ان الادعاء بحق او بأية رابطة قانونية امام القضاء ينقسم الى عنصرين هما عنصر الواقع وعنصر القانون… وسنتناول في هذا الموضوع هذه العناصر بشيء من التركيز وذلك ضمن الفرعيين الآتيين:
الفرع الاول : عنصر الواقع
وعنصر الواقع هو مصدر الحق المدعى به ، اي التصرف القانوني او الواقعة القانونية التي انشأت هذا الحق(1) وهذا العنصر هو وحده الذي يطالب المدعى بأثباته(2) والاثبات هنا يتناول في الغالب مسألة موضوعية يختص بها قاضي الموضوع دون رقابة من المحكمة التمييز في العراق او النقض في مصر(3) ولاتتناول مسألة القانون الا في احوال نادرة(4) فالرقابة هنا تكون فيما يرسمه القانون من القواعد قانونية للأثبات يلتزم القاضي بتطبيقها في السماح للخصوم في اثبات هذه المسائل(5) ولتوضيح ذلك نقول انه: مثلا” اذا ما رفع المشتري على البائع دعوى يثبت ملكيته للعقار الذي اشتراه ،فان بثبوت عقد البيع مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة التمييز او النقض ولكن وجوب اثبات البيع اذا زادت قيمته على مبلغ محدد بالكتابة (6)او بما تقوم مقامها مسألة قانونية تخضع لهذه الرقابة(7) فالقاضي يراقب الخصوم في اثبات الواقع من ثلاث نواحي:
اولا”:- فيما يتعلق بتوافر شروط الاثبات(8)
وثانيا”:- فيما يتعلق بوسيلة الاثبات التي يستخدمها الخصم وهل هي وسيلة مقبولة ام غير مقبولة .
ثالثا”:- فيما يتعلق بتكييف الخصم للوقائع التي قام بأثباتها(9) .
وتجدر الاشارة الى ان رقابة القاضي لتكييف الوقائع مسألة دقيقة لانها تستجيب من ناحية الى مبدأ من المبادئ المستقرة في القانون وهي ان تكييف العلاقات القانونية مسألة قانونية يفصل فيها القاضي من تلقاء نفسه بغض النظر عن ارادة الخصوم ، و لأنها قد تؤدي الى الحكم للمدعى بحقه على اساس اخر من مصادر الحق غير المصدر الذي تمسك به المدعى نفسه من جهة اخرى (10)ومع ذلك من شبهة التغيير في سبب الدعوى وهوما يمتنع على القاضي ) قانونا(11)”
الفرع الثاني : عنصر القانون
اما عند الحديث عن العنصر الثاني من عناصر الادعاء في قانون الاثبات فنقول هنا انه استخلاص الحق من مصدره بعد ان يثبت الخصم هذا المصدر، اي تطبيق القانون على ما ثبت لدى القاضي من الواقع، وهذا من عمل القاضي وحده، لا يكلف الخصم اثباته، فالقانون لا يكلف احدا” هذا الاثبات، بل على القاضي ان يبحث من تلقاء نفسه عن القواعد القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت عنده من الواقع فبطبقها(12) وهو في تطبيقها يخضع لرقابة محكمة التمييز او النقص (13) ففي المثال الذي سقناه انفا”، نقول هنا انه وبعد اثبات عقد البيع بالكتابة، يكون على القاضي ان يستخلص منه الت ا زما” في ذمة البائع بنقل ملكية العقار المبيع للمشتري، وعلى القاضي ان يستخلص ايضا” ان الملكية لا تنتقل فعلا” الى المشتري الا بتسجيل عقد البيع، وكل هذه المسائل قانونية دون ان يكلف احدا” من الخصمين بأثباتها، فهي ليست محلا” للأثبات اذ المفروض ان القاضي هو اول من يعلم وقد ناطت الدولة به تطبيقه، بل ان القاضي لا يستطيع ان يمتنع عن القضاء بحجة انه لا توجد قانونية يمكن تطبيقها ،وان امتنع عد امتناعه نكولا” عن اداء العدالة(14)
ويرى جانب من الفقه ان القاعدة القانونية التي يقضي بوجوب ان يبحث القاضي من تلقاء نفسه عن القواعد القانونية الواجبة التطبيق هي التي ادت الى قيام تلك القاعدة المعروفة التي تقضي بحواز اثارة وجوه للطعن جديدة في الاستئناف دون التمييز مثلا(15) . ذلك ان القاضي محكمة الدرجة الاولى ملزما” بالبحث من تلقاء نفسه عن جميع القواعد القانونية التي يجب تطبيقها ف ي الدعوى فاذا قصر في البحث ،جاز للمحكمة الاستئناف ومن تلقاء نفسها كذلك ان هذا النقص، ومن ثم جاز للخصوم ايضا”ان يثيروا وجوها” قانونية جديدة لم تسبق لهم اثارتها امام محكمة الدرجة الاولى على اعتبار ان هذه المحكمة كان من الواجب عليها ان تثير هذه الوجوه القانونية من تلقاء نفسها(16) وجدير بالذكر هنا ان الوقائع القانونية تقسم الى تصرفات القانونية ووقائع مادية وتبدو اهمية هذا التقسيم في مجال الاثبات فالتصرف القانوني يجب اثباته ،كقاعدة عامة بالكتابة مالم تقل قيمته عن حد معين ،هنا يجوز اثباته بشهادة الشهود اما الوقائع المادية فيجوز اثباته بكافة طرق الاثبات(17) وايضا” نلاحظ انه من مقرر حواز اثبات الواقعة المادية بكافة طرق اثبات وهذا تقتضيه الاعتبارات العلمية، وبهذا لا يلتزم المضرور من جريمة بوسيلة معينة من وسائل الاثبات عندما يطالب بالتعويض الخاص بالضرر الذي اصابه من جرائها(18) كذلك يجوز اثبات الواقعة الميلاد والوفاة بكل طرق الاثبات ، واذا كان القانون ينص على ان الميلاد والوفاة تثبت بالسجلات الرسمية معدة لذلك (19) الا ان هذا ليس سبيل الوحيد لاثبات هاتين الواقعتين لانه اذا لم يوجد هذا الدليل أو اذا تبين عدم حجة ما جاء بالسجلات فان الاثبات يجوز بأية وسيلة اخرى وذلك لان الميلاد والوفاة واقعتان ماديتان يمكن أقامه الدليل عليها بجميع طرق الاثبات.. وهذا ما اكدت علية محكمة النقيض المصرية في قرار لها في هذا الخصوص عندما نصت على انه)…مفاد نص المادة 30 من القانون المدني ان الاصل ان شهادة الميلاد وشهادة الوفاة كافيتان الا اذا اثبت ذوو الشأن عدم صحة ما ادرج في السجلات او اذا لم توجد شهادة الميلاد او شهادة الوفاة لأي سبب من الاسباب فيجوز عندئذ الاثبات بجميع الطرق (20)
_______________
1- ينظر: د.سمير عبد السيد تناعوا، نظرية الالتزام، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1975 ،ص 620
2- د. عبدالرزاق السنهوري،الوسيط في شرح القانون المدني الجديد،نظرية الالتزام، بوجه عام الاثبات-اثار الالتزام،ط 3،منشورات الحلبي الحقوقية ،بيروت-لبنان، 2011، ص 49
3- د. عصمت عبدالمجيد بكر،اصول الاثبات،ط 1،اثراء للنشر والتوزيع،عمان، 2012 ص 83 ،ود. عابد فايد، نظام الاثبات في المواد المدنية والتجارية،ط 1،دار النهضة 2006 العربية،القاهرة 2005، ص 51
4- ينظر: د.احمد ابو الوفا ، التعليق على نصوص قانون الاثبات ، منشأة المعارف، الاسكندرية 1986 ،ص 14 ،ومابعدها ،
5- وينظر لمزيد من التفصيل:- د.فتحي عبدالرحيم عبدالله ود.احمد شوقي محمد عبدالرحمن ،احكام الاثبات، مكتبة الجلاء، المنصورة، ص 45
6- اذا اجازت المادة 78 من قانون الاثبات العراقي النافذ الاثبات بالشهادة في التصرفات القانونية حتى لوكان التصرف المطلوب تزيد قيمته على 5000الف دينار اذا وجد مبدأ الثبوت بالكتابة هو كل كتابة تصدر من الخصم يكون من شأنها ان تجعل وجود الحق المدعى به قريب الاحتمال.وتقابل هذه المادة العراقية المادة 62 /ف 1التي لم تذكر مبلغ محدد،والمادة 30 /ف 1من القانون اثبات الاردني الجديد النافذ والرقم 37 لسنة 2001 المعدل الذي نص على مبلغ مائة دينار،والمادة 56 من القانون الاثبات السوري النافذ ذو الرقم 359 لسنة 1947 الذي نص على مبلغ ال 500 ليرة،اما في الولايات المتحدة الامريكية فلم يحدد مبلغ لذلك..ينظر:
Eric D Green Federal Rules of Evidence Aspen publisher New York 2003 p:107
7- د. عبدالرزاق السنهوري،مصدر سابق،ص 49
8- وهي ان تكون الواقعة التي يثبتها الخصم متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها ومن جائز اثباتها.
9- ينظر : د.سمير عبد السيد تناغو، النظرية العامة في الاثبات، بدون طبعة ودار نشر، 1999 ،ص 51
10- د.سمير عبد السيد تناغو ،مصدر سابق، النظرية العامة في الاثبات، ص 51
11- ينظر: د.هشام علي صادق، المقصود سبب الدعوى الممتنع على القاضي تغييره، بحث منشور في مجلة المحاماة
المصدرية، السنة الخمسين، نيسان، 1970 ،ص 76 ومابعدها.
12- د.عبدالرزاق السنهوري، مصدر سابق، ص 49 ،ود.احمد منشآت ،رسالة الاثبات ،ج 1،بدون طبعة وجهة نشر، 2008 ،ص 32 ومابعدها ،ومحمد علي الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الاثبات، ج 1،مطبقة شفيق، بغداد، 1983 ،ص 54
13- وهذا بعكس العنصر الاول، عنصر الواقع، وهو كما ذكرنا مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة التمييز او النقض .
14- د.سمير عبد السيد تناغو، مصدر سابق، النظرية العامة في الاثبات، مصدر سابق، ص 50 ومابعدها، ود.احمد ابو الوفا، مصدر سابق ص 14
15- ينظر :- د.قدري عبدالفتاح الشهاوي ، الاثبات مناطة وضوابطه ، منشأة المعارف، الاسكندرية 2002 ،ص 45 ،ود.عبدالباسط جميعي ،نظم الاثبات في القانون المدني المصري، ط 1،بدون سنة طبع، القاهرة، 1953 ،ص 11 ،ومابعدها
16- د . قدري عبدالفتاح الشهاوي، الاثبات، مناطة وضوابطه، منشأة المعارف، الاسكندريه، 2002، ص 46.
17- ينظر: د توفيق حسن فرج وعصام توفيق حسن فرج ، قواعد الاثبات في المواد المدنية والتجارية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان، 2003، ص 47
18- ولايغير من ذلك ما درج عليه العمل من تحرير محضر عن طريقة الشرطة في حالة وقوع الجريمة، فليس هذا في الحقيقة الا وسيلة للتيسير في الاثبات الواقعة ،كما انها قد تكون اكثر ضمانا” من الشهادة الشهود…ينظر : د.عابد فايد ،مصدر سابق، ص 52 .
19- ينظر :المادة 35من القانون المدني العراقي النافذ ذو الرقم 40 لسنة 1951 النافذ المعدل ،والمادة 30 من القانون المدني المصري النافذ ذو الرقم 131 لسنة 1948 المعدل ،والمادة 72 من القانون المعاملات المدنية الاماراتي النافذ ذو الرقم 5لسنة 1985 المعدل.
20- قرار محكمة النقض المصرية المرقم 2230 ،احوال الشخصية، 87 في 2/4/1987 السنة 52 ق مشار الى القرار لدى :د.عابد فايد،مصدر سابق،ص 55
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً