لا شك ان القاضي مقيد باحكام القانون عند بحثه عن الحقيقة وتمحيصه الادلة وصولا الى القرار العادل، فكلما كانت احكام او قواعد او وسائل الاثبات تتصف بالمرونة اتاحت للقاضي مرونة ايضا لسلطته في توجيه الدعوى وتقريب الدليل المقنع واستبعاد الدليل الذي لا تركن اليه الحقيقة، فالقاضي لا يمكنه الاخذ بالدليل الا اذا كان منسجما مع احكام القانون، وعلى سبيل المثال لا يجوز له ان يحكم بعلمه الشخصي(1)، ولا قبول من لا تقبل شهادتهم بل ان واجبه ان يتفحص الادلة المقدمة اليه من الخصوم ويوازن بينها عقلا ومنطقا وينظر الى مدى مطابقتها لاحكام القانون لكي يكون قناعته القضائية حولها وصولا الى القرار العادل بعد ان يكون قد بحث عن الحقيقة بحثا فقهيا وقضائيا وبعد ان يفسر في ذهنه المادة التي يرى انطباقها على الواقعة المعروضة امامه ويجد صعوبة في ذلك كلما اعتراها الغموض فيلجا الى التوغل في اعماق واهداف المشرع وعلة ذلك النص وان لا يفسر المادة القانونية تفسيرا مرنا بعيدا عن العدل والحق.
وبالتمعن في نصوص قانون الاثبات العراقي الحالي رقم 107 لسنة 1979 نجد المشرع العراقي في هذا القانون سلك طريقا وسطا هو اقرب الى مذهب الاثبات المطلق منه الى الاثبات المقيد وهو ما يسمى بمذهب الاثبات المختلط الذي يحاول الجمع بين ادلة الاثبات المقيد أي توافر ادلة معينة بالذات لا يجوز للخصم اثبات ما يديعه بدليل اخر سواها وانما مقيد بالادلة المنصوص عليها في احكام القانون والاثبات المطلق الذي يقبل أي دليل سواء ورد في النصوص القانونية ام لم ترد وحيث ان لكل من المذهبين حسناتهما ومساوئهما لذلك نجد المشرع في مجال نصوص قانون الاثبات حاول ان يجمع بين حسنات كلا المذهبين وصولا الى موازنة صحيحة تخدم سير العدالة عن طريق اعطاء القيد والحرية لقاضي الموضع في الوقت الذي تعرض امامه القضية ولكون القاضي ملزما بتحري الوقائع لاستكمال قناعته واعطى للمحكمة حق اتخاذ أي اجراء من اجراءات الاثبات الضرورية في سبيل كشف واظهار الحقيقة.
ان عملية الاثبات تقوم بالدرجة الاساس او تستند الى ثلاثة اركان تعرف بالواقعة القانونية المتنازع عليها عرضت امام القضاء للفصل فيها ووجود النص القانوني الذي يحكم تلك الواقعة ووجود دليل الاثبات. ان هذا يتطلب من قاضي الموضوع ان يتحرى عن الحقيقة جهد امكانه وان يتحرى عما يكتنف الواقعة المعروضة امامه من غموض او خلفيات وعليه التعمق في بحثه حتى في اعماق المتخاصمين وتحيل ادلة القضية لتكوين قناعته التي تساعده على اصدار قراره العادل وهو مرتاح الضمير؛ لان من المتعارف عليه سلفا ان اثبات القاعدة القانونية المشرعة على عاتق القاضي لانه هو الذي ينبغي عليه ان يعرف القانون لكن من مستلزمات الحكم العادل هو فهم القاضي للواقعة القانونية وفهم نص المشرع الذي ينطبق على الواقعة. ليس ثمة ريب انه مهما كانت درجة النضج العقلي والحضاري لأي مجتمع فان ذلك يتتبع حتما وجود العديد من العلاقات الاجتماعية المتنوعة بين الافراد وهي علاقات اذا لم تكن توجد قواعد تنظم هذه العلاقات المتنوعة بطبيعة الحال ذلك يؤدي الى سيادة الفوضى ولجوء كل فرد لتنظيم علاقاته وفق هواه. ان موضوع الدعوى يتجرد من كل قيمه اذا لم يقم الدليل على الحادث الذي يستند اليه، فالدليل قوام الحق، وبهذا فان حق المدعي يتجرد من قيمته ما لم يقم الدليل امام القضاء على تعيين حقيقة صاحب الحق وثبوت احقيته به.
________________
1- م(8) اثبات عراقي:(ليس للقاضي ان يحكم بعمله الشخصي الذي حصل عليه خارج المحكمة و مع ذلك فله ان يأخذ بما يحصل عليه من العلم بالشؤون العامة المفروض المام الكافه بها )؛ قرار محكمة تمييز العراق رقم 469، ح، 1966 في 25، 4، 1966، قضاء محكمة تمييز العراق، المجلد الرابع، ص4.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً