أزمة اللادستوريات وتشكيل الجنايات الكبرى
أنس جهاد
الحوار المتمدن-العدد: 5757 – 2018 / 1 / 14 – 01:40
المحور: دراسات وابحاث قانونية
مع التطور التاريخي للتجمعات البشرية ومآلات انبثاق الجسد السياسي الحديث (دولة المؤسسة)، انعكست الحاجة السلطوية المتمثلة بضرورة قوننة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية -في القرون ما بين القرن الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين- في نشوء فكرة الدستور، بوصفه الصيغة الأساسية في هرم التنظيم القانوني المتسلسل؛ ووفق النظريات والمبادئ القانونية الكلاسيكية (تدرج القوانين،سمو الدستور،الخ…) وقبل التطور في شكل العلاقات الدولية وظهور المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات المضمون القانوني، كانت القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة تقضي بتربع الدستور في قمة الهرم القانوني في المجتمع، ودون اعمال هذه القاعدة لا يمكن الحديث عن دولة قانون او دولة ديمقراطيات، وانما عن الاشكال المتصورة في الجهة المعاكسة كالدولة البوليسية او الديكتاتورية، فالتصور المنظور لدولة القانون يكون بخضوع الحاكم والمحكوم والقوانين الناظمة للعلاقات الاجتماعية بمختلف درجاتها لوثيقة عليا، هي مصدر الشرعية الأول: الدستور. والذي ينظم في شقيه السلطات الشرعية من جهة (السلطة التنفيذية،والسلطة القضائية،السلطة التشريعية)؛ ومن جهة أخرى الحقوق الأساسية والحريات العامة للمواطنين.
حتى يتحقق مبدأ سمو الدستور وهو احد اهم مبادئ دولة القانون تتجلى الضرورة بتنظيم عمل السلطات الثلاث كل في مجال، دون تجاوز أو تعدٍ للحدود الدستورية بين كل سلطة وأخرى، بحيث تكون في مجموعها الادوات الشرعية/الدستورية الضامنة للخضوع الكلي والفاعل تحت مظلة الدستور، القوانين التي تسن من قبل السلطة التشريعية تكون دستورية اذا ما توافقت مع المبادئ الدستورية الأساسية، وليس للسلطة التنفيذية وكذلك الحال بالنسبة للقضاء ان تمس في ممارستها مهامها تلك المبادئ، وإلا وقع المحظور، اللاشرعية او اللادستورية التي اذا ما وسم بها أي نشاط لأي سلطة، يكون برمته تحت طائلة البطلان المطلق.
في معرض الحديث عن الوضع القانوني في فلسطين وحالة الشرعيات الممأسسة نقف امام العديد من التحفظات، والتي تعزى اسبابها لمدى جدية عمليات المأسسة المذكورة، ومدى تناسبها مع المرحلة السياسية الراهنة، ولكن وهنا نجد حاجة حقيقية للتحدث عن هذا الوضع القانوني وتطوراته، ومن وجهة نظر شخصية ترى مآل هذه الظواهر القانونية في مجموعها الهدم وليس البناء، المساس بالحريات العامة والحقوق الاساسية وليس تعزيزها بالضمانات، مما يجعلنا نقف امام حقيقة هذا المشروع الممؤسس، لنسأل انفسنا سؤالاً تكثر فيه الاجابات: دولة القانون؟ ام البولسة؟!.
تحليل ازمة اللادستوريات المعاشة في الواقع الفلسطيني يطول وقد لا ينتهي، هذا المقال ينفرد بإحدى صور هذه الازمة التي يعيشها المشروع الفلسطيني والمتمثلة بظاهرة التقنين المؤقت ان صحت التسمية جدلا وليس قانوناً، (القرارات بقانون) التي تكون صلاحية اصدارها للرئيس الفلسطيني حسب المادة (43) من القانون الأساسي الفلسطيني، والتي جاء نصها: “لرئيس السلطة الوطنية في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرها زال ما يكون لها من قوة القانون“.
تتحدث المادة في مضمونها صراحةً عن استثناء قد يرد على القاعدة العامة التي تتولى بموجبها السلطة التشريعية/المجلس التشريعي صلاحية اصدار القوانين، بحيث وحسب الاستثناء يمكن لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية اصدار قرارات لها قوة القانون استثناءً على الأصل، مع تعليق تفعيل المادة للإستثناء على شرط الضرورة القصوى والتي لا تحتمل التأخير لحين انعقاد المجلس التشريعي، وللأخير حسب المادة ذاتها صلاحية البت في مصير تلك القرارات.
للأسباب السالف ذكرها من اللا استقرار السياسي والاحتلال ظهرت الحاجة لتفعيل نص المادة السابقة في تاريخ مشروع الدولة الفلسطينية، فالمجلس التشريعي لم ينعقد ولم يصح قوامه ولم يمارس مهامه الا لفترات محدودة نسبياً، وحصل اخيرا وبسبب ازمة الانقسام السياسي في (2006/2007) ان ازدادت كثافة استعمال هذه المادة في الاعوام العشر التالية للإنقسام، فقد صدرت في هذه الفترة قرارات بقانون متعددة وفي مختلف المجالات التنظيمية للحياة الفلسطينية (المدنية،الجنائية،الادارية،الخ..)، وقد يرى في بعضها ما يمكن ان يمثل انتفاءً لشرط تفعيل المادة، وهو الضرورة القصوى التي تحدثت عنها المادة (43).
سيتناول هذا المقال إحدى مشاريع تلك القرارات بقانون، والذي اثار العديد من الاراء المتضاربة حول مسألة دستوريته من عدمها في الوسط القانوني الفلسطيني؛ والمتشكل من قانونيين ومحامين ومؤسسات حقوقية تعنى بالحقوق والحريات العامة في المجتمع، وهو القرار (بلا رقم) لعام 2018 بشأن انشاء محكمة الجنايات الكبرى.
القرار المذكور يفيد بعنوانه الأمر بتأسيس محكمة الجنايات الكبرى في فلسطين، وتنظيم نطاق عملها واختصاصاتها، وهي احدى المحاكم الخاصة، وحسب ما جاء على لسان وزير العدل الفلسطيني ابو دياك “فهي محكمة نظامية جزائية” ذات اختصاصات حصرية، وتشكيل خاص، وآليات عمل اجرائي خاص كما هو مبين في نسخة مشروع القرار بقانون المذكور.
وللتعليق على هذا المشروع يكون الحديث في عدة محاور، سنتحدث في اهمها على التوالي:-
أولاً: مخالفة القانون الأساسي
يعتبر القانون الاساسي بمثابة الدستور، وعلى الرغم من التحفظات القانونية الا انه ومع عدم اقرار مسودة الدستور الفلسطيني يبقى هو الصيغة القانونية الأسمى المعمول بها في فلسطين، وبالنظر الى القرار المذكور نجد جملة من المخالفات الدستورية التي تشوبه، ومنها:-
مخالفة المادة (43) من القانون الأساسي: فبالرجوع الى موضوع القرار والذي يتضمن انشاء محكمة الجنايات الكبرى، وبإسقاط المادة المذكورة عليه يتبين ان حالة الضرورة القصوى غير ملحوظة، ذلك ان منظومة القضاء الفلسطيني تتألف من ثماني محاكم بداية موزعة على ثماني محافظات، ومشَكَلة من قضاة بداية، وقد يكونوا هم ذاتهم القضاة التي ستشكل منهم محكمة الجنايات الكبرى المقترحة، ما ينفي الحاجة العملية بالكم والنوع لإنشاء محكمة خاصة.
مخالفة المادة (97) من القانون الاساسي: بالمطالعة للمادة المذكورة، نجد ان القرار جاء مخالفاً للأحكام الواردة فيها والتي اسند فيها المشرع الوظيفة الاصيلة لتشكيل المحاكم وتبيان اختصاصاتها للقانون، ولا يمكن أن يتم ذلك من خلال قرارات بقانون خلافا للإرادة التشريعية، وانما من خلال تعديل يجري على قانون السلطة القضائية وقانون تشكيل المحاكم النظامية من خلال قانون معدل صادر عن السلطة التشريعية/المجلس التشريعي. * يذكر ان الرئيس السابق ياسر عرفات كان قد اصدر قراراً بقانون يقضي بتشكيل محكمة أمن دولة، وكان ذلك بعد مجيء السلطة عام (1995)، الجدير بالاشارة ان الرئيس اصدر بعد ذلك مرسوما رئاسيا (2002) ألغى فيه المحكمة المذكورة للأسباب ذاتها والمتمثلة عدم دستورية التشكيل.
ويعتبرما ذكر بالاضافة الى الاخلال بضمان المحاكمة العادلة كما سنرى فيما بعد، جزء من جملة الخروقات الدستورية التي يمكن التحدث عنها.
ثانياً: الاخلال بضمانات المحاكمة العادلة
المحاكمة العادلة هي احدى الضمانات التي نص عليها المشرع الدستوري في مواد الباب الثاني من القانون الأساسي، والتي كفلت في نصوصٍ صريحة عدم المساس بالحقوق الاساسية للفرد الفلسطيني من قبل السلطات، وكذلك عزز قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني رقم (3) لعام (2001م) هذا الضمان، من خلال النص الصريح في مواده على ضمانات تكفل عدم التعرض لتلك الحقوق الاساسية في ممارسة الدعوى الجزائية في مراحلها الثلاث (الاستدلال،التحقيق،المحاكمة)، بالاضافة الى ان المعاهدات والمواثيق الدولية جاءت مؤكدة على ضمان المحاكمة العادلة باعتباره حق انساني، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وبالرجوع الى مشروع القرار نجد ان هذا الضمان لم يسلم من الاعتداءات التي تقوض وجوده وفعاليته، ومنها:-
المادة (7): منحت المادة المذكورة من مشروع القرار بقانون النيابة العامة صلاحيات اضافية وواسعة في مسار التحقيق الأولي، تحت عنوان “إجراءات تحفظية”،وذلك من خلال النص على أن “للنيابة العامة اتخاذ كافة الإجراءات التحفظية اللازمة والمتعلقة بالواقعة” خلال مباشرتها التحقيق الأولي فور علمها بالجريمة، ودون توضيح ماهية تلك الإجراءات والضمانات المتعلقة بكل إجراء، مما يجعل تلك الإجراءات خاضعة لأهواء القائم على اعمال التحقيق، وبالتالي فإن النيابة العامة باتت تملك صلاحيات مفتوحة على الأشخاص والأموال تحت هذا الباب، مثل إصدار أوامر المنع من السفر وأوامر ترقب الوصول؛ وذلك بشكل مفتوح، ودون تدخل قضائي.
المادة(8): أجازت المادة المذكورة من القرار بقانون لوكيل النيابة توقيف المتهم بعد استجوابه لمدة(4 ايام) اذا ما اقتضت مصلحة التحقيق ذلك، وفي ذلك تعرض غير مفسر لنص المادة (108) من قانون الاجراءات الجزائية والتي حددت مدة التوقيف على ذمة النيابة بـ(48 ساعة) على ان يتم بعدها احالة المتهم الى المحكمة المختصة، وتجدر الإشارة إلى أن قرار بقانون محكمة الجنايات الكبرى رقم (7) لعام (2006) والذي ألغي من قبل المجلس التشريعي لم يرد فيه مثل هذا النص، فقد أحال كل ما يتعلق بإجراءات التحقيق لقانون الاجراءات الجزائية.
المادة (10): نصت المادة المذكورة على أنه “لوكيل النيابة استجواب المتهم قبل دعوة محاميه للحضور في حالات التلبس والضرورة والاستعجال والخوف من ضياع الأدلة على أن تدون موجبات التعجيل في المحضر، وللمحامي الحق في الاطلاع عل أقوال المتهم عند انتهاء الاستجواب”. وفي هذا نسخ حرفي عن نص المادة (98) من قانون الاجراءات الجزائية، دون أي تعديل، فكان من الأولى جعل حضور المحامي الزاميا تعزيزا لضمان المحاكمة العادلة، استرشاداً بقرارات مجلس حقوق الانسان و قانون الأحداث الفلسطيني ايضاً، بحيث يعتبر حضور المحامي لجلسات التحقيق شرطا للسلامة القانونية للتحقيق.
المادة (16): تنص المادة على أنه “لمحكمة الاستئناف المختصة، وبناء على طلب النائب العام، أن تقرر في الدعاوى الداخلة في اختصاص المحكمة، نقل الدعوى من الهيئة المختصة بنظرها إلى هيئة أخرى من ذات الدرجة، وذلك عندما يكون نظرها في دائرة الهيئة المختصة من شأنه الإخلال بالأمن العام، وتسري أحكام هذه المادة على مرحلة التحقيق”. يمنح النص المذكور النائب العام صلاحية طلب نقل الدعوى من هيئة قضائية إلى هيئة أخرى من ذات الدرجة، نسخاً عن المادة (182) من قانون الاجراءات الجزائية، مع إضافة عبارة “مرحلة التحقيق” على ما جاء به النص المذكور الوارد في قانون الإجراءات الجزائية فيما يتعلق بطلب نقل الدعوى، وضمن معايير فضفاضة تتعلق بالأمن العام، وهو ينطوي على تدخل من قبل النيابة العامة بالشأن القضائي، ومساس خطير بصلاحيات السلطة القضائية واستقلالها، ويمنح النيابة العامة، وهي خصم في الدعوى الجزائية، صلاحية تحديد المحكمة المختصة بنظرها، والخصم لا يختار قاضيه، كما أن الإضافة التي وردت في هذا القرار بقانون والتي منحت النائب العام صلاحية طلب نقل الدعوى في مرحلة التحقيق من شأنها أن تنسف قواعد الاختصاص المكاني الواردة في قانون الإجراءات الجزائية تحت عنوان الإخلال بالأمن العام، وقد تفسر على أنها محاولات للبحث عن قضاة يتناغمون مع النيابة العامة في قبول طلبات تمديد توقيف المتهمين.
المادة(17): تنص المادة في الفقرة الثالثة على شمولية احكام المحكمة “بالنفاذ المعجل”، فيما عدا الاحكام الصادرة بالإعدام. وفي هذا انتهاكاً للقرينة الدستورية “قرينة البراءة” المفترضة في أي متهم قبل الادانة بحكم نهائي بات، مع تعطيل العمل بالمادة (340) من قانون الاجراءات الجزائية في الدعاوى المنظورة امام هذه المحكمة، والتي تنص على أنه “يجوز للمحكمة إرجاء تنفيذ الحكم المستأنف لحين الفصل في الاستئناف إذا أبدى المحكوم عليه رغبته باستئناف ذلك الحكم”.
المادة (19): تنص المادة على أن ” تجري المحاكمات الاستئنافية مرافعة إذا كان الحكم بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة، وفيما عدا ذلك من الأحكام الجنائية والجنحية التي تدخل في اختصاص المحكمة، ينظر فيها تدقيقاً إلا إذا رأت المحكمة إجراء المحاكمة مرافعة أو طلب المحكوم عليه ذلك ووافقت على الطلب أو طلب النائب العام ذلك، وفيما عدا الحكم بالإعدام والحبس المؤبد لا يشترط في المرافعة سماع البينات مجدداً إلا إذا رأت المحكمة لزوم ذلك”. وفي هذا مساسا بمبدأ التقاضي على درجتين، واخلالاً بالضمانات المقرة للمتهم في مرحلة المحاكمة بحرمانه من درجة من درجات التقاضي، ويحيل محكمة الاستئناف إلى محكمة قانون بالنص على أنها تنظر في الطعون الاستئنافية “تدقيقاً” -فيما عدا الأحكام الصادرة بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة- وذلك بعد أن كانت تنظر مرافعة بنشر الدعوى.
وفي ذلك كان ايجازاً لما ينطوي عليه مشروع القرار من مخاطر تطال حقوق المواطنين وحرياتهم العامة والضمانات الكافلة لهذه الحقوق والحريات، وايضاحاً للأسباب التي تقف خلف مقابلته بالرفض العام في الوسط القانوني الفلسطيني والمطالبة بعدم نشره.
بالعودة للحديث عن مشروع الدولة الفلسطينية كدولة قانون ومؤسسات نجد اننا وبمثل هذه القرارات نسير في الاتجاه المعاكس، مما يدعو الى التفكير والتوقف، واعادة توجيه الدفة نحو الطريق الصحيح.
* في هذا الشأن يمكن مراجعة التقرير او المذكرات القانونية التي اعدها ووجهها المركز الفلسطين لإستقلال المحاماة والقضاء “مساواة” للجهات المختصة، والتي نشرت عبر صفحاته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وكذلك الرسائل التي وجهتها مؤسسة الحق الفلسطينية لكل من مكتب الرئيس ورئيس الوزراء دونت فيها ملاحظاتها بشأن هذا القرار مطالبة بعدم نشره.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً