موضوع حول أهمية التشريع و مزاياه
مقدمة :
لقد أصبح التشريع في العصر الحديث يحتل مكانة مرموقة في إطار مصادر القانون، فأغلب المجتمعات المتطورة تعتمد عليه بعدما كان العرف و الدين السائدين في القدم، وبذلك أصبحت له الصدارة في هذا الشأن في أغلب القوانين الحديثة و من بينها القوانين المغربية.
فهو المصدر الأصلي العام للقاعدة القانونية، إذ أن القاضي يتعين عليه أن يلجأ إليه أولا للوصول إلى القاعدة التي تطبع النزاع، فلا يمكنه أن يعدل عنه إلى باقي المصادر الأخرى إلا في حالة عدم وجود قاعدة فيه أو إذا أحال هو على مصدر آخر.
و يراد بكونه مصدرا عاما أي أن اختصاصه لا يقتصر على مسائل معينة، بحيث يجب الرجوع إليه أولا في جميع المسائل إلا ما يستثنى من ذلك بالإحالة في شأنه إلى مصدر رسمي آخر[1]، فيعتبر من هذه الناحية المرجع الأول سواء في مسائل المعاملات المالية أو في مسائل الأحوال الشخصية. أما باقي المصادر الرسمية الأخرى، فرغم مكانتها المتميزة، إلا أنها لا تصل مرتبة التشريع.
إن التشريع، كمصدر رسمي للقانون، هو وضع القواعد القانونية في صورة مكتوبة بواسطة السلطة المختصة بذلك. و يطلق اصطلاح التشريع كذلك على القواعد القانونية نفسها التي تضعها هذه السلطة بالذات فيقال مثلا: تشريع العمل، و تشريعات الضرائب، و التشريع الجمركي إلى غير ذلك …
يتضح من هذا التعريف أن ثمة خصائص معينة يجب توافرها فيما يعتبر تشريعا بالمعنى الصحيح:
ـ يتضمن التشريع وضع قاعدة تتوفر فيها خصائص القاعدة القانونية، فلا تعتبر قاعدة تشريعية إلا تلك التي تكون قاعدة سلوك مجردة و عامة.
ذلك أن السلطة التشريعية لا يقتصر عملها على وضع التشريع بهذا المعنى، فقد تصدر قرارات لكن لا تعتبر تشريعات بالمعنى الصحيح.
و على هذا الأساس يميز فريق من الفقهاء بين نوعين من التشريعات تصدرها السلطة التشريعية: تشريعات من حيث الشكل و الموضوع معا، وهي التشريعات بالمعنى الصحيح، إذ تتضمن قواعد مجردة و عامة. و تشريعات من حيث الشكل فحسب، و هي عبارة عن قرارات تصدر في حق شخص معين بذاته أو واقعة معينة بذاتها، فلا تعتبر تشريعات بالمعنى الصحيح، لكونها هذه القواعد لا تتصف بخصوصية العمومية و التجريد، رغم صدورها من السلطة التشريعية.
ـ يصدر التشريع في نصوص مكتوبة، و لذلك يقال له القانون المكتوب، فيعتبر مصدرا للفظ و المعنى معا، و يتوفر له بذلك من التحديد و الوضوح ما يحقق الاستقرار و الأمن في المعاملات. و بذلك يتميز عن العرف الذي يقال له القانون غير المكتوب، فيكون مصدرا للمعنى دون اللفظ مما يحيطه بشيء من الغموض و الإبهام.
و فيما يخص أنواع التشريعات، ليست كلها من نوع واحد، و لكن يوجد هناك أنواع أربعة تتدرج حسب قوتها على النحو الآتي: فيوجد في القمة التشريع الأساسي و هو الدستور، و يليه في المرتبة الثانية القانون التنظيمي، فالتشريع العادي أو الرئيسي، ثم في الأخير التشريع الفرعي.
فمن خلال هذا المنطلق بدأت تتضح مزايا التشريع التي جعلته يحتل هذه المرتبة، لكن بقدر ما للتشريع أهميته ومزاياه ( المطلب الأول)، له أيضا عيوبه حسب آراء البعض الآخرين الذين يعيبون عليه الجمود و يعتبرونه غير قادر على مسايرة المستجدات و آخر التطورات( المطلب الثاني).
المطلب الأول: أهمية التشريع و مزاياه
إذا نظرنا في الجملة إلى تطور المصادر الرسمية للقانون من حيث انتشارها و أهميتها أمكننا أن نقول إن العصور القديمة هي عصور العرف و الدين، و إن العصر الحديث هو عصر التشريع. فقد أضحى التشريع أهم مصدر في القوانين الحديثة حيث ساعد على ذلك عوامل مختلفة، فضلا عن المزايا العديدة التي تجعل للتشريع الأفضلية على جميع المصادر الأخرى.
فمن العوامل التي أدت إلى ازدياد أهمية التشريع أن الدولة في العصر الحديث توطد سلطانها و أصبح لها من سلطة القهر ما يجعلها قادرة على فرض احترام القواعد التشريعية التي تضعها.
كما أن انتشار الديمقراطية أدى إلى الأخذ بمبدأ الفصل بين السلط ، مما جعل السلطة التشريعية تنشط بالقيام في وظيفتها.
و بالإضافة إلى ذلك فإن اعتناق المذهب الاشتراكي في الكثير من الدول جعل الدولة تتدخل في كثير من الشؤون التي كانت متروكة من قبل لنشاط الأفراد و حرياتهم، كي توجه أدوات الإنتاج لصالح الشعب و تحمي الطرف الضعيف في العقد و تحول دون التحكم و الاستغلال [2]، و هذه كلها أغراض لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق التنظيم التشريعي.
أما المزايا التي تبرر أن يتبوأ التشريع هذه المكانة فكثيرة، نذكر منها ما يلي:
1ـ سهولة سن التشريع و تعديله: فالتشريع تضعه سلطة مختصة، و بذلك يتم وضع القواعد القانونية بسرعة و سهولة، بحيث يستطيع الشارع أن يبادر إلى مواجهة الأوضاع الجديدة في المجتمع بتنظيمات مستحدثة، كما يكون في وسعه أن يسارع إلى تعديل القواعد القائمة أو إلغائها إذا بدا له أنها أصبحت تتعارض مع هذه الأوضاع، و تلك ميزة تتيح للقانون أن يؤدي وظيفته على نحو يستجيب فيه لحاجات المجتمع بالسرعة التي تتفق مع تطور ضروب النشاط فيه و ازدياده.
2ـ وضع التشريع في نصوص مكتوبة: التشريع تضعه سلطة مختصة في نصوص مكتوبة، فيكون بذلك مصدرا للقاعدة القانونية في لفظها و معناها، و بفضل هذا تأتي القاعدة في صياغة محكمة، يظهر فيها دور الإرادة الواعية المدبرة، و يتوفر لها من التحديد و الضبط ما يكفل الاستقرار و الثقة في المعاملات، حيث يراعى في الحكم الذي تقرره التوفيق بين المصالح المختلفة كما يسهل على الأشخاص التأكد من وجودها و التعرف منها على حقوقهم و واجباتهم.
3ـ التشريع أداة لتوحيد النظام في الدولة: فوضع التشريع بواسطة سلطة مختصة و قدرة الدولة على كفالة طاعته يمكنان من إصدار التشريعات تنفذ في كل إقليم الدولة، و بذلك يؤدي التشريع إلى توحيد النظام في الدولة فيكون عاملا تحقيق الوحدة القومية و زيادة التضامن بين أجزاء الأمة الواحدة.
4ـ التشريع أداة لتطوير المجتمع: فبفضل التشريع لا تقتصر وظيفة القانون على تنظيم الحياة الاجتماعية بالصورة التي يتجه إليها نشاط الأفراد في المجتمع، فهناك ألوان من النظم و مبادئ ينادي بها المصلحون أو يقتبسونها من خارج بيئتهم، و يرون فيها صلاحا لبلادهم ونهوضا بها، و مثل هذه النظم و المبادئ لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التشريع.
و بذلك يصبح القانون أداة لتطوير المجتمع و توجيهه الوجهة التي تكفل له النهوض و التقدم، و آية ذلك ما نراه اليوم من تدخل الشارع على نطاق واسع في ظل النظام الاشتراكي الذي أخذ ينتشر في الوقت الحاضر، كي يزيل الفوارق بين طبقات الشعب، و يحول دون الاستغلال و التحكم، ويحقق تكافؤ الفرص أمام الجميع و هذه كلها أغراض لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق التشريع.
المطلب الثاني: الجمود كأهم عيوب التشريع
يعاب على التشريع أن السلطة التي تختص بوضعه قد لا توفق في تبين ظروف المجتمع وتقدير حاجاته فتأتي القواعد التي تسنها غير ملائمة لتلك الظروف و قاصرة على الوفاء بهذه الحاجات. بل إنه إذا جاءت القواعد التشريعية حين وضعها ملائمة لظروف المجتمع فإن صبها في نصوص مكتوبة تحدد مدلولها و ترسم حدودها، يضفي عليها من الجمود ما يقف بها عن مسايرة التطور و الوفاء بما يجد من حاجات، فإذا ما تغيرت هذه الظروف أصبحت تلك القواعد غير ملائمة لها، و قد يقعد الشارع عن تعديلها على النحو الذي يستجيب لمقتضيات التطور.
و هذا ما جعل أصحاب النظرية التاريخية التي يعد سـاڨـيـني [3] أهم روادها، تنظر إلى التشريع نظرة المستريب، حيث ترى أن القواعد القانونية يجب أن تنشأ و تتطور بفعل المجتمع المباشر وتبعا لتطوره ذاته كما هو شأن اللغة و التقاليد.
فتعتبر في الوقت نفسه أن خير مصدر لهذه القواعد هو العرف لأنه يتبع المجتمع في تطوره و يخضع له، أما التشريع بإقراره قواعد ثابتة معينة، يحد من التطور الطبيعي للقانون و يعيق تقدمه.
غير أنه هناك نوعا من المغالاة في اعتبار أن التشريع يعيق دوما تطور القانون خاصة في عصرنا الحاضر الذي أصبح من السهل فيه إصدار تشريعات مختلفة في شتى المناسبات و وفقا لتطور الحاجات الاجتماعية، كما أنه من الخطأ القول أن التشريع يجب أن يقتصر فقط على إقرار الأعراف و تبنيها إذ كثيرا ما نجد أن التشريع يأتي في بعض الأحيان ليعدل من هذه الأعراف أو ليلغيها حين يجد المشرع أنها لم تعد تتناسب مع مصلحة المجتمع الذي تسود فيه.
فضلا عن ذلك فالغالب أن تكون السلطة التشريعية مكونة من ممثلين للشعب، و هذا من شأنه أن يقلل من خطر وضع قواعد لا تتفق مع ظروف المجتمع و حاجاته. و إذا حصل أن جاء التشريع عند وضعه، غير ملائم لظروف المجتمع، أو أصبح كذلك نتيجة للتطور، فإن السلطة التشريعية تبادر إلى تعديله لكي يصبح متفقا مع ظروف المجتمع و مسايرا للتطور فيه.
و الحقيقة أن العيوب التي تؤخذ عن التشريع لا تعتبر شيئا مذكورا إلى جانب مزاياه العديدة، بل أن التشريع أصبح الأداة الضرورية التي لا غنى عنها و لا بديل لها في تنظيم المجتمع الحديث حيث تشعبت مظاهر النشاط و ازدادت المعاملات و اتجهت إرادة التغيير إلى الأخذ بمبادئ ونظم تقود المجتمع نحو النهوض و التقدم .
و في ضوء هذه الحقيقة كان من الطبيعي جدا أن يحتل التشريع مكان الصدارة بين المصادر الرسمية للقانون، و أن تطغى أهميته إلى حد كبير على باقي المصادر.
[1] فرج الصده، عبد المنعم، أصول القانون، بيروت.
[2] فرج الصده عبد المنعم، مرجع سابق
[3] هشام القاسم: المدخل إلى علم القانون، مديرية الكتب و المطبوعات الجامعية، دمشق، طبعة 1990
اترك تعليقاً