بحث قانوني حول محاضر الضبطية القضائية
كيف تتعامل السلطة القضائية مع محاضرالضابطة القضائية ؟
بقلم المختار السريدي
إن إنجاز محضر- مستوف لشروطه الشكلية والموضوعية – من لدن ضابط من ضباط الشرطة القضائية ليس بالعمل السهل أو الهين كما يعتقد الكثير من الناس ، فهو يحتاج مهارة تقنية عالية وضميرا مهنيا متزنا ورجال ميدان أكفاء ومحنكين ، وأصحاب تجربة يقظين ومدربين بما فيه الكفاية مع إلمام تام ومعرفة دقيقة بالنصوص القانونية الإجرائية منها والموضوعية وكدا بالقرارات الجاري بها العمل والواجبة التطبيق في كل بحث أو تحقيق أو تحري أو تدخل كيفما كان نوعه … بالإضافة إلى تكوين مهني وقانوني وإعداد نفسي وداتي يليق برجالها ونسائها إن وجدن ، دون أن ننسى الحالة المادية والإجتماعية لهؤلاء والتي بتحسنها تتحسن المردودية ويتحسن الأداء والعطاء وتؤتي الأمور أكلها كل حين ، بعيدا عن المغريات والمؤثرات والتأثيرات التي من شأنها أن تمس بحرمة وهيبة المؤسسة – أي مؤسسة الضابطة القضائية – وتقلص من فعاليتها وتؤثر بالتالي على مصداقيتها وتبعث على التشكك وعدم الإطمئنان على تحرياتها وأبحاثها ، والتي غالبا ما تقطع أشواطا ومراحل قد تصل إلى أعلى درجات البحث والتحقيق والتقاضي ، وقد تؤثر في مصير ملفات وقضايا عديدة ، وقد تكون سببا في الإدانة أو البراءة أو قد يكون مآلها الحفظ لتبقى قابعة في رفوف مكاتب النيابة العامة (1) في انتظار من يحركها أويبعث فيها الحياة من جديد .
وللإلمام بهدا الموضوع فإننا سنتناوله من خلال الفروع الثلاثة التالية :
الفرع الأول : محضر الضابطة القضائية أمام النيابة العامة
الفرع الثاني : محضرالضابطة القضائية أمام هيئة التحقيق
الفرع الثالث : محضر الضابطة القضائية أمام هيئة الحكم وحرية الإقتناع (2)
الفرع الأول : محضرالضابطة القضائية أمام النيابة العامة
يقع على عاثق النيابة العامة بوصفها ممثلة الحق العام مسؤولية تسيير و مراقبة أعمال الضابطة القضائية مراقبة عملية وفعلية وسابقة ولاحقة ، باعتبار أعضائها ضباطا سامين للشرطة القضائية والساهرين عن كثب على تتبع أشغالها وعملياتها التي يجب أن تراعي حرمة الأشخاص والأماكن والممتلكات وتضمن في وثيقة مكتوبة تسمى “محضرا “ بدون زيادة أو نقصان وبكل نزاهة وموضوعية بعيدا عن كل تأويل أو استنتاج أو تحريف الكلم والحقائق عن مواضعها (3).
وهدا المحضر ينجز سواء في في إطار مسطرة البحث التمهيدي وهو بحث بوليسي صرف يهدف التثبت من وقوع الجريمة وجمع الأدلة عنها والبحث عن مرتكبيها ، أو في إطار مسطرة البحث التلبسي وهو بحث تكون فيه كل الظروف والأدلة والقرائن حية وحاضرة وماثلة دون أن يطالها تغيير أو تبديل أو تحريف بحيث تتم عملية الإنجاز بيسر وسهولة دون مشاق تدكر،
ومن تم يرى غالبية رجال ونساء الضابطة القضائية أن إنجاز محضر في حالة التلبس أهون عليهم من إنجاز محضر في حالة البحث التمهيدي ، نظرا لصعوبة هدا النوع الأخيرمن المحاضر وما يتطلبه من مجهود وإجهاد قد يوصل وقد لايوصل إلى الخيوط الأولى للجريمة موضوع البحث .
وكيفما كانت المسطرة المتبعة ، فإن دور الضابطة القضائية يتمثل بوضوح في جمع الأدلة الخام وتدوينها في محاضر تحت إشراف النيابة العامة التي تعمل على تنقيح وتمحيص وغربلة كل ما يقدم لها ، وتكييفه بل ووضعه في إطاره القانوني المناسب والسليم ثم الأخد أوعدم الأخد به .
وفي هدا الشأن جاءت المادة 23 من قانون المسطرة الجنائية بما يلي : « يجب على ضباط الشرطة القضائية أن يحرروا محاضربما أنجزوه من عمليات وأن يخبروا وكيل الملك أو الوكيل العام للملك المختص فورا بما يصل إلى علمهم من جنايات وجنح . يجب على ضباط الشرطة القضائية بمجرد انتهاء عملياتهم ، أن يوجهوا مباشرة إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك أصول المحاضر التي يحررونها مرفقة بنسختين منها مشهود بمطابقتهما للأصل ، وكدا جميع الوثائق والمستندات المتعلقة بها . توضع الأشياء المحجوزة رهن إشارة وكيل الملك أو الوكيل العام للملك … » (4)
يتضح من خلال استقراء لنص هده المادة أنه يجب على ضابط الشرطة القضائية عند ضبط الواقعة الإجرامية أو الفعل الجرمي أن يخبر بها حالا – وحسب درجة خطورتها – إما وكيل الملك بالمحكمة الإبتدائية أو الوكيل العام للملك بمحكمة الإستئناف ، ثم يحرر محضرا بما أنجزه من عمليات وما قام به من إجراءات ، ويختلف الأمر بالنسبة لتوجيه هذا المحضر فيما إذا كانت الواقعة جناية أم جنحة أم مخالفة ، وهكدا توجه محاضر الجنايات إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف ، بينما توجه محاضر الجنح والمخالفات إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية .
لكن كيف تتعامل النيابة العامة مع محضر الضابطة القضائية المرفوع إليها ؟
إن النيابة العامة باعتبارها سلطة الإتهام وأمينة المصلحة العامة وممثلة المجتمع ، هي من تتلقى المحاضر التي تنجزها الضابطة القضائية وتتخد بشأنها ما تراه لازما وملائما ، حيث أن وكيل الملك داخل نفود محكمته الإبتدائية هو من يباشر بنفسه أو يأمر بمباشرة الإجراءات الضرورية للبحث عن مرتكبي الجنح والمخالفات ويصدرالأوامر سواء بعدم متابعتهم بعد التكييف القانوني للأفعال التي حررت بشأنها المحاضرالمدكورة ،أو بضبطهم وتقديمهم ومتابعتهم ، ويمكنه أن يحيلهم على هيئات التحقيق بموجب ملتمسات ، أو يحيلهم مباشرة على هيئات الحكم المختصة ، كما يمكنه أن يجمد تلك المحاضر ويبطل مفعولها بما يدعو إلى ذلك بموجب قراريسمى ب ” قرار الحفظ ” طبقا لما هو منصوص عليه في الفقرات الأولى من المادة 40 من قانون المسطرة الجنائية .
أما على صعيد محكمة الإستئناف فإن الوكيل العام للملك وحسب ما جاء في المادة 49 من نفس القانون ، هو من يتلقى الشكايات والوشايات والمحاضر الموجهة إليه ويتخد بشأنها ما يراه ملائما من الإجراءات أو يرسلها مرفقة بتعليماته إلى وكيل الملك المختص ، ويمكنه أن يباشر بنفسه أو يأمر بمباشرة الإجراءات الضرورية للبحث عن مرتكبي الجنايات وضبطهم وتقديمهم ومتابعتهم ، ويمكنه أن يحيلهم على هيئآت التحقيق أو هيئآت الحكم المختصة أو يأمربحفظ القضية
بمقرر يمكن دائما التراجع عنه ، ويتعين على وكيل الملك أو الوكيل العام للملك في حالة إدا ما قررا حفظ الشكاية أن يخبرا بها المشتكي أو دفاعه خلال الخمسة عشر (15) يوما ابتداء من تاريخ اتخاد القرار المدكور.
ومن بين الأسباب التي تدفع النيابة العامة إلى تجميد بعض المحاضرنذكرعلى سبيل المثال :
* عدم توفر أركان الجريمة مجتمعة .
* عدم كفاية الأدلة المعروضة والحجج المقدمة والقرائن المعتمدة .
* عدم الإقتناع كليا بما جاء في المحضرإما لسرعة البحث أو سطحيته أو ما شابه دلك .
* عدم مراعاة بعض الإجراءات الشكلية كتقديم شكاية أوإدلاء بوشاية أو تقديم الإذن .
* وجود مانع من موانع المسؤولية أو سبب من أسباب السقوط كالوفاة أو التقادم أو سحب الشكاية أو التنازل عنها.
ولا شك أن دكر هذه الأسباب على سبيل المثال لا الحصر، فيه توسيع لصلاحيات النيابة العامة وتخويلها سلطات فضفاضة في تقديروتقريرمصير بعض محاضر الضابطة القضائية ، الشيء الذي قد يؤثر على حقوق بعض المتضررين من الجريمة المرتكبة . ومما زاد الطين بلة أن المشرع المغربي لم يلزم النيابة العامة بتعليل قرار الحفظ ، هدا الأخير الدي يمكن الرجوع فيه أو التراجع عنه عن طريق ما يسمى ب ” العدول عن قرار الحفظ ” من أجل إحياء ملف القضية من جديد و تحريك الدعوى العمومية ، كي تعاد للمحضرالدي سبق إنجازه حركيته وقيمته التي تم تجميدها ، وهنا ليس للنيابة العامة أن تتراجع بعد ذلك لأنها لا تملك حق التراجع . مع العلم أن الهدف الأساسي من اتخاد قرار الحفظ ليس هو غض الطرف عن بعض المحاضرأو كثرة المحاضر التي ترد على النيابة العامة ، وإنما هو الرغبة في تجنب المتابعات التي لافائدة منها والتي تثقل كاهل العدالة أو التي ليست لها صبغة جنائية تدكر ، كما أن بعض جرائم الخيانة الزوجية أو بعض الجرائم التي تكتسي طابعا أسريا أو عائليا ويكون من شأن التمادي فيها تشتيت شمل الأسر أوتعريض الأولاد للخطرأوتعكير صفو الأجواء العائلية أو الأسرية ورغبة في الحفاظ على الروابط والعلاقات وعدم فصم عراها وما قد يترتب عن دلك من أحقاد وضغائن وتقيدا ببعض العادات والتقاليد التي تجنح إلى العفو والصلح والتسامح ، فإنه لا يمكن للنيابة العامة إلا أن تستجيب لداك وخير استجابة هي حفظ القضية .
وفيما يخص الوصف القانوني للجريمة موضوع محضرالضابطة القضائية ، فإنه بالنسبة للجنايات فإن النيابة العامة لدى محكمة الإستئناف هي من تقرر متابعة المتهم أو إحالته على هيئات التحقيق أو هيئات الحكم ، أما بالنسبة للجنح والمخالفات نجد أن النيابة العامة لدى المحكمة الإبتدائية لها الحق كدلك وفي حدود اختصاصها أن تقرر المتابعة وتحيل المتهم مباشرة على هيئة الحكم دون تحقيق ، ما لم يكن هناك نص خاص يلزم بإجراء التحقيق ، مع الإشارة إلى أن التحقيق لا يكون إلزاميا إلا في الحالات التالية :
– الجنايات المعاقب عليها بالإعدام .
– الجنايات المعاقب عليها بالسجن المؤبد .
– الجنايات المعاقب عليها بالحد الأقصى المحدد في ثلاثين (30) سنة .
– الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث .
– الجنح بنص قانوني خاص .
ويكون التحقيق اختياريا فيما عدا دلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث ، وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر، طبقا لما ورد في المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية .
ويتم عرض المتهم مباشرة على هيئة الحكم في حالتين اثنتين هما :
– حالة التلبس بالجريمة : وهي حالة تستدعي العجلة والإسراع بعرض المتهم على الجلسة لتصدر حكمها فيه ، دونما حاجة للإنتظار والتريث ، اللهم إلا إدا استدعت ضرورة البحث والتحقيق غير دلك .
– حالة عدم توفر ضمانات الحضورفي المتهم ، وهنا لا بد من توافر الشروط التالية :
– ألا تكون للمتهم ضمانات الحضور، ويرجع للنيابة العامة الحق في تقدير توفرأو عدم توفر هذه الضمانات .
– أن يتعلق الأمر بجنحة معاقبة بالحبس دون الغرامة .
– ألا يكون قاضي التحقيق قد وضع يده على القضية .
– استجواب المتهم من طرف ممثل النيابة قبل إحالته على الجلسة .
وفي الغالب ما تلجأ النيابة العامة إلى أسلوب “الإستدعاء المباشر” في القضايا العادية أوالبسيطة خاصة في الجنح والمخالفات ، وذلك قصد إعلام المتهم بأنه في حالة متابعة وأن قضيته ستحال على الجلسة في التاريخ والمكان المحددين في الإستدعاء ، حيث يتعين عليه الحضور.
وكيف ما كان الأمرفإن النيابة العامة غالبا ما تأخد بمضمن المحاضر لاسيما تلك المتعلقة بالجنح والمخالفات ، لأن القانون واضح في هدا الشأن ولأن الموظف الدي أنجزتلك المحاضر وحررها هو موظف عمومي محلف – شرطي أو دركي أو غيرهما … – سبق أن أدى اليمين القانونية قبل مزاولته لمهامه الضبطية ، ولأن الأظناء مجرد أشخاص عاديين غالبا ما يحاولون التملص من المسؤولية عن طريق خلق روايات مصطنعة وخيالية لا تمت للواقع بصلة (5)، مما قد يؤدي إلى التأثير على عناصر الضابطة القضائية وبالتالي التأثير على محاضرهم التي أنجزوها في هدا الشأن ، والتي قد تعيدها النيابة العامة إليهم من “ أجل تعميق البحث “ أو إعادته من جديد كلما اكتشفت خللا في المحضر أو نقصا في التحريات أو بترا في المعلومات التي قد تفيد العدالة في كشف الحقائق وايقاف المجرمين (6)، ولو أن هناك من يؤاخد النيابة العامة على مصطلح “ من أجل تعميق البحث “ باعتباره مصطلحا واسعا وفضفاضا يصعب معه على ضابط الشرطة القضائية محرر المحضر أن يستوعبه بسهولة ، ومن تم يكون حريا بممثل النيابة العامة لو أنه حدد في ملاحظاته النقط التي يجب تعميق البحث فيها وسبر أغوارها تفاديا لكل لبس أو غبش .
خلاصة ما سبق أن النيابة العامة هي صاحبة سلطة كبيرة في تقييم أهمية المحاضر المرفوعة إليها من طرف الضابطة القضائية والتصرف فيها في حدود الصلاحيات المخولة لها بمقتضى القانون (7)، وقد كان هذا محل انتقاد فقهي شديد ، دلك أن المشرع وعوض أن يوسع من سلطات النيابة العامة كان عليه أن يوسع من سلطات الهيئة القضائية إحقاقا للحق وضمانا للعدل ودولة القانون .
الفرع الثاني : محضر الضابطة القضائية أمام هيئة التحقيق
بعد تحرير المحضر من لدن ضباط الشرطة القضائية و إرساله إلى النيابة العامة المختصة ، فإن هذه الأخيرة إما أن تحيله مباشرة على هيئآت الحكم ، وإما أن تحيله على هيئآت التحقيق خصوصا إذا تعلق الأمر بالجرائم التي يستلزم فيها القانون إجراء التحقيق كما هو الشأن بالنسبة للجنايات المعاقب عنها بالإعدام وبالمؤبد وبالمحدد في ثلاثين (30) سنة وكذا الجنايات التي يرتكبها الأحداث والجنح بنص خاص في القانون .
وهكذا فالتحقيق هو مرحلة قضائية ذات أهمية كبيرة لايجريه القاضي المختص إلا بناء على ملتمس من النيابة العامة ، إذ في هذه المرحلة يتم تمحيص الأدلة والحجج مع إعادة النظر في كل ما ضمن في المحاضر المحالة على النيابة العامة ، وبذلك فالتحقيق إما أن يساند و يزكي ويسايرما جاء في المحضر- بعد القيام بجميع الإجراءات والتحريات والتدابيراللازمة – ليقرر المتابعة ويحيل الملف على هيئة الحكم قصد النظر فيه ، وإما أن لا يقتنع بما جاء فيه من حجج وأدلة وبراهين وقرائن ويقررعلى ضوء دلك عدم المتابعة بإصدار القاضي المكلف بالتحقيق لقرار يسمى ” قرار بالأوجه للدعوى “.
ومن تم فإن قرارات قاضي التحقيق بالمتابعة أو عدم المتابعة تؤثر بطبيعة الحال على قيمة محاضرالضابطة القضائية وحجيتها وتضع لها حدا قبل الأوان ، أي قبل الوصول إلى هيئة الحكم ، ووجه الشبه بين قرار قاضي التحقيق المعروف ب “ الأوجه للدعوى “ وقرار” الحفظ “ الصادر عن النيابة العامة كونهما يضعان حدا للمسطرة ، لكن رغم ذلك فإنهما يختلفان من حيث الطبيعة والآثار القانونية ذلك أن قرار الحفظ هو مجرد تدبير إداري يصدر عن سلطة إدارية ولا يكتسب حجية ، أما قرار بالأوجه للدعوى فهو قرار يصدرعن سلطة قضائية ويكتسب حجية الشيء المقضي به كما يجب أن يكون مسببا و معللا عكس قرار الحفظ .
أما في مصر ومع أن التحقيق تجريه النيابة العامة إلى جانب قاضي التحقيق فإن كلا من قرار الحفظ و قرار بالأوجه للدعوى يمكن أن يصدرا عن النيابة العامة .
و عموما فإذا كان لهذين القرارين أثر كبير في الحد من قيمة وأهمية محاضر الضابطة القضائية ، فكيف يكون الوضع لو تقررت المتابعة و الإحالة على هيئة الحكم ؟ وهذا ما سوف نتعرض إليه بإسهاب في الفرع الثالث الموالي .
الفرع الثالث: محضرالضابطة القضائية أمام هيئة الحكم وحرية الإقتناع
إن دور الضابطة القضائية يقتصر على النقل بصدق وتجرد وشفافية وطبقا لأحكام القانون لكل ما تعاينه أو تسمعه أو تقوم به وتترك التأويل والإستنتاج إلى السلطة القضائية صاحبة القول الفصل في كل ما يصلها من محاضر.
فبعدما يتم اتخاذ إجراءات البحث والتحري ثم يتضح من هذه الإجراءات أن الأدلة ثابتة وقوية وترتكز على أسس متينة وأن هناك وجه للمتابعة ، فإن الدعوى تحال على المحكمة المختصة لتقول هيئة الحكم كلمتها إما ببراءة المتهم أو إدانته ، وقد أوجب القانون على هيئة الحكم أن تعود من جديد إلى تحقيق وتدقيق الأدلة ومن تغليب النظر فيها على كافة الاحتمالات ، ثم من تكوين عقيدتها على ضوء ما يستريح إليه ضميرها ووجدانها ، وذلك حتى يكون اقتناعها بثبوت التهمة مبنيا على الجزم واليقين لا على الحدس والظن والتخمين ، أو تكون اقتناعها ببراءة المتهم إذا ما تسرب الشك إلى أدلة اتهامه فتطلق سراحه دون متابعة ، وفي هدا الشأن جاءت المقولة الشهيرة : ” إفلات الجاني من العقاب خير من إدانة بريء خطأ وتسرعا ” .
ومن المقررأن القاعدة العامة في الإثبات في المادة الجنائية أن عبء الإثبات يقع على عاثق النيابة العامة ، ولا يرتفع هذا العبء إلا في حالات استثنائية جدا نص عليها القانون ، ولما كان الثابت أن عبء الإثبات يقع على هده النيابة العامة لذا تبدو أهمية هذا العمل بالنسبة لها خاصة ، كما تظهر هذه الأهمية بجلاء بمناسبة قيام قاضي الموضوع بدوره في التعامل مع جميع الأدلة التي يتم بسطها بين يديه سعيا للوصول إلى الحقيقة ، وهو في هذا المقام يملك سلطة المبادرة في اتخاذ الوسائل بالنسبة لجميع الأدلة والبراهين واستيفاء أي نقص في أدلة الإتهام أو الدفاع سواء ، ولذا تبدو مهمته أكثر دقة من مهمة قاضي التحقيق خاصة وأنه – أي قاضي الموضوع – دائما ما يضع نصب عينيه مبدءا من المبادئ الأساسية التي أقرتها جميع الدساتير في البلدان الديمقراطية وهو”مبدأ قرينة البراءة “ التي تقول بأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته ، وأن جميع الأحكام الجنائية يجب أن تبنى دائما على الجزم واليقين لا على الظن والإحتمال (8).
أما بالنسبة لحرية قاضي الحكم أو قاضي الموضوع في تكوين اقتناعه أو ما يسمى ب “نظام الإقتناع الذاتي للقاضي ” فيعني أن القاضي الجنائـي يحكـم بحسب ما اطمـأن إليه ضميـره ،
تمشيا مع مقتضيات الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية الدي جاء فيه : « يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ، ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف دلك ، و يحكم القاضي حسب اعتقاده الصميم ، ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 الآتية بعده (9)، إدا ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته . » (10)
فالإقتناع هو حالة ذهنية تتمثل في إدراك القاضي ، وهو إدراك يسلم معه العقل تسليما جازما بثبوت الواقعة الجرمية ونسبتها للمتهم أو نفي هده الواقعة عنه ، اعتمادا على قواعد المنطق القائمة على الإستقراء و الإستنتاج (11) ، حرية الإقتناع هذه يتمتع بها قاضي الحكم وحده وتتمثل في السلطة التقديرية التي يملكها طبقا للقانون والتي يتمكن من خلالها من الإستناد إلى الدليل الذي يراه محققا لاقتناعه ، لا يقيده في ذلك إلا قيد واحد هو وجوب بناء الحكم على الجزم و اليقين لا على الظن والتخمين والتردد والإحتمال .
أما في دولة مصر وطبقا لنظام الإقتناع الذاتي للقاضي ، فإن هذا الأخير لا يخضع في تقديره للأدلة إلى رقابة محكمة النقض ، وكل ما لها أن تراقبه هو مدى صحة الأسباب التي استدل بها على هذا الإقتناع .
فالقاضي ليس مكلفا ببيان أسباب اقتناعه الشخصي ، ولكنه مكلف ببيان أسباب الحكم الذي انتهى إليه أو نطق به ، وهو في هذا المقام لابد أن يذكر الأدلة التي اعتمد عليها وكانت مصدر اقتناعه ، ولكنه أيضا غير مكلف بتحديد علة اقتناعه بهذه الأدلة بالذات . وقد تمكنت محكمة النقض المصرية عن طريق مراقبتها لصحة الأسباب أن تراقب معقولية اقتناع قاضي الحكم .
وقد اشترط المشرع المغربي ( الفصلان 286 -287 من ق م ج ) وكذلك المشرع المصري، في اقتناع قاضي الحكم حتى يصل إلى اليقين ألا يعتمد إلا على الأدلة والحجج التي عرضت عليه أثناء مباشرته إجراءات الجلسة ونوقشت شفهيا وحضوريا أمامه ، ويقصد بالأدلة والحجج المدكورة كافة الأدلة التي لها مصدر في أوراق القضية المطروحة أمام القاضي سواء كانت في محاضر الإستدلال أو التحقيق أو الإحالة أو المحاكمة ، وهذا الشرط هو ضمان أكيد للعدالة حتى لا يحكم القاضي بمعلومات شخصية أو بناءا على ما رآه أو سمعه في غير مجلس القضاء (12)، ولكن لا يجوز له الإستناد إلى المعلومات العامة والأفكار الثابتة . وهدا هوالسر في اشتراط المشرع المغربي أن تناقش المحكمة أدلة الدعوى شفويا ، وهـذا الشـرط جاء نتيجة لإقرار مبدأ حرية القاضي في الإقتناع بالأدلـة لأن المناقشـات الشفوية التي تجري بين الخصوم بإشراف وتوجيه القاضي هي وحدها التي تؤدي إلى الإقتناع الوجداني وإلى التمييز ما بين الجد والخادع من الأدلة .
خلاصة القول أن المحضر الصادر عن مؤسسة الضابطة القضائية لا تكون له أية قيمة قانونية إلا إذا زكت العدالة وساندت ما جاء في مضمنه حيث لها كامل الحرية في التعامل معه وبإمكانها أن تأخذ أو لا تأخذ به .
غير أن الأخذ أو عدم الأخذ بالمحضر ليس مطلقا ، فالأمر يختلف بحسب طبيعة كل محضر وبحسب الوصف القانوني للجريمة موضوع المحضر، ومن تم فإن هناك محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأي وسلة من وسائل الإثبات ، وهناك محاضر يوثق بمضمونها إلى أن يطعن فيها بالزور ثم هناك محاضر تعد مجرد معلومات أوبيانات لا يؤخذ بها إلا على سبيل الإستئناس ، وهدا ما سوف نتعرض إليه بالتفصيل لاحقا .
هوامش :
1 – انظر مقالنا تحت عنوان “ كيف تتعامل النيابة العامة مع محضر الضابطة القضائية ؟ “ المنشور بجريدة الأحداث المغربية عدد 1031 بتاريخ 16 نونبر 2001 ركن عدالة الصفحة 12 .
2 – جاء في المادة 73 من قانون الدرك الملكي ما يلي : « تنص المحاضر على المعاينات المادية التي يقوم بها رجال الدرك وتتضمن بصدق ووفاء ما يدونونه في كناش التصريحات من إشهاد كل شخص يظهر الإنصات إليه مفيدا .
ويجب أن يكون إنشاء المحاضرواضحا دقيقا وأن يكون عبارة عن بيان للوقائع مجردا من كل حادث أو كل تأويل خارج عن الموضوع .
وينبغي أن تشتمل المحاضرعلى جميع الإرشادات التي من شأنها أن ترشد السلطة المخصصة إليها المحاضر عن هوية الأشخاص الدين سجلت تصريحاتهم وعن سوابقهم العدلية وعن مستوى ثقافتهم وتضمن في آخر المحضر أوصاف الأشخاص المعتقلين وعند الإقتضاء حالتهم العسكرية . »
3 – بحث لنيل الإجازة في الحقوق فرع القانون الخاص ، تحت عنوان : « القوة الثبوتية لمحاضر الضابطة القضائية . » من إعداد الطالبين المختار السريدي وأحمد فرجية ،السنة الجامعية 1992/1991 ، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية بالدار البيضاء .
4 – جاء في الفقرة الأولى من المادة 74 من قانون الدرك الملكي : « تحرر فيالق الدرك على وجه العموم جميع محاضرها في نظيرين… »
5 – قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلي ، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي بقطعة من النار فليأخدها أو فليتركها » فالرسول الكريم يقضي هنا بحسب الظاهر والله يتولى السرائر ويلقي بكامل المسؤولية على من قضى له على نحو ما سمع منه صادقا كان أو كادبا .
6 – انظرمقالنا تحت عنوان “ لمن تمنح صفة الضبطية القضائية ؟ قراءة في الفصلين 19و20 من ق م ج “ منشور بجريدة الأحداث المغربية عدد 849 بتاريخ 15-05-2001 ركن عدالة صفحة 8 .
7 – جاء في المادة 76 من قانون الدرك الملكي : « يمكن استفسار رجال الدرك لتأييد محاضرهم . »
8 – مؤلف الدكتور فتحي سرورفي الموضوع ، الصفحة 345 .
9 – جاء في المادة 365 من قانون المسطرة الجنائية ما يلي : « يجب أن يستهل كل حكم أو قرار أو أمر بالصيغة الآتية : المملكة المغربية – باسم جلالة الملك وطبقا للقانون .
ويجب أن يحتوي على ما يأتي :… 8 – الأسباب الواقعية والقانونية التي ينبني عليها الحكم أو القرار أو الأمر ولو في حالة البراءة … »
10 – نصت المادة 302 من قانون الإجراءات الجنائية المصري على ما يلي : ” يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته ” .
11 – عن محاضرات في قانون المسطرة الجنائية للأستاذ الحبيب بيه ، السنة الثانية من السلك الثاني للإجازة في الحقوق ، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية جامعة الحسن الثاني عين الشق بالدارالبيضاء ، السنة الجامعية 1991/1992 .
12– في فرنسا وخلال سنة 1791 كان أحد القضاة الفرنسيين جالسا في شرفة منزله ، فشاهد بالصدفة مشاجرة بين شخصين انتهت بمقتل أحدهما وهروب القاتل فورا ، فأسرع أحد الأشخاص إلى مكان الجريمة وحمل الضحية إلى المستشفى لإسعافه ، لكن سرعان ما لفظ الأخير أنفاسه ، فحضرت الشرطة واعتقلت الشخص المنقد باعتباره القاتل المفترض وهو بريء من دلك ، ومن قبيل الصدف كان القاضي المدكورالدي عاين الجريمة هو من سيحكم في القضية ، وحيث أن القانون الفرنسي لا يعترف إلا بالدلائل والقرائن ، فقد حكم القاضي على الشخص البريء بالإعدام على الرغم من أن القاضي نفسه كان شاهدا على الجريمة التي وقعت وهو بشرفة منزله . وبمرور الأيام ظل القاضي يؤنب نفسه المعدبة بسبب إصداره لحكم على شخص يعلم علم اليقين أنه بريء ، ولكي يرتاح من عداب الضمير اعترف أمام الرأي العام بأنه أخطأ في هده القضية وحكم على بريء بالإعدام ، فثار الرأي العام ضده واتهمه بأنه ليس صاحب أمانة ولا ضمير ، ودات يوم أثناء النظر في إحدى القضايا وكان هدا القاضي هو نفسه رئيس المحكمة فاجئه محام وقف أمامه لكي يترافع في القضية مرتديا زيا أسود اللون ، فسأله القاضي :لمادا ترتدي هدا الزي الأسود ؟ فقال له المحامي :لكي أدكرك بما فعلته من قبل وحكمت ظلما على بريء بالإعدام ، ومند تلك الواقعة أصبح الأسود هو الزي الرسمي في مهنة المحاماة ، ومن فرنسا انتقل إلى باقي دول العالم . عن موقع “ المحاماة في فلسطين “ بالفيس بوك بتاريخ 2015/05/16 .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً