التكييف في القانون الدولي الخاص
مصطفى قربال
طالب باحث
مقدمة:
تستلزم عملية إسناد العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي الى القانون المختص تكييفها أولا, ذلك أن قواعد تنازع الاختصاص لاتضع الحلول لكل مسألة من المسائل, بل إنها تبين القانون الذي يحكم النازلة أو الواقعة المطروحة[1].
فتحديد طبيعة العلاقة القانونية موضوع النزاع وإرجاعها لنظام قانوني معين, هي مسألة أساسية يجب حلها أولا قبل كل شيئ, وتسمى عملية التحديد بالتكييف[2].
ومن أجل دراسة التكييف في القانون الدولي الخاص , سنعمل على تحديد مفهومه في نطاق تنازع القوانين, ثم التطرق لأهم الإتجاهات الفقهية بخصوص القانون الذي يتم بموجبه التكييف.
أولا: مفهوم التكييف
لقد عرف الفقه التكييف بأنه : ” تحديد طبيعة المسألة التي تتنازعها القوانين, من أجل وضعها في نطاق طائفة من النظم القانونية, لكي يسند حكمها الى قانون معين”[3] .
إن التكييف بحد ذاته لم يكن مسألة قانونية خاصة بالقانون الدولي الخاص, بل إن وجوده يشمل جميع فروع القانون ولاسيما القانون الداخلي, ولكنه متى ظهر في الميدان الدولي فإنه يثير تنازعا آخر, ويعود هذا التنازع أساسا لإختلاف المفاهيم القانونية من دولة لأخرى[4].
فإذا أردنا تطبيق قاعدة الإسناد لتحديد القانون المختص في حكم العلاقة القانونية موضوع النزاع, ينبغي أولا أن نعرف ما إذا كانت هذه العلاقة من مسائل الأهلية ليتم إخضاعها الى قانون الدولة التي ينتمي إليها الشخص[5], أما إذا كانت من أعمال التصرف[6], فإن قانون البلد الذي تمت فيه هو الذي سيحكمها, وفي حالة ما إذا كان النزاع يتعلق بالميراث فإن قانون المتوفى هو الواجب التطبيق[7].
فعلى الرغم من توافق القانون الفرنسي والقانون الهولندي بإخضاع شكل العقد الى قانون بلد تحريره وإخضاع أهلية الأطراف الى قانون جنسيتهم, فقد ظهر تنازع وخلاف في تكييف علاقة قانونية تتعلق بوصية لشخص هولندي وقع تحريرها في فرنسا بالشكل العرفي والخالف لأحكام القانون الهولندي في تحرير المعاملات [8].
ثانيا : النظريات الفقهية في مجال التكييف
إذا كان التكييف عملية أولية سابقة على تطبيق قاعدة الإسناد, فإن القاضي يواجه بإشكالية بيان القانون الذي بموجبه يتم تكييف موضوع النزاع وإسناده الى إحدى الفئات القانونية التي تنظمها قواعد الإسناد.
وقد طرحت في هذا الصدد ثلاث نظريات :
أ/ إخضاع التكييف للقانون المقارن :
لقد إعتبر الأستاذ Rabel[9] والذي يتزعم هذه النظرية, أن التكييف يجب أن يخضع الى قواعد القانون المقارن, أي أن يقوم القاضي بتوصيف العلاقة في ضوء مفاهيم عالمية بمعزل عن المفاهيم الوطنية الواردة في قانونه[10], وبعبارة أخرى أن يقوم القاضي بعملية تكييف موضوع النزاع بصورة مستقلة ومنفصلة عن مفاهيم القانون الداخلي, وذلك دون التقييد أيضا بقانون دولة معينة[11].
فإذا نص قانون القاضي مثلا على أن الأهلية تخضع لقانون الجنسية, فإن مفهوم الأهلية يجب أن لا يتحدد وفقا لقانون القاضي فقط أو بموجب جنسية الشخص فحسب, بل يجب أن يرجع في ذلك أيضا الى المفهوم العالمي بهذا الشأن[12].
ب/ إخضاع التكييف للقانون الذي يحكم النزاع[13]
يرى هذا الإتجاه أن تحديد طبيعة العلاقة أو الواقعة محل النزاع, يجب أن تتم وفقا للقانون المختص بحكم موضوع هذا النزاع, ويبرر أنصار هذا النظام إتجاههم هذا بقولهم, أن القانون إذا ما أشار بموجب حل النزاع وفقا لقانون ما, فإن هذا القانون يجب أن يحكم العلاقة بشكل كامل, بما في ذلك تكييف العلاقة ووصفها كي تتحقق العدالة المتوخاة من تطبيق القانون الأجنبي المختص, لأن تحقيق العدالة لا يتم إلا بإعطاء القانون المشار إليه صفة الإختصاص بصورة كاملة للقواعد الموضوعية التي تحكم العلاقة, وكذا القواعد المتعلقة بالتكييف[14].
ج/ إخضاع التكييف لقانون القاضي :
يرى أنصار هذا الإتجاه[15] أن تحديد طبيعة العلاقة موضوع النزاع , يكون بموجب قواعد قانون القاضي, بحيث يتعين على هذا الأخير النظر في هذه العلاقة من خلال المفاهيم الوطنية الواردة في قانونه الداخلي[16].
وبالنسبة للقانون المغربي, فيلاحظ أن ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب, لم يتطرق لمسألة التكييف, وبذلك فإن القضاء المغربي يسير في إتجاه الأخذ بنظرية التكييف وفقا لقانون القاضي[17].
خاتمة :
لقد حاونا من خلال هذه الدراسة الموجزة للتكييف بإعتباره عملية سابقة لتحديد طبيعة النزاع, قصد معرفة القانون الواجب التطبيق, الإحاطة بأهم المفاهيم المؤطرة له ثم دراسة أهم النظريات التي تحكم هذه العملية والصعوبات التي تواجه القاضي عند تكييفه للنزاع وإسناده للقانون الواجب التطبيق.
المراجع
[1]لا تثار مشكلة التكييف فقط في القانون الدولي الخاص, بل هي مسألة أساسية تفرض نفسها على القاضي في مختلف فروع القانون الأخرى, فعلى مستوى القانون المدني غالبا ما يصطدم القاضي بمشكلة التكييف حينما يتصدى مثلا لتحديد الوصف السليم للرابطة التعاقدية المطروحة أمامه, لمعرفة ما إذا كان العقد موضوع النزاع هو عقد بيع أو هبة أو إيجار..
ونفس الأمر يثار في في إطار القانون الجنائي, بحيث يتعين على القاضي وصف الفعل الذي إقترفه المتهم لمعرفة ما إذا كان يعد من قبيل السرقة أو النصب.
أشار إليه : عزيز إطوبان , القانون الدولي الخاص, القسم الثاني – تنازع القوانين- جامعة الحسن الثاني , كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية المحمدية . بدون ذكر المطبعة . ط 2016 , ص 7
[2] حسن الهداوي , القانون الدولي الخاص , تنازع الإختصاص – المبادئ العامة والحلول الوضعية في القانون الأردني , دراسة مقارنة- , مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع , عمان . ص 52
[3] أحمد عبد الحميد عشوش, القانون الدولي الخاص , جامعة بنها . مصر . بدون ذكر المطبة أو الطبعة . ص 263 .
[4] حسن الهداوي, مرجع سابق ص 53
[5] ومثالها الفصل 8 من ظهير الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب الذي أخضع شروط الزواج الجوهرية للقانون الوطني لكل من الزوجين.
[6] أنظر الفصل 10 من ظهير 12 غشت 1913 بشأن الوضعية المدنية للفرنسيين والأجانب
[7] أنظر الفصل 18 من نفس الظهير السابق .
[8] لقد أثار ورثة هولنديون أمام المحاكم الفرنسية نزاعا يتعلق بوصية حررها هولندي في فرنسا بالشكل العرفي أي بخط يده, إلا أنها لم تكن موثقة بالشكل الرسمي كما يشترط القانون الهولندي, ومنه قدم الورثة طعنهم بعدم صحة الوصية لمخالفتها للمادة 992 من القانون الهولندي التي تمنع الهولنديين ولو في الخارج من إجراء الوصية بكتابتها بخط الوصي, وتستلزم إبرامها بشكل رسمي لدى الجهات المكلفة بتحرير العقود الرسمية. وقد تأسس دفاع الموصى له على أن القانون المختص بشكل الوصية هو القانون الفرنسي. وقد ذهبت المحكمة الفرنسية في حكمها الصادر في 23/3/1944 بأمه في حالة رفع دعوى أمام المحاكم الفرنسية يثار النزاع فيها
حول صحة الوصية الخطية الهولندي، يتعين الرجوع إلى القانون الفرنسي لتكييف الشكل المطلوب، ولما كان القانون يعتبر شكل الوصية سواء خطياً أو رسمياً مسألة تدخل في نظام شكل التصرفات، فبالتالي يخضع للقانون الفرنسي وهو يقضي بصحة هذه الوصية.
أشار إليه : حسن الهداوي مرجع سابق ص 53- 54
[9] يرى الأستاذ روبل أن الغرض من قواعد تنازع القوانين هو سد حاجة المعاملات الدولية وبهذا يجب إتباع الفكرة المجردة المستقاة من قوانين الدول المختلفة.
– M. Robel . Revue De Droit International Privé . 1933 p 26
أشار إليه حسن الهداوي مرجع سابق ص 54
[10] عزيز إطوبان. مرجع سابق ص 9-10
[11] حسن الهداوي مرجع سابق . ص 55
[12] أحمد عبد الحميد عشوش مرجع سابق .ص 271
[13] يعتبر الفقيه الفرنسي دسببانييه Despagnet المؤسس لنظرية إخضاع التكييف للقانون الذي يحكم النزاع .
[14] حسن الهداوي . مرجع سابق ص 55- 56
[15] تزعم هذا الإتجاه الفقهي كل من الأستاذ Bartin والأستاذ Khan
[16] لقد برر Bartin إخضاع التكييف لقانون القاضي بفكرة السيادة, فالمشرع الوطني عند تنازله للقانون الأجنبي للجكم في علاقة قانونية على إقليم دولته فهو يضحي بجزء من سيادته لفائدة قانون الدولة الأجنبية الذي سيطبق على موضوع النزاع, وما دام أساس إختصاص هذا القانون هو التنازل , فيجب التقييد بحدوده وعدم التوسع فيه, وبعبارة أخرى لا ينبغي تطبيق القانون الأجنبي إلا بمقدار ما أجازه المشرع الوطني, ولما كان المشرع الوطني لم يخضع التكييف لقانون آخر فإن القاضي لا يستطيع إجراء التكييف وفق قانون آخر غير قانونه.
أشار إليه حسن الهداوي . مرجع سابق .ص 59
[17] محمد موساوي . قاعدة الإسناد في القانون الدولي الخاص المغربي (دراسة مقارنة) المطبعة والوراقة الوطنية مراكش 2002. ص 124
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً