادئ المنظمة للحقوق تعتبر من المبادئ الدستورية المشتركة بين الدساتير ومن ثم تعد بمثابة ( دستور دولي مشترك )
والملاحظ إن الدساتير تتباين وتختلف في تقسيمها للحقوق ونعتقد إن اختلاف التقسيمات الدستورية للحقوق يعتبر مسألة شكلية إذ إن تباين التقسيمات لا يؤثر في قيمة أو مضمون الحقوق الداخلة في إطارها
ويمكن تقسيم الحقوق التي تتضمنها الدساتير ، من حيث مدى التصاقها بالإنسان إلى ثلاثة مجموعات رئيسية :
– الحقوق المتعلقة بشخصية الإنسان : وتتضمن جميع الحقوق المتعلقة بكيان الإنسان و حياته وما يتفرع عنها وهي ، الحق في الحياة ، الحق في الكرامة ، والحق في الخصوصية ، و الحق في الأمن ، و الحق في التنقل ، و الحق في حرمة المسكن ، و الحق في سرية المراسلات 0
– الحقوق الخاصة بفكر الإنسان : وتحتوي على الحقوق التي يغلب عليها الطابع الفكري و العقلي للإنسان وتضم ، الحق في حرية العقيدة والعبادة ، و الحق في حرية الرأي ، و الحق في حرية التعليم ، و الحق في حرية الاجتماع ، والحق في حرية تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها
– الحقوق المتصلة بنشاط الإنسان : و تتضمن الحقوق التي تتصل بنشاط الفرد و عمله وسعيه للحصول على ما يحقق له الحياة الكريمة وتشمل ، الحق بالعمل ، والحق في حرية النشاط التجاري
و الصناعي وغيره من أوجه النشاط والحق في الملكية
ويتضح مما تقدم إن الحقوق تفرض نوعين من الالتزامات تقع على عاتق الدولة
– الالتزامات السلبية : وتمثل في مجرد امتناع سلطات الدولة عن عمل وعدم التعرض للأفراد في نشاطهم المادي و المعنوي
– أما الالتزامات الايجابية : فهي التي تفرض على عاتق سلطات الدولة التزاما بعمل ، أي بان تنشط لتقدم لأفراد منافع مادية ومعنوية
ومن ثم كان من أهم الفوارق من الناحية الدستورية بين الالتزامات السليبة و الايجابية إن غاية المطلوب من سلطات الدولة في مجال الالتزامات السلبية هو أن تقف عند حدها ، فإذا تدخلت كان تدخلها محدوداً بالضرورة ،صيانة لمكانة المواطنين الآخرين
وعلى العكس من ذلك فغاية المطلوب من سلطات الدولة في مجال الالتزامات الايجابية هو أن تعاون وتعمل وكلما وسعت الدولة في عونها ارتفع المستوى الاجتماعي العام وخفت وطأة العوز والحرمان وعمت الرفاهية ، فالا حكام الدستورية الخاصة بالحقوق و التي تفرض التزامات سلبية تصاغ بحيث تحقق حماية الفرد من احتمال تعسف السلطات الحاكمة بينما الأحكام الدستورية الخاصة بالحقوق و التي تفرض التزامات ايجابية ، تصاغ بحيث تحقق معاونة السلطات الحاكمة لفرد في سبيل إسعاده فإذا نص الدستور – في باب الحقوق – على إن (( للمسكن حرمة )) فهذا يفيد انه ليست للسلطات الحاكمة شأن فيما يجري في المساكن وليس لها أن تقتحم على الأفراد مساكنهم ألا لضرورة قصوى وبسبب معلوم ، بإذن من القضاء ، والكمال هنا هو أن تقف السلطات موقفا سلبياً
أما إذا نص الدستور – في باب الحقوق – ( أو الالتزامات الايجابية ) على أن يكون (( تكفل الدولة للمواطن السكن والغذاء والكساء والعلاج والتعليم )) فهذا يفيد للمواطن أن يطالب السلطات بالقيام بعمل ايجابي إلى أقصى حد ممكن
(ب) : واجبات الفرد إزاء الدولة
أن الجانب الثاني لعلاقة الدولة بالفرد يتعلق بواجبات الفرد ونجد في هذا الإطار أن الدساتير لم تقتصر على تنظيم الدساتير في معالجتها لواجبات الفرد من فكرة إيجاد التوازن السليم بين مصالح الفرد ومصالح الآخرين بالمتطلبات المعقولة للمجتمع
فليس الفرد متلقيا للحقوق فقط وإنما هو مخاطب أيضا بواجبات تترتب علية إزاء الأفراد الآخرين وإزاء المجتمع الذي ينتمي إليه والذي يتمكن فيه من تنميه ذاته روحيا وعقليا وجسمانيا
ومن كل ما تقدم يظهر بوضوح إن الفرد علية واجبات إزاء المجتمع ويتحدد حق كل فرد في الاضطلاع بهذه الواجبات بحقوق الآخرين وبالقوانين العادلة للدولة الديمقراطية
ومن ابرز واجبات الفرد إزاء الدولة هي :
1-واجب الامتثال للقانون :
أن المراعاة الأمنية الدستورية والامتثال للقانون هي من الواجبات الأساسية للفرد وتتمثل المواطنة الصالحة في الامتثال والخضوع للأحكام الواردة في القوانين الصادرة عن السلطة المختصة في الدولة بما يحقق الصالح المشترك للجماعة
أن الامتثال للقانون يتطلب تنفيذ أحكامه وهذا التنفيذ يقتضي مجيء العلاقات التي قصد القانون تنظيمها بإحكامه مطابقة للمسار الذي حددته الأحكام القانونية لها بحيث إن إجراء أي من التصرفات الداخلية في احد جوانب العلاقات المحكومة بالتنظيم القانوني لا يعد صحيحا ومنتجا للإثارة إلا إذا جرى وفق ما تقرره القواعد القانونية
ويتضح مما تقدم إن واجب احترام القانون من جانب كل فرد هو واجب أساسي لسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان بحيث يتوجب على الفرد ان يمتثل للقانون ولغير ذلك من الأوامر والقرارات التي تصدرها سلطة أو الدولة التي يقيم فيها
ولكن التساؤل الذي يثار هو لأي قانون يكلف الفرد بواجب الامتثال والخضوع لأحكامه ؟
إن القانون الذي يتوجب على الفرد احترامه وتطبيقه هو القانون العادل الصالح الذي يحمي كل شخص دون تمييز من أي نوع ويكفل رفاهية المجتمع كما يرتكز هذا القانون على دستور ديمقراطي يضمن مبادئ العدالة والمساواة
2- واجب ممارسة الحقوق السياسية:
إن نصوص الدساتير حينما تقرر حق الترشيح وحق الانتخاب تضع حجر الأساس في حكم الدولة ويقابل هذه الحقوق واجب أساسي من واجبات المواطنة يتمثل في المشاركة في الحياة السياسية حيث إن الاشتراك في الحياة السياسية بالترشيح والتصويت واجب هام لإصلاح نظام الحكم وتحقيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وهكذا يكون واجب كل فرد إن ينتخب وان يرشح نفسه للانتخاب – إذا ما توفرت له الأهلية القانونية – عندما تكون الانتخابات حرة ونزيهة ودورية وتتم بالاقتراع العام المتعادل السري وتضمن للناخبين التعبير عن الحر عن إرادتهم وذلك لان الإسهام في الترشيح والتصويت يتعلق بمصير المجتمع الذي يتشكل وفقا لسياسات الحكومات على اختلاف مناهجها وسياساتها و على الفرد أن يؤدي واجبة في الإسهام بدورة في تقرير مصير مجتمعه من خلال صوته الانتخابي أو من خلال الترشيح
3- واجب أداء التكاليف العامة
تتضمن بعض الدساتير ، في تنظيمها لواجبات الفرد إزاء الدولة ، نصوصا ، تقرر واجبات الفرد في أداء التكاليف العامة :
وتتجلى التكاليف العامة في مجالين رئيسين :
– الأعباء العسكرية
– الأعباء المالية
– واجبات أداء الأعباء العسكرية :
تتمثل الأعباء العسكرية ، في أداء الخدمة العسكرية ، التي يعد أدائها واجب وطني على كل فرد لحماية الوطن والدفاع عنه .
ومن المبادئ المقررة في هذا المجال ، مبدأ المساواة أمام الأعباء العسكرية .
ويقصد في المساواة في هذا الميدان ، أن تكون المساواة عامة وشخصية ، أي انه لا يجوز أن يحل شخص آخر ، محل الشخص المطلوب تجنيده من ناحية ، وان تتساوى مدة أداء الخدمة العسكرية لجميع الأفراد كقاعدة عامة من ناحية أخرى .
– واجب أداء الأعباء المالية
تشمل الأعباء المالية ، الضرائب والرسوم ، وجميع الأعباء ذات الطبيعة المالية ، التي تفرض على الأفراد ، إلا إن الضرائب تعتبر أكثر هذه المصادر أهمية على الإطلاق .
ولهذا ، فان مسألة فرض الضرائب ، تحظى بأهمية كبيرة في كل دولة ، لأنه من الضروري أن تحصل الدولة عليها من المكلفين بطريقة عادلة .
وكان من الطبيعي إن تلتقي المساواة أمام الضرائب مع هدف كل نظام ضريبي ، وهو تحقيق ، العدالة الضريبية . كما انه من المؤكد إن المساواة ، تعتبر العامل الأول في تحقيق حياة الضريبة .
ويعتبر دفع الضرائب ، واجب وطني على كل فرد ، لان حصول الدولة على موارد مالية لتنهض بمسؤوليتها وتؤدي خدماتها للجميع يعتبر مسألة حيوية للغاية .
ويحكم واجب أداء الضرائب ، مبدأين أساسيين :
المبدأ الأول : هو مبدأ مشروعية أو قانونية الضريبة ويعني هذا المبدأ ، انه لا ضريبة بدون قانون أو بناء
على قانون.
أما المبدأ الثاني : فهو مبدأ عالمية الضريبة ، والذي يعني انطباقها على جميع الأفراد ، المواطن والأجانب
ما داموا يعيشون فوق إقليم الدولة ، وعلى جميع الأموال الموجودة في الدولة .
خامسا : القواعد المعلقة بالأحكام العامة والانتقالية
إن آخر ما يتناوله الدستور – في الغالب – هو بعض القواعد التي تشمل على الأحكام العامة التي لم تندرج . فيما سبق من بنوده . ويرسم الدستور كيفية تعديله ، والجهات المخولة بمباشرة هذا التعديل .
ومن هذه الأحكام ، يمكن التعرف على طبيعة الدستور ، عما إذا كان دستورا جامداً أو مرناً . كما يتناول الدستور في بابه الختامي ، الأحكام الانتقالية التي ترتب المرحلة ، ما بين صدوره ونفاذه والسلطات التي تتولى إلى حين هذا النفاذ أمر الإشراف على مرحلة زمنية محددة
المبحث الثاني
الرقابة على دستورية القوانين
( ضمان مبدأ سمو الدستور )
تبقى القواعد الدستورية مجرد مبادئ نظرية أن لم تؤمن لها الحماية و الاحترام ، فالتأكيد النظري لسمو الدستور غير كافي لوحده لضمان هذا السمو و العلو إذ لا بد من وسائل عملية تحمي هذا العلو وتعمل على تأكيده بشكل فعلي
فأهمية الدستور لا تأتي من مجرد وجوده ، وإنما تكمن في تنفيذه فلا معنى لسمو الدستور إذا جاز لأجهزة الدولة وسلطاتها أن تنتهك نصوصه دون ثمة جزاء ومن هنا كان البحث عن وسيلة تكفل تحقيق مبدأ سمو وأعلوية الدستور
وتعد الرقابة الدستورية من أهم الوسائل التي يمكن أن تحقق ذلك لاعتبار أن هذه الرقابة مؤداها التزام جميع السلطات – بما فيها السلطة التشريعية – بمراعاة الحدود الدستورية ، وعدم الخروج عن الإطار القانوني للجماعة السياسية
– معنى الرقابة على دستورية القوانين :
يقصد بالرقابة على دستورية القوانين ، إخضاع القانون الصادر عن السلطة التشريعية ، لنوع من الرقابة من قبل جهاز مستقل ، للتأكد من مدى مطابقة و موافقة هذا القانون ، للمبادئ الواردة في الدستور يركز مفهوم الرقابة ، إذن على كون الدستور هو قانون الدولة الأسمى وأن القواعد الواردة فيه هي الأعلى مرتبة ويتوجب على كل السلطات في الدولة احترامها و العمل بموجبها بما في ذلك السلطة التشريعية
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بأن وجود جهة تتولى رقابة دستورية للقوانين ويمثل ضمانة هامة للحقوق التي تقررت في صلب الوثيقة الدستورية أو في ديباجتها ذلك لأن الغرض من هذه الرقابة يتمثل فيمنع مخالفة القانون للدستور ، أو الانحراف في استعمال السلطة التشريعية
– مضمون الرقابة على دستورية القوانين :
يتحدد مضمون الرقابة الدستورية في وجوب التفرقة بين الدستور والقوانين العادية واعتبار الدستور القانون الأساسي الأعلى في الدولة ، ومن ثم وجوب توافق أحكام القوانين العادية لأحكام الدستور حيث يتعين على القوانين العادية أن تسير في فلك و دائرة أحكام الدستور بأن توافقها و تلتزمها فلا تخالفها أو تحيد عنها
وموضوع الرقابة على دستورية القوانين لا يثار في ظل الدستور المرن ذلك لأن الدستور المرن لا يتمتع بأي سمو شكلي على القوانين العادية فلو خالف القانون العادي الدستور المرن فهذه المخالفة لاتعتبر انتهاك للدستور ، بل تعتبر تعديل للدستور المرن ولكن موضوع الرقابة الدستورية يثار في ظل الدستور الجامد و السبب هو أن الدستور الجامد يتمتع بسمو شكلي على القوانين العادية ويتطلب لتعديله إجراءات خاصة وتختلف عن إجراءات تعديل القوانين العادية وفي هذه الحالة فقط يمكن أن تحدث مشكلة دستورية إذا أصدرت السلطة التشريعية قانون يتعارض مع أحكام الدستور
و الرقابة على دستورية القوانين تثور بشأن مخالفة القانون العادي، لأحكام الدستور الجامد من حيث الموضوع لا من حيث الشكل ذلك أن الرقابة دستورية القوانين تقتصر على مدى مطابقة القانون للدستور من الجانب الموضوعي (المادي) دون الجانب الشكلي فالقانون إذا صدر مخالفا للشكل الذي حدده الدستور لإصداره فأن في هذه الحالة (أي حالة المخالفة الشكلية للدستور) لا يعتبر القانون قانونا بل يعتبر في حكم العدم ، وتتضمن بعض الدساتير نص صريح يقرر بطلان القوانين التي تصدر مخالفة لا حكام الدستور
غير أن عدم ورود نص في الدستور يقرر هذا البطلان ، لايؤثر في اعتبار تلك القوانين باطلة ذلك أن البطلان يكون نتيجة حتمية لجمود الدستور ، دون حاجة للنص عليه بصراحة
– أساليب الرقابة الدستورية
إذا كان من المسلم به اعتبار القانون الذي يتعارض مع أحكام الدستور باطلا فأنه يثار التساؤل حول الجهة التي يحق لها الحكم بأن قانونا ما جاء مخالفا للدستور أم موافقا له ، ثم كيف تفرض هذه الجهة حكمها في هذا الشأن ؟
اختلفت الدساتير فيما جاءت به من حلول فبعض الدساتير تبنت نظام الرقابة السياسية ، بينما أخذت بعض الدساتير بنظام الرقابة القضائية
أولا : الرقابة السياسية على دستورية القوانين ( ألرقابة اللاقضائية )
يقصد بالرقابة السياسية على دستورية القوانين أن تتولى هيئة ذات صفة سياسية حق الرقابة الدستورية ، بحيث تختص في فحص القوانين والتحقق من مدى مطابقتها لأحكام الدستور
و الرقابة بواسطة هيئة سياسية ، رقابة سابقة على إصدار القانون إلا بعد إصداره ، حيث تنصب على التحقق فيما إذا كان مشروع القانون يخالف أو يناقض الدستور فالرقابة السياسية تمارس إذن على القانون وهو في مرحلة التحضير أي أنها تتم بعد تقرير القانون من البرلمان وقبل إصداره من رئيس الدولة بناء عليه فأن الرقابة السياسية هي رقابة وقائية بمعنى أنها تهدف إلى اتقاء اللادستورية قبل وقوعها لأنها تمارس على القانون المزمع إصداره وبذلك فهي تحول دون إصدار القانون المخالف لأحكام الدستور
ويختلف تشكيل الهيئة السياسية تبعا للكيفية التي ينظم بها الدستور هذا النوع من الرقابة فقد يتم تشكيل الهيئة السياسية أما عن طريق التعيين من جانب السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية وأما عن طريق الانتخاب من جانب الشعب وقد يتم تكوينها عن طريق الاختيار الذاتي ، أي اختيار تلك الهيئة لأعضائها بذاتها
هذا وقد أخذت دول عديدة بالرقابة السياسية على دستورية القوانين ولكن صور الرقابة في هذه الدول تختلف من دستور إلى آخر : يمكن في هذا الصدد تمييز ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : جعل الرقابة من اختصاص رئيس الدولة أو رئيس المجلس النيابي :
وقد اخذ بهذا الاتجاه الدستور البرازيلي لعام 1937 حيث نص على حق رئيس الجمهورية في الاعتراض على مشروعات القوانين لعدم دستوريتها
أما الدستور السويدي لعام 1806 فقد عهد بهذا الاختصاص إلى رئيس المجلس النيابي ، حيث خوله منع التصويت على مشروع قانون يتضح له انه غير دستوري
الاتجاه الثاني : أناط الرقابة الدستورية بالسلطة التشريعية ذاتها
وقد تبنى هذا الاتجاه الدستور البلغاري لعام 1947 حيث نص على اختصاص السلطة التشريعية وحدها بحق البت فيما إذا كانت الشروط التي يتطلبها الدستور قد روعيت عند إصدار القانون وفيما إذا كان هذا القانون دستوريا
أما الدستور الصيني لعام 1954 فقد نص على اختصاص الجمعية الصينية لنواب الشعب بالرقابة على تطبيق الدستور أي الرقابة على تطبيق الدستور أي الرقابة على دستورية القوانين
كما نص الدستور السوفيتي لعام 1977 في المادة (121) منه على أن هيئة رئاسة السوفيت الأعلى تمارس الرقابة على التقييد بدستور الاتحاد السوفيتي وتؤمن اتفاق دساتير و قوانين الجمهوريات المتحدة مع دستور و قوانين الاتحاد السوفيتي
الاتجاه الثالث : عهد بمهمة الرقابة على دستورية القوانين إلى هيئة خاصة :
ولقد اخذ بهذا الاتجاه دستور الجمهورية الرابعة الفرنسي ( دستور عام 1946) الذي نص على أن تتولى فحص دستورية القوانين هيئة تسمى (اللجنة الدستورية) وأنتهج ذات النهج دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي (دستور عام 1958) حيث أوكل مهمة الرقابة الدستورية إلى هيئة سماها ( المجلس الدستوري )
وجدير بالذكر أن فرنسا تعد من الأمثلة البارزة للدول التي أخذت بالرقابة السياسية على دستورية القوأنين
لذا سنعرض بشيء من التفصيل لتطبيق الرقابة السياسية وفق أحكام الدستور الفرنسي لعام 1958
تطبيق الرقابة السياسية على دستورية القوانين في ظل الدستور الفرنسي لعام 1958 :
اتبع الدستور الفرنسي الحالي الصادر عام 1958 ( دستور الجمهورية الخامسة ) إسلوب الرقابة السياسية السابقة على صدور القانون فأناط الرقابة على دستورية القوانين إلى هيئة اسماها ( المجلس الدستوري )
– تكوين المجلس الدستوري :
يتكون المجلس الدستوري وفقا لنص المادة (56) من الدستور من طائفتين من الأعضاء :
الطائفة الأولى :
وهذه الطائفة من الأعضاء تتمثل في الرؤساء السابقين للجمهورية وهؤلاء يعتبرون أعضاء لمدى الحياة في هذا المجلس بحكم القانون
وترجع الحكمة من تعيينهم إلى الرغبة في الاستفادة من خبراتهم السياسية و الدستورية التي اكتسبوها خلال فترات حكمهم من ناحية ومن اجل إعطاء المجلس الدستوري نوعا من المكانة و الهيبة من ناحية
أخرى ، ويلاحظ بالنسبة للأعضاء الدائمين أنه قد اشترك من رؤساء الجمهورية الرابعة في عضوية المجلس بقوة القانون الرئيس ((رينيه كوني Rene Cony)) منذ تاريخ تكوين المجلس وحتى (1962) وأيضاً الرئيس ((Vincent Auriol)) و الذي اشترك كذلك في المجلس منذ تكوينه وحتى (1966) حيث تركه اثر الخلاف الذي نجم بينه وبين (ديكول De Gaulle)) بصدد تطبيق المادة (29) من الدستور
وبالنسبة لرؤساء الجمهورية الخامسة فقد رفض الرئيس (( شارل ديكول DeGaulle Charles )) الانضمام إلى عضوية المجلس الدستوري بعد استقالته عام 1969 كما أن الرئيس ( فاليري جيسكار ديستان) لم يمارس مهام العضوية بشكل فعلي إذ أنه أصبح عضوا في الجمعية الوطنية في انتخابات (1984) فامتنع عليه عضوية المجلس الدستوري طبقا لنص المادة (57) من الدستور
الطائفة الثانية :
الأعضاء المعنيون في المجلس الدستوري ، ويبلغ أعضاء هذه الطائفة تسعة أعضاء بحيث يتولى رئيس الجمهورية تعين ثلاثة أعضاء ويعين رئيس الجمعية الوطنية ( مجلس النواب ) ثلاثة أعضاء كما يعين رئيس مجلس الشيوخ ثلاثة أعضاء
ويختص رئيس الجمهورية بحق تعين احد أعضاء المجلس الدستوري رئيسا للمجلس ولذلك الأمر أهمية خاصة ، لأن الدستور ينص على أن لرئيس المجلس الدستوري صوت مرجح في حالة تساوي الأصوات في مسالة معينة
ويشغل هؤلاء الأعضاء العضوية لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد ويلاحظ أنه يتم تجديد ثلث الأعضاء في المجلس الدستوري كل ثلاث سنوات ويتم اجتماع المجلس الدستوري بموجب دعوة من رئيسه فإذا أحال حائل دون ذلك يتولى اكبر الأعضاء سنا رئاسته
– اختصاصات المجلس الدستوري :
يحكم اختصاصات وسير أعمال المجلس الدستوري القانون الأساسي الصادر عام 1958 واختصاصات أخرى عديدة و متنوعة يجمع بينها إطار السهر على احترام مبادئ الدستور وضمان حسن سير السلطات العامة في أداء مهام وظائفها ذلك أنه يسند إليه أمر الرقابة على سلامة ومشروعية العمليات الانتخابية و الاستفتاءات فضلا عن الإشراف على كل من انتخابات البرلمان و رئاسة الجمهورية
كما يدعي المجلس من قبل رئيس الجمهورية لاستشارته فيما يتعلق بلجوئه لاستخدام المادة السادسة عشرة من دستور عام (1958) والخاصة بالظروف الاستثنائية وسلطات الأزمات و الإجراءات الصادرة بناء على مشروعية إعلان هذه الحالة
ويدخل في مهام المجلس الدستوري كذلك مراقبة دستورية اللوائح الداخلية للمجالس النيابية ويمكن كذلك أن يتطلب منه إصدار قرار بإعلان خلو منصب رئيس الجمهورية أو قيام مانع يحول دون ممارسة صاحبه لا اختصاصاته الرئاسية وذاك وفقا لما ورد بنص المادة السابعة من الدستور ، وما يمنا هنا هو التعرض لاختصاص المجلس برقابة دستورية القوانين وهي الرقابة التي يطلق عليها الفقه الفرنسي (( مجالات تقدير المطابقة للدستور))
واختصاص المجلس الدستوري في مجال الرقابة يكون سابقا على إصدار القوانين ووفقا لنص المادة (61) من الدستور فهناك رقابة إلزامية أو وجوبيه و رقابة اختيارية أو جوازيه
وعلى ذلك سنتناول تباعا حالات التدخل الرقابي الإلزامي ، ثم حالات التدخل الرقابي الاختياري للمجلس الدستوري
أولا : حالات التدخل الرقابي الإلزامي أو الوجوبي :
يمارس المجلس الدستوري الرقابة الإلزامية بالنسبة للقوانين الأساسية ، وأيضاً بالنسبة للوائح المنظمة لمجلس البرلمان
1- الرقابة على دستورية القوانين الأساسية :
نصت المادة (46) من الدستور على أن ( لايجوز إصدار القوانين الأساسية إلا بعد أن يقر المجلس الدستوري مطابقتها للدستور )
وتنص المادة (61/أ) من ذات الدستور على أنه ( يجب عرض القوانين الأساسية على المجلس الدستوري للتأكد من مطابقتها للدستور ، وذلك قبل إصدارها )
و القوانين الأساسية هي قوانين صادرة من البرلمان ويتعلق موضوعها بتنظيم السلطات العامة في الدولة وهي تعتبر في رأي البعض امتدادا للدستور وبالتالي تعد هذه القوانين بمثابة تشريع دستوري تكميلي ولذلك فالقوانين الأساسية تنصب على مواضيع دستورية ، وهذا ما يبرر تولي المجلس الدستوري الرقابة على دستوريتها بشكل إلزامي
2- الرقابة على اللوائح المنظمة لمجلس البرلمان :
بالإضافة إلى القوانين الأساسية التي تخضع بشكل وجوبي لرقابة المجلس الدستوري توجد اللوائح المنظمة لمجلس البرلمان والتي تحال إليه لممارسة رقابته عليها و التأكد من عدم مخالفتها للدستور
ثانياً : حالات التدخل الرقابي الاختياري أو ألجوازي :
يمارس المجلس الدستوري الرقابة الاختيارية بالنسبة للمعاهدات و الاتفاقيات الدولية وأيضاً بالنسبة للقوانين العادية
1- الرقابة على المعاهدات و الاتفاقيات الدولية :
تنص المادة (54) من الدستور الفرنسي على أنه ( إذا قرر المجلس الدستوري بناءاً على إحالة من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس أي من المجلسين أو ستين نائبا أو ستين شيخا ، أن تعهدا دوليا يتضمن شروطا مخالفة للدستور ، فلا يمكن الإذن بالتصديق أو الموافقة على التعهد الدولي إلا بعد تعديل الدستور )
ومفاد النص المتقدم ذكره أن مسالة عرض المعاهدات والاتفاقيات الدولية على المجلس الدستوري تعد أمراً جوازياً لكل من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء ( الوزير الأول ) أو رئيس مجلس الشيوخ أو رئيس الجمعية الوطنية ( مجلس النواب ) أو ستين عضوا من مجلس الشيوخ أو ستين عضوا من الجمعية الوطنية
وقد تناولت المادة (46) من الدستور كيفية إصدار القوانين الأساسية وتوجب هذه المادة عرض تلك القوانين الأساسية قبل إصدارها على المجلس الدستوري وذلك للسماح له بالتأكد من عدم مخالفتها الدستور ، ويلاحظ أن رقابة المجلس الدستوري للقوانين الأساسية تركز في التأكد من مطابقتها لأحكام الدستور وقواعده قبل إصدارها من حيث الشكل والاختصاص و الموضوع بل أنها يجب أن تمتد إلى ضرورة اتفاق القوانين الأساسية مع روح الدستور و المبادئ العامة مثل التي ورد النص عليها في إعلان حقوق الإنسان و المواطن سنة (1789) وكذلك مقدمة دستور الجمهورية الرابعة ، ويلاحظ أنه إذا قرر المجلس الدستوري عدم دستورية القانون الأساسي فأن ذلك يمنع إصداره إلا أن يجري إعداد قانون أساسي جديد تتفق أحكامه مع أحكام الدستور
وإذا أعلن المجلس الدستوري أن المعاهدة أو الاتفاق الدولي يتعارض مع النصوص الدستور فلاتصديق عليه لا يتم إلا بتعديل الدستور
2- الرقابة على القوانين العادية :
ورد الاختصاص برقابة المجلس الدستوري على القوانين العادية ، بنص المادة (61/ب) و التي نصت على أنه ( 000يجوز لذات الغرض إحالة القوانين قبل صدورها إلى المجلس الدستوري من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ أو ستين نائبا أو ستين شيخا )
ومفاد النص المتقدم أن القوانين المذكورة الغرض أنها لن تصدر بعد أن كانت الموافقة البرلمانية عليها قد تمت وأن النص يشمل جميع حالات عدم التطابق بين القوانين والدستور أو مجمله وكذلك ما ورد في الديباجة من أحكام وخاصة ما تعلق منها بما ورد في إعلان حقوق الإنسان و المواطن سنة (1789) وكذلك مقدمة دستور الجمهورية الرابعة عام (1946)
وبمعنى آخر أن الرقابة تشمل المبادئ الأساسية التي تقوم عليها قوانين الجمهورية و المبادئ التي لها قيمة دستورية و التي يكشف عنها المجلس الدستوري والقوانين الأساسية ، والإحالة الاختيارية لهذه القوانين إلى المجلس الدستوري يكون من قبل رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس الشيوخ أو رئيس الجمعية الوطنية أو ستين عضوا من مجلس الشيوخ أو ستين عضوا من الجمعية الوطنية ويترتب على الإحالة إلى المجلس ، الدستوري وقف اجل إصدار القانون ،
وعندما ينظر المجلس الدستوري في دستورية مشروع قانون ما فهو يصدر احد القرارات الآتية :
1- أن مشروع القانون لا يخالف الدستور ، فأن عملية تشريعه تستمر ويصادق عليه من قبل رئيس الجمهورية
2- أن مشروع القانون في كل أجزاءه يخالف الدستور ، وفي هذه الحالة ينتهي مشروع القانون وكأنه لم يكن بحيث لا يمكن إصداره أي لا يستطيع رئيس الجمهورية المصادقة عليه
3- أن مشروع القانون في بعض أجزاءه يخالف الدستور ، وفي هذه الحالة للمجلس الدستوري أما أن يقرر بأن هذه الأجزاء المخالفة لا يمكن فصلها عن مشروع القانون وعند ذاك يكون حكم مشروع القانون كحكمه في حالة مختلفة جميع أجزاءه للدستور أي لا يمكن المصادقة عليه ،وأما أن يقرر المجلس الدستوري أن أجزاء مشروع القانون المخالفة للدستور قابلة للفصل ، فعند ذاك يكون لرئيس الجمهورية الخيار بأن يصدر القانون من دون أجزاءه المخالفة للدستور أو أن يطلب من مجلسي البرلمان ( الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ ) قراءة ثانية لمشروع القانون لتفادي أوجه عدم الدستورية
ويلاحظ أخيراً أن رقابة المجلس الدستوري على القوانين العادية والقوانين الأساسية وكذلك لوائح مجلسي البرلمان يجب أن تتم خلال مدة شهر من تاريخ الإحالة في الأحوال العادية ، ومع ذلك تخفض هذه المدة إلى ثمانية أيام بناءاً على طلب الحكومة في حالة الاستعجال
– الأثر القانوني المترتب على القرار الصادر على المجلس الدستوري :
الرقابة التي يمارسها المجلس الدستوري الفرنسي هي رقابة وقائية سابقة الغرض منها منع إصدار تشريعات مخالفة للدستور ، وبالتالي فأن الأثر المترتب على صدور قرار بعدم دستورية النص المطعون فيه يتمثل في : عدم إمكانية إصدار النص أو وضعه موضع التطبيق
وينطبق ذلك على الرقابة الإلزامية بصدد القوانين الأساسية ولوائح المجالس البرلمانية مثلما ينطبق على الرقابة الاختيارية بشأن القوانين العادية بينما يختلف هذا الأثر بشأن المعاهدات الدولية :
– فالنسبة للقوانين الأساسية ، إذا أعلن المجلس الدستوري عدم مطابقتها للدستور ، فأنه يترتب على ذلك عدم إمكانية إصدارها
– أما بالنسبة للوائح البرلمانية ، فأن المجلس الدستوري إذا أعلن عدم دستوريتها فأن الأثر المترتب على ذلك يتمثل في عدم جواز تطبيقها وعلى المجلس المختص – الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ – الالتزام بقرار المجلس الدستوري ، بأن يعدل لائحة المعيبة أو يصدر لائحة أخرى جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما جاء بقرار المجلس الدستوري أعمالاً لما يترتب على هذا القرار من آثار
– أما فيما يتعلق بالرقابة الاختيارية ، وهي الرقابة على دستورية المعاهدات الدولية و القوانين العادية فأن الأثر المترتب بشأن رقابة المعاهدات الدولية إذا ما أعلن المجلس الدستوري أن المعاهدة تحوي شرطا أو نصا لا يتفق مع أحكام الدستور لا يتمثل في تعديل هذا النص بل يظل كما هو وما يتم تعديله هو الدستور ذاته ، حتى لايكون هناك تعارض بين نصوص الدستور وأحكام المعاهدة الدولية فاثر القرار يتمثل في تلك الحالة في : تعديل الدستور بما يزيل التعارض بينه وبين أحكام المعاهدة الدولية
– أما فيما يتعلق بأثر القرار الصادر بعدم الدستورية ، بشأن القوانين العادية فيتم التفرقة بين حالتين أولهما حالة البطلان الكلي و ثانيهما حالة البطلان الجزئي
الحالة الأولى : البطلان الكلي للقانون :
في الحالة التي يعلن فيها المجلس الدستوري عدم دستورية القانون المطعون فيه برمته ( أي بشكل كلي ) وكذلك حالة عدم دستورية بعض نصوصه مع عدم إمكانية فصلها عن باقي النصوص فأن الأثر المترتب على ذلك ، يتمثل في عدم إمكانية إصدار القانون في مجمله وعلى البرلمان في تلك الحالة تبني قانون جديد على أن يراعي عند إعداده ، ما ورد بقرار المجلس الدستوري .
الحالة الثانية : البطلان الجزئي للقانون :
في الحالة التي يعلن فيها المجلس الدستوري أن القانون محل الرقابة يتضمن نصا أو بعض تخالف الدستور ، مع إمكانية فصلها عن باقي نصوص القانون ، فان الأثر المترتب على ذلك يتمثل في احد حلين : إما إصدار القانون من جانب رئيس الجمهورية ، بدون هذا النص المعيب ، وإما أن يطلب رئيس الجمهورية من مجلسي البرلمان إجراء مناقشات جديدة للقانون ، في ضوء قرار المجلس الدستوري ، بمعنى تعديله . أو تبني نص أخر يتفق وأحكام الدستور .
وبشأن حجية القرارات الصادرة من المجلس الدستوري
فقد أضفت المادة (62/2) من الدستور ، على قرارات المجلس الحجية المطلقة .
إذ جعلت قرارات المجلس الدستوري ، نهائية ، أي غير قابلة للطعن فيها بأي طريقة من طرق الطعن . كما أسبغت عليها صفة الإلزام ، بالنسبة لجميع السلطات الإدارية والقضائية .
تقدير الرقابة السياسية على دستورية القوانين :
لئن كانت الوقاية خير من العلاج فانه من المنطقي أن تجري الرقابة على دستورية القوانين قبل صدورها لتدارك أخطاء قبل أن تقع .
وإذا كانت الرقابة على دستورية القوانين تنتج آثاراً سياسية معينة ، لان السلطة التي تتولى هذه المهمة تكون – بحكم وضعها – أعلى من بقية السلطات ومشرفة على عملها فانه من الطبيعي ، إذن أن تسند هذه المهمة إلى هيئة سياسية .
تلك هي المبررات التي قيلت لتبرير الرقابة السياسية على دستورية القوانين . غير إن الرقابة السياسية قد لاقت عدة انتقادات نجملها فيما يلي :
1. إذا كان تحريك الرقابة يعود للسلطة التنفيذية أو للسلطة التشريعية فان ذلك يؤدي إلى إقامة الطعن في دستورية القانون على اعتبارات سياسية أكثر من إقامته على اعتبارات قانونية وموضوعية وإذا كانت الرقابة تمارس بشكل تلقائي من قبل هيئة الرقابة ( وذلك كجزء من متطلبات العملية التشريعية ) ، فان ذلك قد يخلق من هيئة الرقابة مشرعا آخر لان القانون لايمكن أن يشرع ويصدر دون موافقتها .
2. تنتقد الرقابة السياسية كذلك من ناحية تشكيل الهيئة السياسية التي تتولى مهمة الرقابة فهذه الهيئة إن لم يتم تشكيلها من جانب السلطة التشريعية في هذه الحالة فستكون هيئة الرقابة عرضة للخضوع لاتجاهات البرلمان ورحمته الأمر الذي ينتفي معه أي رقابة فعالة ومؤثرة وأما أن يتم تشكيل هذه الهيئة عن طريق التعيين من جانب الحكومة أي السلطة التنفيذية وفي تلك الحالة سوف تكون هيئة الرقابة تابعة لها وخاضعة لتعليماتها وقد يتم تشكيل هيئة الرقابة من جانب الشعب بطريق الانتخاب المباشر وهنا قد تظن هذه الهيئة المنتخبة إنها تمثل الشعب وإنها تعلوا تبعا لذلك غيرها من الهيئات الأخرى وتتنازع معها النفوذ والسلطات وتحاول السيطرة عليها باعتبارها أعلى هيئة منشئة في الدولة وقد يتم تشكيل هيئة الرقابة عن طريق الاختيار الذاتي وبهذه الحالة ستكون هذه الهيئة هيئة ارستقراطية لا تتفق ومبادئ الديمقراطية .
3. إن حرمان هيئة الرقابة من النظر في دستورية بعض القوانين ووضعها في دورها الرقابي وهذا ما نجده في فرنسا حاليا . فالقوانين التي يطرحها رئيس الجمهورية على الاستفتاء الشعبي بموجب المادة (11) من الدستور ، لا تدخل في اختصاص هيئة الرقابة ( المجلس الدستوري ) أي لا يمكن الطعن في دستوريتها وهذا ما أعلنه المجلس الدستوري في قراراه عام 1962 ، والذي جاء فيه إن اختصاصه يقتصر على فحص دستورية القوانين التي ساهم البرلمان في إعدادها .
4. إن إسلوب الرقابة السياسية يقصر حق الطعن بعدم الدستورية على الهيئات العامة بينما لا يقر للأفراد بحق الطعن أمام هيئة الرقابة بعدم دستورية مشروعات القوانين ، الأمر الذي يتضمن إضعافاً للرقابة وتقليل من أهميتها لاحترام الأحكام الدستورية وبشكل خاص تلك التي تتعلق بحقوق الأفراد وحرياتهم .
ثانيا : الرقابة القضائية على دستورية القوانين :
بقصد بالرقابة القضائية على دستورية القوانين قيام القضاء بالتحقق من مدى مطابقة القانون لأحكام الدستور . فالرقابة القضائية ترمز إذن إلى الهيئة التي تباشرها وطابعها القضائي .
ولم تتفق الدول التي تبنت الرقابة القضائية على طريق واحد لممارسة هذه الرقابة إلا انه يمكن تقسيمها تبعا للأثر الذي يترتب على إجراء الرقابة بالنسبة للقوانين المخالفة لأحكام الدستور إلى ثلاثة طرق :
– الرقابة القضائية عن طريق الدعوى المباشرة .
– الرقابة القضائية عن طريق الدفع بعدم الدستورية .
– الرقابة عن طريق الدفع المقترن بدعوى عدم الدستورية
أ – الرقابة القضائية عن طريق الدعوى المباشرة ( رقابة الإلغاء ) :
إن الرقابة عن طريق الدعوى المباشرة هي كقاعدة عامة ، رقابة لاحقة على إصدار القانون .
ويفترض هذا النوع من الرقابة ، إن قانون ما ، قد صدر ، ويقوم صاحب الشأن (الأفراد أو بعض هيئات الدولة ) الذي يمكن أن يتضرر من القانون ، يرفع دعوى أصلية ، أمام المحكمة المختصة ، ضد القانون الذي يعتقد انه يتعارض مع الدستور . ويطلب فيها الحكم بإلغاء القانون المخالف لأحكام الدستور ، مستهدفا من ذلك القضاء على القانون قبل تطبيقه .
وعلى هذا النحو ، تكون الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية ، بمثابة وسيلة هجومية تتحصل في مهاجمة القانون ، ذاته وبشكل مباشر ، ويستطيع صاحب الشأن ، أن يرفع هذه الدعوى ، بصفة أصلية ، أي مستقلة عن أي نزاع آخر .
فهناك ، إذن الدعوى لاتقام من قبل فرد أو هيئة على فرد أو هيئة وإنما من قبل فرد أو هيئة على قانون معين مخالفه للدستور .
وتوصف الدعوى المباشرة بأنها دعوى موضوعية وليست دعوى شخصية ذلك لان المدعي في هذه الدعوى قد يكون فرد أو هيئة من هيئات الدولة والمدعي عليه هو القانون المشكوك في دستوريته ويشترط من يرفع الدعوى أمام القضاء أن يتوفر ( شرط المصلحة ) أي أن يكون قد أصابه ضرر أو يتحمل ذلك فيما لو طبق القانون عليه .
وتتضمن الدعوى مطالبة المحكمة المختصة للحكم بالإبطال أو إلغاء ذلك القانون كونه يتعارض مع أحكام الدستور .
والمحكمة التي تنظر في هذه الدعوى تتصدى للبحث مشكلة دستورية القانون فتتحقق من مطابقة أو عدم مطابقة القانون للدستور .
فإذا خلصت المحكمة إلى أن القانون – موضوع الطعن – يتطابق مع نصوص الدستور ، فان الدعوى ، تكون حينئذ ، قد أقيمت على غير سند ويتعين في هذه الحالة على المحكمة أن تقضي برفض الدعوى أما إذا انتهت المحكمة إلى أن القانون المطعون في دستوريته يخالف أحكام الدستور أصدرت حكمها بإلغاء القانون .
ويكون حكم الإلغاء الصادر عنها ذو حجية مطلقة تجاه الكافة وهذا يؤدي إلى حزم النزاع حول دستورية القانون بصورة نهائية فلا يسمح بالمستقبل بإثارة هذا الموضوع مرة ثانية أمام القضاء .
وتختلف الدساتير في الأثر المترتب على إلغاء القانون المخالف للدستور
فبعض الدساتير تأخذ بالأثر الفوري والمباشر إذا تعتبر القانون غير الدستوري ملغيا من تاريخ صدور القرار المحكمة بعدم دستوريته وقد اخذ بهذا الاتجاه الدستور العراقي عام 1925 إذ نصت في المادة ( 86/1) على انه يترتب على قرار المحكمة العليا باعتبار احد القوانين أو بعض أحكامه مخالفا للدستور وإلغاء ذلك القانون أو جزء المخالف منه ابتداء من تاريخ صدور قرار المحكمة .
وتبنى ذات الاتجاه في الدستور التركي عام 1991 حيث نص المادة ( 152) على إن الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية بإبطال القانون لمخالفته للدستور لا يكون لها اثر رجعي بل يمكن للمحكمة – في حالات الضرورة – أن تقرر استمرار العمل بالقانون الذي حكمت بالغاءه إلى تاريخ لاحق قد يصل إلى ستة أشهر من تاريخ النطق بالحكم
– أما البعض الآخر من الدساتير تأخذ بالأثر الرجعي . فتعتبر القانون غير الدستوري ، ملغيا من تاريخ صدوره ، أي تجعل الأثر المترتب على إلغاء القانون ، رجعيا ، يرتد إلى تاريخ صدور القانون . وقد اخذ بهذا الاتجاه الدستور الياباني الصادر عام 1946 والدستور الصيني الصادر عام 1947 .
ونظرا لخطورة رقابة الإلغاء ، فان الاختصاص بنظرها لا يترك لكل قضاة في الدولة وإنما يعهد بها إلى محكمة معينة .
وتختلف الدول فيما بينها من حيث تحديد المحكمة مختصة بالنظر في مشكلة دستورية القوانين . وبصفة عامة ، فان هناك اتجاهين رئيسين :
– الاتجاه الأول : يعهد باختصاص الرقابة على دستورية القوانين إلى المحكمة العليا في النظام القضائي العادي فتمارس هذه المحكمة مهمة الرقابة على دستورية القوانين عن طريق الدعوى الأصلية إلى جانب اختصاصاتها القضائية الأخرى التي يحددها القانون . وقد اخذ في هذا الاتجاه الدستور السويسري عام 1874 ، حيث أناط مهمة الرقابة بــــ ( المحكمة العليا الاتحادية ) وتبنى ذات النهج ، دستور كولومبيا لعام 1886 ، ودستور فنزويلا لعام 1931 ، ودستور كوبا 1934 .
– الاتجاه الثاني : يعهد باختصاص الرقابة على دستورية القوانين ، إلى محكمة دستورية خاصة حيث ينشأ الدستور محكمة متخصصة في مراقبة دستورية القوانين ، وتسمى هذه المحكمة غالبا بـ (المحكمة الدستورية ) ، وتختص دون سواها بالحكم في الدعاوى الأصلية بطلب إلغاء القانون المخالف للدستور .
من أمثلة الدساتير التي تبنت هذا الاتجاه الدستور النمساوي عام 1920 والدستور الاسباني لعام 1931 والدستور الايطالي لعام 1947 وكذلك الدستور العراقي 1925 .
والتساؤل الذي يثار : عن أصحاب الحق في تحريك الدعوى الدستورية ؟
تتباين الاتجاهات الدستورية بشأن من يمتلك الحق في إثارة الدعوى الدستورية فنجد إن بعض الدساتير قد منحت هذا الحق للأفراد وبعض الدساتير تقصر حق رفع دعوى دستورية على هيئات معنية وتحرم للأفراد من حق الطعن
الاتجاه الأول :يمنح الإفراد حق تحريك الرقابة القضائية :
أقرت بعض الدساتير منح الإفراد حق اللجوء إلى القضاء في أي قانون لمخالفته للدستور.
ومن ذلك دستور كوبا لعام 1943حيث نص على إن تختص المحكمة العليا بالفصل في الطعون المرفوعة إليها من قبل الإفراد بعدم دستورية القوانين أو القرارات الصادرة من السلطات الأخرى
كما اخذ هذه الاتجاه أيضا الدستور الاسباني لعام 1931 حيث أعطى المحكمة الضمانات الدستورية البحث في الطعون المقدمة من قبل الأفراد للفصل في مدى دستورية احد القوانين دون أن يشترط وجود مصلحة خاص للطاعن مما حدا لبعض إلى تسمية دعوى فحص الدستورية بــ ( الدعوى الشعبية للمحافظة على الدستور)
ومن الدساتير العربية التي تبنت هذا النهج الدستور السوداني لعام 1973 حيث نصت المادة (58) منه على انه يجوز لأي شخص أضير من جراء أي تشريع أصدرته أي سلطات ذات اختصاص تشريعي أن يرفع دعوى أمام المحكمة العليا لإعلان بطلانه بسبب إهداره للحريات والحقوق التي كفلها هذا الدستور
الاتجاه الثاني : يمنح هيئات دولية حق تحريك الرقابة القضائية :
أقرت بعض الدساتير منح هيئات الدولة حق رفع الدعوى الدستورية وحرمان الأفراد من حق الطعن ومن أمثلة ذلك دستور النمسا لعام 1920 والمعدل عام 1945 إذ جعل هذا الدستور حق رفع الدعوى الدستورية مقصورا على الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية كما أعطى للمحكمة الدستورية نفسها الحق في ذلك وفقا لشروط خاصة
ولقد سار في هذا الاتجاه دستور تركيا عام 1961 حيث جعل الحق في رفع الدعوى الدستورية أمام المحكمة الدستورية لرئيس الجمهورية وللأحزاب السياسية التي تحصل في آخر انتخابات عامة على نسبة تعادل عشرة في المائة على الأقل من مجموع الأصوات الصحيحة أو التي يكون لها ممثلون في المجلس الوطني الكبير أو لهيئاتها البرلمانية ولعدد من الأعضاء لا يقل عن سدس مجموع أعضاء احد المجلسين التشريعين وكذلك إلى أعضاء مجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض ومجلس الدولة ومحكمة النقض العسكرية والجامعات في كل ما يتعلق بكيانها ووظيفتها وتبنى ذات النهج الدستوري اليوغسلافي لعام 1974 إذ قصر تحريك الدعوى أمام المحكمة الدستورية على بعض الهيئات كالبرلمان والرئاسة والمجلس التنفيذي والمحكمة الدستورية والنائب العام والمحامي الاشتراكي ووحدات العمل والسكرتير ومرفق الحسابات
ومن أمثلة الدساتير العربية التي سارت على هذا المنوال الدستور السوري لعام 1950 حيث كان يقصر حق الطعن أمام المحكمة العليا في القوانين المخالفة للدستور على رئيس الجمهورية وربع أعضاء مجلس النواب ولا شك أن إيكال حق الطعن لبعض الهيئات العامة وحرمان الأفراد منه يقلل من أهمية الرقابة كوسيلة لحماية تطبيق الدستور ذلك إن هذه الهيئات العامة التي يناط بها الطعن في دستورية القانون فقد تجد من مصلحتها عدم إثارة الطعن ما دام القانون يتفق مع رغباتها وأهدافها .
– الرقابة القضائية السابقة عن الدعوى الأصلية
إن الرقابة القضائية قد تكون رقابة سابقة على إصدار القانون فتمارس على القانون وهو في مرحلة التكوين أي في الفترة بعد سنة من البرلمان وقبل إصداره من رئيس الدولة الرقابة القضائية السابقة تعني إن الدستور قد حدد هيئة قضائية معينة يجوز أن يرفع أمامها قانون معين قبل إصداره(أي مشروع قانوني ) للبحث في دستوريته ومدى مطابقته لأحكام الدستور ويكون لهذه الهيئة سلطة إلغاء مشروع القانون إذ اتضح لها مخالفته للأحكام وقواعد الدستور .
وحق تحريك هذه الرقابة يعود عادة إلى هيئة من هيئات الدولة ولا يحق للأفراد ذلك لان القانون لم يصدر بعد .
ويلاحظ إن الاتجاه الغالب في الدساتير يكفل لرئيس الدولة أي لهيئة عامة حق تحريك الرقابة الدستورية فتجيز لرئيس الدولة إحالة مشروع القانون إلى المحكمة المختصة قبل إصداره لبحث مدى موافقته وتطابقه مع الأحكام الواردة في نصوص الدستور وفي هذه الحالة يتوقف مصير مشروع القانون على حكم المحكمة فإذا قضت بعدم دستوريته أي بمخالفة لأحكام الدستور يتوجب على رئيس الدولة الامتناع عن إصداره وأصبح مشروع القانون في حكم العدم أي كان لم يكن .
ومن الأمثلة الدساتير التي منحت حق طلب فحص الدستورية لرئيس الدولة الدستور الايرلندي الصادر عام 1937 فقد ذهب هذا الدستور إلى إعطاء رئيس الدولة بعد استشارت مجلس الدولة الحق في أن يحيل مشروع القانون قبل إصداره إلى ( المحكمة العليا ) أن تصدر حكمها في موعد لا يتجاوز ستين يوما من تاريخ إحالة مشروع القانون إليها لفحص دستوريته ويتوقف مصير مشروع القانون على الحكم الصادر من
المحكمة العليا فان قضت بدستوريته أمكن أن تستكمل الإجراءات اللازمة لنفاذه وان قضت بعدم دستوريته امتنع على رئيس الدولة إصداره .
تقدير الرقابة القضائية عن طريق الدعوى المباشرة:
تمتاز الرقابة القضائية بطريقة الدعوى المباشرة بأنها تناط إلى جهة قضائية واحدة سواء كانت أعلى هيئة قضائية في ألدوله أو محكمه متخصصة وهذا يؤدي إلى حدة الحلول القضائية بشأن دستورية القوانين وذلك لان المحكمة المكلفة بالنظر في دستورية قانون معين تصدر حكماً بشأنه سلباً أو إيجاباً وفي كلتا الحالتين لايمكن إثارة مسالة دستورية ذلك القانون مرة ثانية لان قرارها يتمتع بحجية مطلقة لكونه يسري تجاه الكافة.
وكذلك فأن ممارسة الرقابة من قبل محكمه مختصة من شانه أن يسمح بإدخال العنصر السياسي في تشكيلها الأمر الذي لايمكن المحكمة من تقدير الاعتبارات ألسياسيه فضلا عن الاعتبارات القانونية .
غير إن هذه الرقابة انتقلت من جانب الفقه الدستوري حيث إنها تمثل خروج على حدود مهمة القضاء وتؤدي إلى تدخله في العمل التشريعي مما يعتبر مساساً بمبدأ الفصل بين السلطات هذا وان منح المحكمة سلطة إلغاء القانون إذا اقتنعت بأنه غير دستوري يعطيها مركزاً قوياً ونفوذاً كبيراً اتجاه سلطات الدولة الأخرى وبخاصة اتجاه السلطة التشريعية .
ب – الرقابة القضائية عن طريق الدفع بعدم الدستورية(رقابة الامتناع):
لئن كانت الرقابة القضائية عن طريق الدعوى المباشرة تعد وسيله هجومية تهدف إلى إلغاء القانون المخالف للدستور فأن الرقابة عن طريق الدفع بعدم الدستورية تعد وسيله دفاعية تهدف إلى التخلص من تطبيق القانون المخالف للدستور.
ويفترض إسلوب الرقابة بطريق الدفع بعدم الدستور وجود قضية منظوره أمام المحكمة (سواء كانت هذه القضية ذات طبيعة مدنية أو تجارية أو جنائية أو إدارية أو متعلقة للأحوال الشخصية ) وفي أثناء النظر في هذه القضية يثير احد أطراف الدعوى – المتهم أو المدعى علية-كوسيلة للدفاع, بان القانون المراد تطبيقه على النزاع لا يتماشى مع أحكام الدستور وبالتالي فهو غير جدير بالتطبيق أي يدفع بعدم دستورية القانون
ويعتبر اختصاص ألمحكمه في النظر بدستورية القانون في هذه ألحاله متفرع عن الدعوى الأصلية المنظورة أمامها أي إن فحص مدى اتفاق أو اعدم اتفاق القانون مع أحكام الدستور يكون بطريق عارض
ويلاحظ انه ما دامت ألرقابه تمارس عن طريق الدفع الفرعي فان إثارة مدى دستورية القانون لا يتقيد بمدة معينه لان الدفع بعدم الدستورية يجوز إثارته متى حانت مناسبة أياً كانت المدة التي انقضت على صدور القانون وتتولى ألمحكمه مهمة التحقق من صحة الدفع المثار أمامها فإذا انتهت ألمحكمه من فحصها للقانون المدفوع بعدم الدستورية – إلى انه مطابق لأحكام الدستور قضت برفض الذي تقدم به الخصم واستمرت في نظر موضوع الدعوى وأصدرت حكمها إما إذا تبين للمحكمة صحة هذا الدفاع وان القانون يتضمن مخالفة لأحكام الدستور أي إن القانون غير دستوري امتنعت ألمحكمه من تطبيق في القضية المعروضة أمامها وفصلت في الدعوى تبعاً لذلك ولا تمتلك ألمحكمه في هذا النوع من الرقابة حق إلغاء القانون ذلك لان إلغاء أو تعديل القانون يكون من اختصاص السلطة التشريعية
ولهذا السبب تسمى هذه الرقابة برقابة امتناع وقرار ألمحكمه بالامتناع عن تطبيق القانون يتمتع بحجية بنسبية إن أثره يقتصر على الدعوى الصادرة بشأنها ذلك لان المحكمة لاتقضي بإلغاء القانون أو بطلانه وإنما تمتنع فقد في تطبيق القضية المنظورة أمامها إذ تبين لها مخالفه لأحكام الدستور ويترتب على ذلك إن يظل القانون سارياً ونافذ المفعول خارج دائرة هذه الدعوى أي في سائر الحالات الأخرى ومن ثم يجوز للمحاكم الأخرى حين يعرض عليها نزاع مماثل يثير تطبيق القانون نفسه أن تعتد به كقانون دستوري إذ كانت وجهة نظرها إنه مطابقة لأحكام
الدستور كما إن هذا القرار لايقيد حتى ذات المحكمة التي أصدرته في أحكامها اللاحقة فليس هناك ما يمنع من الناحية النظرية نفس المحكمة من تطبيق نفس القانون في قضية أخرى مشابه إذ لم يدفع احد الخصوم بعدم الدستورية وتكون جميع المحاكم مختصة بأجراء رقابة الامتناع بطريق الدفع على اختلاف أنواعها (مدنية تجارية جنائية) وعلى اختلاف درجاتها والرقابة بطريقة الدفاع بعدم الدستورية (رقابة الامتناع) لا تتطلب وجود نص دستوري يصرح بها وينظمها فسكوت المشرع الدستوري عن تنظيمها لا يمنع عن قيامها
ج- ألرقابه عن طريق الدفاع المقترن بدعوى عدم الدستورية
رأينا كيف تتحقق الرقابة القضائية لدستورية القوانين عن طريق الدعوى المباشرة وكذلك بطريق الدفاع بعدم الدستور غير إن الدساتير قد عملت على الجميع بين هذين الطريقين المزج بينهما عند بحث القضاء دستورية القوانين وتطبيقاً لطريق الجمع أو المزج بين إسلوب الدعوى المباشرة أو إسلوب الدفع بعدم الدستورية فأنه يمكن أثناء نظر دعوى قضائية يراد فيها تطبيق قانون معين أن يدفع احد أفراد الدعوى بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه في هذه الدعوى
ويكون هذا الدفاع أمام ذات المحكمة التي تنظر الدعوى وهنا لاتتعرض المحكمة للفصل في هذا الدفع بالتوقف نظر الدعوى ومجال الطعن بعدم دستورية القانون إلى محكمة أخرى ينص عليها الدستور تختص بالفصل في دستورية القوانين .
وتجعل الدساتير للحكم الصادر من المحكمة بعدم دستورية القانون قوة إلغاء ذلك القانون ويكون للحكم الصادر من هذه المحكمة حجية مطلقة تجاه الكافة الأمر الذي يملي ضرورة نشر أحكام هذه المحكمة بذات الأسلوب الذي تنشر فيه القوانين العادية ولقد قرر الدستور الايطالي لعام 1947 إسلوب الجمع بين الدعوى المباشرة والدفع بعد الدستورية فإذا أثار احد الأفراد طعنا بعد دستورية قانون ما يراد تطبيقه عليه في صدى دعوى مرفوعة وتبين للمحكمة أن الفصل في الدستورية لازم للفصل في الدعوى وان الدفع ظاهر الجدية تعين عليها أن توقف الفصل في الدعوى وتحيل الدفع إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه .
كما يجيز الدستور الايطالي لأي محكمة أن تثير مسألة الدستورية من تلقاء نفسها إذا ما تشككت في دستورية قانون واجب التطبيق على واقعة الذكرى التي تنظرها وأرادت أن الحكم في الدعوى يتوقف على الفصل في دستوريته وفي هذه الحالة يكون على المحكمة أن توقف الدعوى وان تحيل مسألة الدستورية بقرار مسبب إلى المحكمة الدستورية ويكون الحكم المحكمة الدستورية الصادر في هذا الخصوص حجية مطلقة وملغيا للقانون ولذا اوجب الدستور الايطالي نشر هذه الأحكام بالجريدة الرسمية ووقف نفاذ القوانين المقضي بعدم دستوريتها في اليوم التالي لنشر الأحكام الصادرة بشأنها
أساليب الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية.
.
تمارس الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة الأساليب الثلاث الآتية :.
الأسلوب الأول : الدفع بعدم الدستورية.
الأسلوب الثاني : الأمر القضائي .
الأسلوب الثالث : الحكم التقريري
والجدير بالذكر إن هذه الأساليب المشار إليها لم يرد بشأنها نص في الدستور الأمريكي الصادر عام 1787 وإنما يرجع الفضل في نشأتها إلى الأحكام القضائية فأسلوب الدفع الفرعي مثلا نشأ نتيجة اقتناع القضاة بان توليهم الفصل في الدفع بعد الدستورية إنما يمثل جزء من وظيفتهم الأساسية كقضاة والتي تمثل في النظر في الدعوى والفصل فيها كما إن أسلوبي الأمر القضائي والحكم التقريري يرجع الفضل كذلك في إقرارها إلى القضاة
اترك تعليقاً