يعتبر القانون المدني الفرنسي، والقوانين المستمدة منه، التدليس، والغبن عيبين مستقلين من عيوب الرضا، وقد اعتبر القانون المدني المصري التدليس، عيب من عيوب الرضا، لكن القانون المدني العراقي خالف القوانين المدنية الغربية، والقانون المدني المصري متاثرا بالفقه الاسلامي، فلم يعتبر التغرير لوحده، ولا الغبن لوحده عيبا من عيوب الرضا، بل اعتبرهما اذا اجتمعا عيبا واحدا، فلم يعتبر التغرير عيبا مفسدا للرضا الا اذا نشا عنه غبن، ولا الغبن، في الاصل، عيباً الا اذا نشا عن تغرير، وقد اقتفى المشرع العراقي في ذلك اثر الفقه الاسلامي في بعض مذاهبه. وبهذا الخصوص اشارت م (164) من مجلة الاحكام العدلية الى ان التغرير هو ( توصيف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية) والمادة (165) الغبن الفاحش (غبن على قدر نصف العشر في العروض والعشر في الحيوانات والخمس في العقار او زيادة).
ونص م (121) مدني عراقي على انه (1- اذا غرر احد المتعاقدين بالأخر وتحقق ان في العقد غبناً فاحشا كان العقد موقوفا على اجازة العاقد المغبون، فاذا مات من غرر بغبن فاحش تنتقل دعوى التغرير لوارثه). ويعرف التغرير بانه (يجعل العاقد في حالة يعتقد معها انه اخذ الشيء بقيمته الحقيقية والحقيقة غير ذلك)(1)، ( هو ذكر احد المتعاقدين للاخر امورا ترغبه في الاقدام على التعاقد معه، او يقوم باجراءات فعلية تدفعه الى التعاقد معه)(2). ويعرف الغبن بانه (هو عدم التعادل عند تمام العقد بين ما يدفعه المتعاقد وما ياخذه)(3). واوضحت المادة (142) من القانون المدني الاردني (التغرير هو ان يخدع احد العاقدين الاخر بوسائل احتيالية قولية او فعلية تحمله على الرضا بما لم يكن ليرضى به بغيرها). اما القانون المدني المصري فقد منح عيب التغرير مع الغبن المشار اليه في بعض القوانين المدنية كالقانون المدني العراقي والاردني تسميه عيب التدليس حيث نصت المادة (125) على انه:- (1- يجوز ابطال العقد للتدليس اذا كانت الحيل التي لجا اليها احد المتعاقدين او نائب عنه من الجسامة بحيث لولاها لما ابرم الطرف الثاني العقد).
كما اوضحت المادة (126) على انه: (اذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه ان يطلب ابطال العقد ما لم يثبت ان المتعاقد الاخر كان يعلم او كان من المفروض حتما ان يعلم بهذا التدليس). وهاتان المادتان تطابقهما المادتان (125) و (126) من القانون المدني الليبي، والمادتان (126) و (127) من القانون المدني السوري، وبالرؤية التشريعية نفسها يتفق قانون الموجبات والعقود اللبناني في احكامه مع احكام نصوص القانون المصري. فقد نصت المادة (208) على (ان الخداع لا ينفي على الاطلاق وجود الرضا، ولكنه يعيبه ويؤدي الى ابطال العقد اذا كان هو العامل الدافع اليه والحامل للمخدوع على التعاقد. اما الخداع العارض الذي افضى الى تغيير بنود العقد ولم يكن هو العامل الدافع الى انشائه فيجعل للمخدوع سبيلا الى المطالبة ببدل العطل والضرر فقط). ونصت المادة (209) على (ان الخداع الذي حمل على انشاء العقد لا يؤدي الى ابطاله الا اذا كان الفريق الذي ارتكبه قد اضر بمصلحة الفريق الاخر. أما الخداع الذي يرتكبه شخص ثالث فيكون هادما للعقد ايضا اذا كان الفريق الذي يستفيد منه عالما به عند انشاء العقد. اما اذا كان غير عالم به فلا يحق للمخدوع الا مداعاة المخادع ببدل العطل والضرر).
لقد اعطى السنهوري لكلمة التدليس تعريفا هو استعمال احد المتعاقدين طرقا احتيالية لتضليل المتعاقد الاخر تضليلا يحمله على التعاقد(4). ومن خلال هذه الرؤية الفقهية الموجزة، التي يتضح فيها ان التغرير مع الغبن يتحقق باستخدام الوسائل الاحتيالية غير المشروعة، معتمدا احد المتعاقدين فيها على ابرام العقد مع الطرف الاخر، مما يشكل عيبا يعيب الرضا، ويؤثر في سلامة العقد المبرم، ويقع اثباته على عاتق من يدعيه، ولهذا يسمح القانون لمدعي التغرير مع الغبن اثباته بطرف الاثبات كافة، لكونه من الوقائع المادية، ويعتبر حصول الوقائع المكونة له مسالة موضوعية خاضعة لسلطة القاضي التقديرية. اما عن الوصف القانوني لهذه الوقائع، فيما اذا كان التدليس الصادر من الغير يؤثر في صحة العقد، فيعتبر مسالة قانونية تخضع لرقابة محكمة التمييز(5).
ومن التطبيقات القضائية بهذا الخصوص:
(اذا رافقت الدليل الكتابي غش وتدليس فيجوز للخصم ان يثبت خلاف هذا الدليل بكافة وسائل الاثبات بما فيها الشهادات والقرائن القضائية)(6). (اذا طالب البائع بثمن المبيع ودفع المدعي عليه بان المبيع مخالف للعقد، وان عقد البيع فيه غبن كان على المحكمة ان تمهل المدعي لاقامة دعوى فسخ العقد للسببين المذكورين مع ملاحظة نص المادة (124) من القانون المدني العراقي (1- مجرد الغبن لا يمنع من نفاذ العقد ما دام لم يصحبه تغرير)(7) (اذا اخفى العاقد اسم المالك المعقود عليه كعدم ذكر المالك في عقد الايجار، كان هذا الاخفاء تغريرا من العاقد المؤجر يتعين معه تعويض المستاجر عما لحقه من اضرار بسبب هذا العقد، لاحظ بهذا الخصوص نص المادة (123) مدني عراقي: يرجع العاقد المغرور بالتعويض اذا لم يصبه الا غبن يسير او اصابة غبن فاحش وكان التغرير لا يعلم به العاقد الاخر ولم يكن من السهل عليه ان يعلم به او كان الشيء قد استهلك قبل العلم بالغبن او هلك او حدث فيه عيب او تغيير جوهري ويكون العقد نافذا في جميع الاحوال)(8).( يعتبر حصول الوقائع المكونة للتدليس مسالة موضوعية، يستقل بتقديرها قاضي الموضوع، ولا يخضع فيها لرقابة محكمة النقض، اما الوصف القانوني لهذه الوقائع، كالفصل فيما اذا كان الكتمان يكفي لقيام التدليس، وفيما اذا كان التدليس الصادر من الغير يؤثر في صحة العقد، فانه يعتبر مسالة قانونية، يخضع فيها لرقابة محكمة النقض)(9).( يجب ابطال العقد للتدليس اذا كانت الحيل التي لجا اليها المدلس من الجسامة بحيث لولاها لما ابرم الطرف الثاني العقد وثبت ذلك بالبينة الشخصية)(10).
_______________
1- احمد الكبيسي، مصادر الغبن والتعزيز في عقد البيع في الفقه اسلامي، مجلة العلوم السياسية والقانونية جامعة المستنصرية، العدد (2) لسنة 1977، ص170.
2- منير القاضي، ملتقى البحرين، مطبعة العاني بغداد، 1951، ص196.
3- منير القاضي، ملتقى البحرين، ص197.
4- السنهوري، نظرية العقد، ص391.
5- د. ادريس العبدلاوي، وسائل الاثبات في التشريع المدني المغربي، القواعد العامة، ج1.ط1، 1971، ص229؛ د. امجد محمود منصور، النظرية العامة للالتزامات، مصادر الالتزام، ط1، دار الثقافة للنشر و التوزيع، عمان، الاردن، 2001ص111؛ د. عدنان ابراهيم السرحان، د. نوري حمد خاطر، مصادر الحقوق الشخصية، دار الثقافة النشر و التوزيع، عمان، الاردن، 2001 ص156؛ د. عبد المنعم فرج الصره، محاضرات في القانون المدني، نظرية العقد في قوانيين البلاد العربية، ج3، معهد الدراسات العربية، جامعة الدول العربية، ج1، (التراضي)، ص187؛ د. محمد جابر الدوري، عيوب الرضا ومدلولاتها الفلسفية في التشريعات المدنية، طبعت بمطبعة الشعب، بغداد، ص92؛ د. محمد فتح الله النشار، احكام و قواعد عبء الاثبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، مصر، 2000، ص312.
6- قرار محكمة تمييز العراق رقم 196 /م2/972، النشرة القضائية، العدد2 السنة الثالثة، ص12، نقلا عن الاستاذ ابراهيم المشاهدي، المبادئ القانونية لمحكمة التمييز. القسم المدني.
7- قرار محكمة تمييز العراق رقم 1507/ح/1956 في 7/11/1956، العلام، المبادئ القضائية، ص129.
8- قرار محكمة التمييز رقم 556/ب/1948 في 18/11/1948 نقلا عن الاستاذ المبادئ القضائية، القسم المدني، لاحكام محكمة التمييز، عبد الرحمن العلام، مطبعة العاني، بغداد، 1957م ، ص165.
9- قرار محكمة النقض المصرية رقم 20/2/1936، مجموعة القواعد القانونية ج1، ص1049 رقم 327.
10- نقض سوري 747 في 8/4/1958. ق239/1958 نقلا عن ممدوح العطري واسعد الكوراني، قانون البينات في الفقه والاجتهاد، القسم الاول، المطبعة الحديثة، حماة، ص232.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
5 يوليو، 2018 at 1:49 ص
كلام جميل وشرح مفصل