النظم السياسية في ضوء النظريات الدستورية المختلفة
إن الدولة العربية المعاصرة إذا ما مثلت أمام محكمة التاريخ، ونشرت سجلاتها بما تتضمنه من وقائع سياسية وإنجازات اقتصادية، ومبادرات ثقافية، فقد يتبين فقرها الشديد في مجال الإنجاز الديمقراطي، لأن غيوم الشمولية والسلطوية قد سيطرت على المناخ السياسي العربي طوال الخمسين عاماً الماضية. ومن هنا الحاجة الماسة إلى التحول الديمقراطي.
أما في المجال الاقتصادي فهناك إنجازات ملموسة، في مجال البنية التحتية، وإقامة بعض المشاريع التنموية الفعالية في ضوء قصور في النظرة الشاملة. أما في الجانب الثقافي فيكفي أن نشير إلى أن نسبة الأمية في المجتمع العربي تكاد تصل إلى 40%، مما يمثل سلبية خطيرة في مجال التنمية الاجتماعية.
إنها تحديات كبرى تواجه الدولة العربية المعاصرة، ترى كيف ستكون الاستجابة؟ النظم السياسية المعاصرة والقانون الدستوري ونظام الدولة والحكم في الإسلام تخضع الأنظمة القانونية والسياسية في انتماءاتها الغربية أو الشرقية ونوعية المذهبية الاجتماعية والاقتصادية السائدة فيها رأسمالية كانت أم اشتراكية وأيا ما كان أساس مشروعية ممارسة السلطة ومصدرها فيها فرديا أو طائفيا أو ديمقراطيا تخضع تطبيقا لمبدأ سيادة القانون والشرعية للأحكام قانون أساسي تختلف نوعية ودرجة إلزام وقوة قواعده من دوله إلي دولة أخري بحسب ظروف وفلسفة كل منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة فيها
وذلك بوصفة الأساس الوحيد الذي يمكن التسليم به أو قبوله لشرعية تلك الأنظمة في وقتنا الحاضر وتعد هذه القواعد القانونية الأساسية المحددة لكيفية مهام التنظيمات السياسية والقانونية أمرا ملزما لكافة المواطنين دون استثناء وعلي قدم المساواة حكاما كانوا أم محكومين وتكون القواعد القانونية الأساسية في مجموعها ما اصطلح علي تسميته بدستور الدولة أو النظام القانوني الأساسي لها وهو ما يقابل تماما في عبارة أخري القواعد التي ينطوي عليها ذلك الفرع الداخلي من فروع القانون العام والمسمي بالقانون الدستوري والذي تتبلور وظيفته
من ناحية أولي في تحديد مصدر السلطة وإشكال ممارستها في الدولة
ومن ناحية ثانية في كيفية إنشاء السلطات العامة بفروعها المختلفة تركيبا ووظيفيا فضلا عن توزيع كافة مظاهر السلطة السيادية العليا فيما بينها
ومن ناحية ثالثة وأخيرة إقرار ما يتمتع بة الأفراد بوصفهم هذا وباعتبارهم أعضاء في مجتمع الدولة من حقوق وحريات أساسية وما يتحملون بة من واجبات وإذن فالدستور أو القوانين الأساسية المطبقة في الدولة يجد كل منها الاهتمام التنظيمي له في إطار قواعد القانون الدستوري ذلك الفرع الداخلي البالغ الأهمية للقانون العام غير أم مناهج البحث والتحليل التي يتناول في ضوئها أساتذة القانون الدستوري والأنظمة السياسية جوانب هذا القانون بهدف تقديمها سهلة ميسرة إلي المهتمين بدراستها قد اختلفت وتعددت فعلي حين يتطرق البعض منهم إلي البحث في هذه المادة بوصفها ذات شقين منفصلين تماما عن بعضها
أولهما خاص بنوع من الدراسة القانونية الخالصة إلا وهو القانون الدستوري
وثانيهما متعلق بدراسة قانونية نظرية وتطبيقية في أن واحد إلا وهو الأنظمة السياسية تجد إن البعض الأخر من الفقهاء يتناول هذه المادة من وجهة نظر إجمالية أي باعتبارها كل لا يتجزأ غير قابل للانقسام بل إن من بين أصحاب الاتجاهين السابقين من يقتصر بحثه علي مجرد الاستعراض الأكاديمي للنصوص والقواعد المتعلقة بالدستور أو النظم السياسية الواردة بالقوانين الأساسية والاكتفاء بمجرد التعليق عليها هذا في الوقت الذي يتطرق فيه البعض الأخر إلي أفاق الدراسة والتحليلي للأوضاع العملية المترتبة علي تطبيق القوالب للقانونية وتقييمها في ضوء عملتي حساب المزايا والعيوب التي تكشف عنها هذا التطبيق موسعين بذلك من إطار النظرة التحليلية لكل من القانون الدستوري والنظم السياسية وبالنسبة للنظم السياسية
فقد كان يقصد بها أشكال الدولة المختلفة التي تباشر السلطة في المجتمعات الإنسانية وكانت دراسة النظم السياسية تتركز في تحديد شكل الدولة ونوع الحكومة ولا تتعدي ذلك إلي البحث في مجالات نشاط السلطة والجوانب الاجتماعية والاقتصادية لها النشاط ولقد كان هذا التحديد مقبولا نظرا لانحصار مجال نشاط السلطة العامة في نطاق ضيق يتمثل في الأمن الخارجي والداخلي وإقامة العدل بين الأفراد أما في وقتنا الحاضر فقد اتسعت مجالات السلطة العامة وتدخلت الدولة الحديثة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ونافست النشاط الفردي في هذه المجالات ولهذا لم يعد النشاط السياسي مرادفا لشكل الحكومة وعلي هذا الأساس فان دراسة النظم السياسية الآن لا تنحصر في الموضوعات السابقة بل أصبحت تهتم بدراسة المنظمات الموجودة في الواقع بجوار المنظمات الرسمية كالأحزاب السياسية وجماعات الضغط
كما أن دراسة المنظمات الرسمية لم تعد تقتصر علي الجوانب القانونية لها وإنما امتد إلي تحليل أسلوب عملها في الواقع وأهميتها الحقيقية ومكانتها ودورها في داخل المجتمع هذا بالإضافة إلي دراسة وتحليل فلسفة النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة الذي يحدد في حقيقة الأمر نظام الدولة السياسي وهكذا أضحي نطاق دراسة النظم السياسية شاملا للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والظروف الواقعية والمؤثرات الفكرية بجوار القواعد القانونية النظرية الخاصة بنظام الدولة وبناء علي ذلك
فان مدلول النظم السياسية أصبح أكثر اتساعا من مدلول القانون الدستوري الذي تتركز الدراسة فيه علي نظام الحكم في الدولة من الناحية القانونية المجردة ثم سيكون بحثنا بحث مقارن بين النظم السياسية المعاصرة في ضوء النظريات القانونية الدستورية مع نظام الحكم والدولة في الإسلام : حيث أرسل الله سبحانه وتعالي رسوله محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم برسالة الإسلام إلي الناس كافة باعتبارها خاتمة الرسائل السماوية إلي الأرض
وأنة خاتم النبيين وأخر المرسلين ولذلك جاءت هذه الرسالة كاملة شاملة تتضمن العقيدة والشريعة والدين والدولة والعبادة والسياسة ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ( 19/اله عمران/7/المائدة/110/الةعمران/ ومن هذا المنطلق حملت طبيعة الإسلام وجوهر الرسالة المحمدية في مضمونها منشأ الدولة الإسلامية لان الله عز وجل عندما بعث بمحمد صلي الله علية وسلم ليدعو الناس إلي عبادة الواحد القهار
إنما أراد بذلك إن يظهر دين الله علي الدين كله وان تقوم الدولة الإسلامية بعد ذلك إما خطوات قيام هذه الدولة ومتى جاء إذن الله سبحانه وتعالي بقيامها فيكاد يجمع علماء المسلمين وفقهائهم علي أن بيعتا العقبة الأولي والثانية تمثلان بداية إنشاء الدولة الإسلامية فمن المعروف إن الرسول صلي الله علية وسلم مكث في مكة أكثر من عشر سنوات يدعو قومه إلي الإسلام وكانت وسيلته في ذلك التسامح والصبر علي الاذي والصفح عن الجاهلين ( وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) ( النحل/ 127) وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( الفرقان 162 )
وهكذا ترجع نشأة الدولة الإسلامية ويعود أساس السلطة السياسية فيها إلي إرادة الله عز وجل عندما بعث رسوله الأمين إلي الناس أجمعين مبشرا ونذيرا وداعيا إلي الله بآذنة وسراجا منيرا وبذلك تنفرد الدولة الإسلامية بنشأة خاصة تتميز بها وتختلف بها وتختلف عن كافة النظريات السابق عرضها سواء العقدية منها أو غير العقدية أما تولي خلفاء رسول الله صلي الله علية لرئاسة الدولة من بعد وفاته فقد تم عن طريق البيعة أي بيعة الخلافة
ويكيف فقهاء الشريعة الإسلامية البيعة علي أنها عقد لأنها تتم بناء علي رضا الأمة الممثلة في أهل الحد والعقد وقيامهم باختيار الإمام في مقابل قيامة بالالتزامات الواقعة علي عاتقة وتتلخص في حراسة الدين وسياسية الدنيا وعلي الرغم مما يبدوا للوهلة الأولي من اختلاف منهجي بين أصحاب الاتجاهات السابقة وما يقدمه كل منهم من أدلة وبراهين مؤيدة لوجهة نظرة فيه إلا أنة اختلاف شكلي في تقديرنا يجب إلا يصل بنا إلي حد تجاهل الاقتران القائم بين ركني المادة القانون الدستوري والنظم السياسية وأنة يتعين علي كل باحث فيها أن يدخل في حسابه عند تحليلها صعوبة الفصل فيما بين الموضوعات المتدخلة المتدرجة فيها
ومما يؤكد صحة هذا النظر ما هو مسلم بة دون معارضة من أن دراسة النظم السياسية وبخاصة في وقتنا الحاضر أمر لا يمكن أجراءة إلا في إطار الدولة ذلك المخلوق القانوني السياسي المستقل الذي بداخلة خلق وتطبيق قواعد القانون بصفة عامة والقانون الدستوري بصفة خاصة فـإن الدستور أو القانون الدستوري فـرع من فـروع القانون العام، والدستور لأي دولة كـانت يعبر عن فكر تلك الدولة واتجـاهها الديني والاجتماعي؛ لأن الدستور هو القانون المهيمن، والموجه لقوانين تلك الدولة ونظمها.
وهذه الأهمية للدستور أحد الأسباب التي دفـعتني لهذا البـحث، وبخاصة معالجـته من الناحية الإسلامية ومحاولة توضيح أسس الأحكام الدستورية في الشريعة الإسلامية، ومن ثم دراسة لبعض تطبيقاتها منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول إلى عصرنا الحاضر. وما من شك في أن بحث موضوع كهذا من هذه الزاوية من الأهمية بمكان، لأهمية الأحكام الدستورية بين الأحكـام والنظم الأخرى، ولأهمية دراسة الدستور في الإسلام وذلك بتحديد قواعده، مما يسهم في إثراء البحث العلمي في الشريعة الإسلامية في العصر الراهن، سواء من ناحية تبيين ما عليه الشريعة الإسلامية في هذا المجال، أم من ناحية الدراسات المقارنة.
ولذلك كان اختيار موضوع ” الدستور الإسلامي “ من ضمن هذا البحث المقارن الذي حاولت فيه تبيين وجهة النظر القانونية البحتة للدستور، ثم تبيين وجهة النظر في الإسـلام، بحـيث يجـمع البـحث بين الدراسـة القـانونيـة والشـرعيـة، واستعراض الواقـع الدستوري للدولة الإسلامية على مر عصورها من خلال دراسة بعض الوقائع الدستورية في التاريخ الإسلامي. والحقيقة أن البحث في الأحكام الدستورية الإسلامية ليس جديدا ومستحدثا، فـالفقهاء المسلمون القدامى بحثوا هذا الموضوع وبينوا تلك الأحكام في مختلف أبواب الفقه وكتب السياسة الشرعية.
وقد تقدمت الدراسات الدستورية والقانونية في هذا الوقت وأصبحت لها أبحاث ودراسات مستقلة مما يتطلب من الباحثين والمفكرين المسلمين المعـاصـرين أن يؤصلوا الدراسـات الدستورية، ويبـينوا وجـهة النظر الإسلامية ويستنبطوا الأحكام للوقائع المستجدة، وإذا نظر الباحث إلى الدراسات الدستورية المعاصرة، يجد أن الذين تعرضوا لهذا الموضوع، منهم من يغلب عليه الطابع القانوني البـحت، ومنهم من يعرض الموضوع بشكل عام دون تفصيل، ومنهم من يبـحث جـزئيات من الموضوع عند دراسة النظام السياسي الإسلامي، مما يجعل سير الباحث في هذا الطريق صعبا وشاقا.
إن أهم مصادر هذا البحث تتركز في كتب السياسة الشرعية، والكتب والدراسات الدستورية والقانونية الوضعية، والكتب المعاصرة التي تبـحث في النظام السياسي، بالإضافـة إلى الوثائق والنصوص المشتملة على بعض القوانين والنظم المطبقة في بعض البلدان. ومن أهم الصـعوبات التي واجـهتها في هذا البـحث، قلة المراجع الحديثة التي تخدم موضوع البحث، وبخاصة الدراسات التي تبحث في النظام الدستوري الإسلامي بحثا مقارنا مع النظم الوضعية، أو تلك التي تؤصل للنظام الدستوري الإسلامي وتبين أحكامه وقواعده من مصادره ومظانه الأصلية من الكتاب والسنة وما سطره علماء المسلمين الأوائل في هذا المجال.
كما أن حساسية البحث في الموضوع تشكل عائقا أمام الباحث في هذا المجال؛ نظرا لخطورة الموضوعات والمباحث التي تتعلق بهذا الجانب ودقتها. ولقد حاولت أن أقدم هذا الموضوع بشكل متكامل، جامعا فيه خلاصة ما اطلعت عليه مما كتبه الآخرون، محللا لبعض آرائهم، ولا أزعم أنني أعطيت الموضوع حـقه كاملا، ولعل عذري في ذلك أن الموضوع لا يزال بكرا، ولم يحظ بدراسات علمية شاملة وعميقة، ولكنني حاولت وبجهد المقل أن يكون البحث شاملا، بقدر الاستطاعة وكم تمنيت أني قد توصلت إلى نتائج أكبر مما كان.
والمجال متسع للباحثين فيما بعد لاستكمال البحث في هذا الموضوع، والتوسع فيه، والعناية به بشكل أكبر. ولقد ابتعدت قدر الإمكان عن العاطفة الشخصية والآراء المسبقة ما استطعت إلى ذلك سبيـلا، واستخـدمت عدة مناهج علمية حسب ما اقتضته طبيعة البحث، فاستخدمت المنهج التاريخي فيما كان له الطابع التاريـخي من البحث، أو نسق من أقوال العلماء، ثم التحليل على أساس تلك القاعدة، أو ذلك النسق، واستخـدمت المنهج المقارن عند الحـاجـة لمقارنة الآراء والحجج مع بعضها.
ولقد تم عزو الآيات القرآنية إلى سورها وتخريج الأحاديث النبوية التي تم الاستشهاد بها في هذا البحث، كما أرجعت الاقتباسات والنقول إلى مراجعها في كل مكان يتم فيه الاقتباس أو النقل، وأثبت أهم المراجع في فهرس مستقل في آخر الكتاب.
وبعد: حسبي أني قدمت ما استطعت من جهد ووقت لإخـراج هذا البحث، سائلا الله جل وعلا أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصا لوجهه، حاصل القول أن الخلاف الفقهي السابق والدائر حول أسلوب ومنهج تناول مادة القانون الدستوري والنظم السياسية بالبحث هو شكلي لا يقلل في شئ من الارتباط الموضوعي الوثيق القائم بين شطري هذه المادة
ومن ثم فأنة يجب إلا يجوز أهمية تفوق تلك التي يتعين أن تحظي بها المسائل والموضوعات المندرجة في نطاق دراستنا للقانون الدستوري وانظمتة السياسية والتي يجب أن نوجه إليها جل اهتمامنا وعنايتها كي نتمكن من تغطية الجوانب العدية والمتنوعة والمتطورة أبدا لهذه المادة في ضوء ماسبق فسوف تكون خطتنا للبحث القائم ( النظم السياسية في ضوء النظريات الدستورية المختلفة دراسة مقرنة مع نظام الحكم والدولة في الإسلام ) قائم عن منهج البحث التحليلي والمقارن
اترك تعليقاً