موضوع القصد الجزائي
بقلم الاستاذ ايهاب الروسان
الجريمة هي فعل أو امتناع ، يحظره القانون ويقرر عقوبة لمرتكبه ، وأنه لكي تقوم الجريمة قانونا ينبغي أن تجتمع لها عدة أركان ، أولها الركن الشرعي أو القانوني ، وثانيهما الركن المادي أما ثالثهما فهو الركن المعنوي .
فمن المبادئ الراسخة في القوانين الجزائية المعاصرة هو المبدأ القاضي بأنه لا عقوبة بدون خطأ .
وإذا كان المبدأ المذكور قد اعترف الفقه الحديث بوجوده صراحة ، فليس ذلك أنه كشف جديد لم يعرفه القانون الجنائي عبر تطوره التاريخي . لكن ينبغي التنبيه إلى أن تمسك الفقه الجزائي الحديث بمبدأ لا عقوبة دون خطأ يختلف في مداه وفي قوته باختلاف المدارس .. ودون الدخول في تفصيلات تخرج عن مقام لبحث نود الإشارة إلى انه كلما ارتبط الجزاء الجزائي بفكرة العدالة كلما اتسع نطاق المبدأ ورسخت قواعده . بينما التركيز على الدفاع الاجتماعي كأساس لرد الفعل حيال الجريمة يشكل خطورة على المبدأ إلى الحد الذي يهدد بإلغائه كلية .
كما أن القانون الجزائي يتأسس على مبدأ آخر هام مقتضاه أنه لا جريمة لمجرد التفكير ألجرمي ، ذلك أن الجريمة لا تتحقق إلا إذا تجسد هذا التفكير في كيان له طبيعة مادية ملموسة ، وهو ما اصطلح على تسميته بالركن المادي للجريمة ، وعلى هذا يمكن القول بأنه لا جريمة بدون الركن المادي ، بل أن الركن المادي هو شرط البدء في البحث عن توافر الجريمة من عدمه .
أما المفهوم الشخصي للجريمة فلا يرى فيها كيان ماديا خالصا ، وإنما ينبغي وفقا لأنصاره أن يكون هذا الكيان صادرا عن إرادة حرة وواعية ، وهكذا ينبغي تبعا لهذا التحليل أن يمتد مفهوم الجريمة ليشمل الخصائص الشخصية لمرتكب الفعل المادي .
فالركن المعنوي في الجريمة ركن أساسي لا يمكن للجرم أن يتكون قانونا دونه إلا إذا ورد نص صريح يعبر عن نية المشرع إقصاء هذا الركن من مقوماته . فبقراءة الفصل 313 من المجلة الجزائية يتضح أن هذا الفصل يكرس استثناءا وضحا من المبدأ الأساسي الوارد صلب الفصل 37 من المجلة الجزائية ، والذي يقضي بأنه لا يعاقب احد إلا بفعل ارتكب قصدا عدى ما استثناه القانون . ويرى البعض أن هذا الاستثناء لا يحتاج إلى نص ، باعتبار وأن المبدأ ذاته لا يحتاج إلى نص . فالقصد الجزائي في الجنايات والجنح حتى عند سكوت المشرع هو شرط مستقل يدخل بين الأركان العامة للجريمة ، ولا يختلف ذلك إلا عند صراحة القانون ، أما فيما يتعلق بالمخالفات فينبغي إتباع القاعدة المعاكسة ، فلا يقتضي وجود القصد فيها كشرط عام للإجرام ، إلا شذوذا وهذا لا ينتج إلا من نص قانوني .
ويكون بذلك الفصل 313 من المجلة الجزائية تعبيرا عن اتجاه المشرع في تبنى نظرية الجريمة المادية ، والمتمعن في الفصول المتعلقة بالمخالفات يلاحظ أن المشرع يقتصر على الركن المادي للتصريح بالتجريم وهي جرائم بسيطة تنم عن عدم خطورة شخصية مقترفها ، وربما يكون ذلك مبررا لاستبعاد القصد كشرط لازم لقيامها . فبمجرد ارتكاب الفعل تقوم مسؤولية المتهم وتعفى بذلك النيابة العمومية من إثبات أن هذه الجريمة تستند إلى ركن معنوي لدى فاعلها . فلا فرق بين وقوع المخالفة بصورة قصدية أو غير قصدية إذ أن مجرد تحققها يستوجب العقاب ، فالركن المعنوي ليس ركنا من أركان الجريمة ولكنه شرط نفساني لقيام مسؤولية الفاعل عن جريمة تكونت موضوعيا وبنية تحديد العقوبة فقط .
أما أنصار النظرية الشخصية فقد استبعدوا قيام الجريمة دون ركنها المعنوي ، لأن العقوبة تتوجه إلى نفسية الفاعل لتعاقبه على سلوكه الخاطئ ، حتى إذا كان خالي الذهن من الإرادة الجنائية أو خالي السلوك من الإهمال ، إذ أن أفراغ المسؤولية من الخطاء يؤدي إلى تهديد حرية الفرد وإلى نزع معنى الخطاء من نفوس المواطنين فيعتادون على الحكم عليهم ، دون خطأ كوجه سلبي من أوجه نشاطهم اليومي مما يعطل مفعول العقوبة الرادع.
إلا أنه وفي موازنة بين هذين المفهومين توجد اعتبارات تدعو إلى ترجيح كفة المذهب الشخصي ، فنتيجة أسباب أخلاقية أولا ، تكمن في دور الأخلاق في أبراز المظهر الروحاني للمسؤولية من خلال الارتقاء بقيمة الإنسان ، وفي المقابل فإن المفهوم المادي يعيد إلى الأذهان المسؤولية الموضوعية بدون خطأ .
إذ أن الجريمة ليست ظاهرة مادية خالصة قوامها الفعل وآثاره ، ولكنها كذلك كيان نفسي ، ومن ثم أستقر في القانون الجزائي الحديث ذلك المبدأ الذي يقضي بأن ماديات الجريمة لا تنشئ مسؤولية ولا تستوجب عقابا ، ما لم تتوفر إلى جانبها العناصر النفسية التي يتطلبها كيان الجريمة . وتجتمع هذه العناصر في ركن يختص بها ويحمل اسم الركن المعنوي للجريمة .
فإذا كانت العقوبة تستهدف غرضا اجتماعيا ، هو الردع عن الجريمة ، فأنه لم يكن هناك بد من أن يراعى في توقيع العقاب ـ سواء من حيث أساسه أو من حيث نوعه أو مقداره ـ كون الإرادة قد اتجهت على غير النحو الذي يتطلبه المشرع ، وهكذا اتخذت الإرادة مكانها في بناء الجريمة .
ورغم وجاهة مثل هذا الموقف إلا أن الركن المعنوي للجرائم في أزمة ، لأن العناصر التي تكونه ليس لها محتوى قار ، كل ما نجده حول موضوع القصد بعض الأفكار الخاطئة حينا والمنقوصة ، أو المتناقضة أحيانا .
فالقانون الجزائي رغم تكريسه لهذا الركن النفسي لم يتمكن من تجاوز صعوبة تحديده وضبط الآثار المترتبة عن التحاقه بميدان القانون .
فالقاعدة الأساسية في التشريعات الجزائية المعاصرة هي قيام المسؤولية الجنائية على الخطأ، ومع ذلك يصادف الباحث في النظرية العامة للجريمة في بعض التشريعات استثناءا من هذه القاعدة الأساسية ، يتناوله الفقه تحت مسميات مختلفة مثل المسؤولية دون خطأ ، ويتناوله القضاء الفرنسي تحت اسم الجرائم المادية ” فرنسي كل هذا انعكس بدوره على القضاء التونسي الذي كان له موقفه من القصد الجزئي الذي هو جزء من الركن المعنوي للجريمة والذي يتكون من القصد الجزائي والخطأ غير ألقصدي ـ الجرائم غير القصدية ـ ، والذي يعتبره أساس الجريمة وذلك بقوله ” كل من ارتكب قصدا عملا مضرا بالغير واقعا تحت طائلة القانون الجزائي يعتبر مرتكبا لجريمة متوفرة الأركان وخاصة منها النية ” ذلك أن ” القذف الخالي من الإشهار ومن القصد الجنائي هو لغو من الكلام لا جريمة فيه “
وهو ما يدعو إلى التسأل كيف تعامل القضاء التونسي مع القصد الجزائي ؟
مما لاشك به أن القضاء التونسي عمل على التعامل مع القصد الجزائي بشيء من المراوح فبقدر ما كان واضح في ضبط وتحديد كيفية قيام القصد ـ الجزء الأول ـ ، بقدر ما أطلق العنان أحيانا لوجدانه الخالص في التوسع في مسألة إثباته ـ الجزء الثاني ـ .
الجزء الأول : قيام القصد الجزائي .
لما كان القصد الجزائي أساس المعاقبة و كذلك عنصر تشديدها باعتبار أن المبدأ في القانون التونسي أن لا يعاقب احد إلا بفعل ارتكب قصد حسب أحكام الفصل 37 من المجلة الجزائية ، مما يعني إن القصد الجزائي يمثل الأساس الأول لقيام المسؤولية الجزائية ، لذلك فقد عمل فقه القضاء على أباز مفهوم القصد الجزائي ـ أ ـ وذلك بالبحث عن عناصره حتى يتسنى له تمييزه عن غيره من المكونات المعنوية للجريمة ـ ب ـ .
ـ أ ـ مفهوم القصد الجزائي :
إن القصد الإجرامي ، كي يمكن اعتباره ركن من أركان الجريمة العمدية ، يجب أن تتوفر فيه عناصر قارة وثابتة ، أي عناصر أساسية ، هذه العناصر يمكن أن نلاحظ وجودها في أقدم التعريفات التي قدمت لهذا المفهوم سواء لدى الفقه أو فقه القضاء ومنها أ القصد الجزائي هو إرادة ارتكاب الجريمة كما حددها القانون وهو علم الجاني أيضا بمخالفته نواهي القانون التي يفترض دائما العلم بها . هذه التعريفات ولئن اختلفت في صياغتها إلا أنها تبرر فكرة مردها أن العناصر المكونة للقصد الجزائي تنبني على علاقة بين الفعل من جهة ، والإرادة والعلم من جهة ثانية ، وهو الموقف الذي تبناه المشرع التونسي صلب الفصل 37 من المجلة الجزائية الذي جاء فيه انه ” لا يعاقب احد إلا بفعل ارتكب قصدا ……………….” وهو ما يعني ضرورة ارتباط الفعل أي الركن المادي للجريمة بالقصد إي الركن المعنوي حتى تتم المؤاخذة الجزائية وهذا هو المبدأ في القانون الجزائي التونسي.
ورغم اشتراط المشرع التونسي القصد الجزائي في عدد من الجرائم كركن للمسؤولية الجزائية إلا انه لم يقم بتعريفه ، تاركا سد هذا الفراغ التشريعي الأساسي لاجتهاد فقه القضاء وهو ما قامت به فعلا محكمة التعقيب حيث عرفته بقولها ” حيث ولئن لم يوضح المشرع مدلول القصد الجنائي ولم يعرفه ، فقد استقر الفقه ودرج نفسه قضاء هذه المحكمة عل أن المراد بالقصد الجزائي هو انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل مع علمه بأنه يرتكب فعلا غير جائز ” ويبدو من خلال هذه الحيثية أن محكمة التعقيب أخذت بالنظرية التوفيقية التي تجمع بين نظرية الإرادة كعنصر كافي لتحديد معنى القصد الجزائي ، وبين نظرية العلم التي تعتبر أن القصد الجزائي يقوم على علم الجاني بماديات الجريمة .
هذا الموقف لمحكمة التعقيب جاء متوافق مع الاتجاه الغالب الذي يميل إلى اعتبار القصد الجزائي علما وإرادة ، ذلك أن إرادة ارتكاب الجريمة كما حددها القانون وعلم الجاني بمخالفته له ، يمثلان عناصر القصد الجزائي ، فلا يكفي العلم بل يجب كذلك توفر الإرادة ، وهذا يجعل القصد الجزائي إرادة القيام بفعل نعلم أنه محظور ، ذلك أن نظرية الإرادة تعني انه يتطلب فيها القصد الجزائي توجيه إرادته نحو ارتكاب الفعل المعاقب عليه وكذلك تحقيق النتيجة المطلوبة إذا ما تطلب التشريع ذلك ، وبناء على هذه المكانة المركزية للإرادة صلب هذه النظرية ، فإنه كلما اتضح أن إرادة الجاني قد اتجهت نحو ارتكاب الفعل الإجرامي وتحقيق النتيجة الضارة ، كلما توفر لديه القصد الجزائي ، أما إذا غابت إرادة تحقيق النتيجة فإننا ننفصل من إطار القصد إلى إطار الإهمال وعدم الاحتياط إي من إطار الجرائم العمدية إلى نطاق الجرائم غير العمدية .
مع نظرية الإرادة ، تنافست نظرية أخرى تعرف بنظرية العلم ، ويعتبر القصد الجزائي حسب هذه النظرية علما بالوقائع المكونة للجريمة وتوقعا للنتيجة ثم اتجاه الإرادة إلى ارتكاب الفعل ، فالقول إذن بأن الجاني يقوم بالفعل كما حدده القانون غير مقبول وغير ممكن . وهذا الموقف يرفضه فقه القضاء ” إذ لا يقصد من الإدراك فهم القانون أو العلم به ” ، وهي من خلال هذا القرار تؤكد محكمة التعقيب على موقفها من إن القصد الجزائي هو علم وإرادة باعتبار أنه ” من الأركان الجوهرية لقيام المسؤولية الجنائية في الجرائم القصدية ، أن يرتكب الجاني جنايته عن قصد ، أي عن إرادة حرة وإدراك وتميز ، والقصد من الإدراك هو إن يدرك الجاني أن فعله له شيء من الخطورة ، وفيه منافاة لحسن السلوك ، فملكة الإدراك تؤهله لفهم ما يصدر عنه من أفعال ووزن النتائج التي تترتب عن فعله “
هذا القرار يعني أن محكمة التعقيب لا تذهب في تعريفها للعلم كعنصر من عناصر القصد الجزائي إلى حد المطالبة بوجود تطابق بين الفعل كما تصوره الفاعل وكما حدده القانون . بل هي تشير إلى ضرورة توفر حد ادني من الإرادة والتمييز ، وهي لم تشر إلى مخالفة القانون بل إلى منافاة لحسن السلوك ، وهذا يعني أن العلم حسب محكمة التعقيب ليس إلا قدرة عادية على التمييز توجد عند كل الناس .
وهو نفس التوجه الذي اتخذته في تعريفها للقصد الجزائي حيث استقرت على اعتبار “ القصد الجزائي هو انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب فعل غير جائز مع علمه أن القانون يعاقب عليه “ويضح من هذا القرار أن المحكمة تعطي وصف الفعل ألقصدي بأنه غير جائز بعدما وصفته في القرار السابق بأنه فعل منافي لحسن السلوك وفي قرار آخر هو فعل مضر بالغير بقولها ” إن المراد بالقصد الإجرامي الوارد بالفصل 37 من القانون الجزائي هو إقدام الإنسان على فعل مضر بغيره ومؤاخذ عنه قانونا ” ذلك أن ” كل من يرتكب قصدا عملا مضرا بالغير واقعا تحت طائلة القانون الجزائي يعتبر مرتكبا لجريمة متوفرة الأركان وخاصة منها النية ” ، واحيابا تعمل على اعتباره فعل مضر ومنافي للسلوك الحسن في نفس الوقت ” أنه من الاركان الاساسية لقيام المسؤولية الجزائية في الجرائم القصدية أن يؤتكب الجاني جريمته عن قصد أي عن إرادة حرة وإدراك تام وتمييز والقصد من الأدراك هو أن يدرك أن فعله له شيء من الخطورة ونية منافاة لحسن السلوك ، فملكة الادراك تؤهله لفهم ما يصدر عنه من أفعال ووزن النتائج التي تترتب عن فعلته ” .
ب ـ تمييز القصد الجزائي عن المكونات المعنوية للجريمة :
عادة ما يقع التمييز في إطار الركن المعنوي بين القصد و الخطاء ، كما انه وباعتبار الركن المعنوي يرتبط بنفسية الجاني فأن الأمور قد تبد أكثر صعوبة إذ قد برز مكون آخر يزاحم القصد الجزائي في محاولة لأن يصبح من مكونات الركن المعنوي للجريمة وهو الدافع .
إن أساس التمييز بين القصد والخطاء يكمن في الأهداف التي أراد المشرع حمايتها فبالنسبة للقصد فإن المشرع يبحث عن مسألة الشخص الذي تعمد خرق القيم الاجتماعية بخرق القانون ، أما عندما تكون القيم التي أراد المشرع حمايتها أكثر أهمية ، فإنه يلجاء إلى اعتبار مجرد وجود الإهمال وعدم الاحتياط عناصر كافية لقتام الجريمة ومسألة الجاني على ذلك . وهذا لتمييز يخص الجانب الزجري وبالتحديد يخص مدة العقوبة ومقدارها ، فهي بالجرائم القصدية تصل للإعدام أما في الجرائم غير القصدية لا تتجاوز السنتين . وهو ما يدعو إلى التمييز بين المفهومين على أساس المفاهيم .
التمييز بين الخطاء غير القصدي والقصد الجزائي يكون على أساس البحث عن توجه الإرادة وعلاقتها بالنتيجة الإجرامية . فبالجرائم القصدية الإرادة تتجه للسلوك الإجرامي والنتيجة معا ، أما في الجرائم غير القصدية فهي تتجه للسلوك دون النتيجة . بمعنى أن الخطاء سلوك غير سوي أدى عرضا لتحقيق النتيجة. كمن يقطع شجرة في حديقة بيته ، فسلوك قطع الشجرة غير ممنوع ولكن إذا سقطت الشجرة على احد المارة وأحدثت له ضرر فأن النتيجة التي حصلت يؤاخذ عليها ، لأن إرادته متجه إلى السلوك وهو غير مجرم إلا أنها لم تتجه إلى النتيجة والتي هي مجرمة وسبب مؤاخذته هو انه لم يتخذ أسباب الحيطة والحذر لتجنب حدوث النتيجة ولذلك يسأل جزائيا عن جريمة الجرح على وجه الخطاء وهي حالة الفصل ، 225 من المجلة الجزائية .
” حيث أن القانون لم يحصر الجرائم الغير قصدية بالضبط وإنما عرفها بأنها الجرائم التي لايشترط فيها وجود نية الإجرام عند مقترفها ، ويكفي للمؤاخذه عنها ثبوت الركن المادي “.
وقد عملت محكمة التعقيب على التمييز بين القصد الجزائي والخطاء غير القصدي معتبرة أن ” إنّ الجنح النّاتجة عن تقصير توجب قانونا توفّر الرّكن المعنوي، ولكنّه ليس القصد الجزائي أو النيّة الإجراميّة بل هو الخطأ الجزائي الذّي يتمثّل في التّقصير وعدم الإحتياط والإهمال ومخالفة القوانين، فهو خروج عن المألوف في التّصرّف موصل لنتيجة إجراميّة فهو إخلال بواجبات الحيطة والحذر التّي يفرضها القانون مع توفّر علاقة نفسيّة تصل بين إرادة المجرم والنّتيجة الجرميّة “
وأن الفعلة في قضية الحال قصديه لأن إرادة الجاني انصرفت الى ارتكاب فعل غير جائز مع علمه بأنه فعل غير جائز وأنه لاشي بأوراق الملف يفيد حصول الفعل نتيجة قصور أو عدم احتياط أو إهمال أو عدم تنبه أو عدم مراعاة القوانين “ ذلك أنه” لا تقوم جريمة تعمد إيقاد النار إلا إذا كان عن إرادة حرة وعلم بمتاع الغير لغاية الإضرار به سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وهو المقصود بلفظ التعرض الوارد بالنص وبذلك فقد أحسنت المحكمة تفسير مفهوم الخطاء في إضرام النار ” فالجريمة يجب أن تتجسم في الخارج بإهمال القيام بالواجبات المفروضة ، ” حيث أن الخطاء المنتج للحادث يكمن في عدم تنبه المتهم وغفلته وقلة احتياطه وعدم مراعاته للتراتيب القانونية …….. حتى يسبب بأفعاله تلك في إيقاع الحادث وما نتج عنه من أضرار ” فيتوافر الخطاء غير ألقصدي إذا لم يطابق سلوك الجاني مستوى الحيطة والحذر الذي يصل إليه الرجل المعتاد ، ذلك أنه ” لاتتوفر أركان جريمة إحداث جروح بالغير على وجه الخطاء إلا إذا أثبتت المحكمة أن تلك الجراحات صادرة عن قصور من المتهم أو عن جهله لما كان يجب عليه معرفته أو عدم الاحتياط أو عدم تنبهه ” .
ويبدو من خلال هذه القرارات أن محكمة التعقيب تعتبر الخطاء الجزائي غير ألقصدي هو الصور الواردة في فصول المجلة الجزائية { 217 ، 225 ، 309 } إلا أنها في قرار للدوائر المجتمعة ذهبت الى تعريف الخطاء الجزائي غير ألقصدي أضافة لما هو محدد بالفصل 217 من المجلة الجزائية الى الأخذ بالتعريف المدني الوارد في الفصل 83 من مجلة الالتزامات والعقود بأنه ” يعتبر مسؤولا جزائيا في جريمة القتل على وجه الخطاء كل من ساهم في الفعل المنتج للقتل ولو لم يصدر منه ذلك الفعل شخصيا متى كان لإخلاله بأحد العناصر المكونة لركن الخطاء الواردة بالفصل 217 من القانون الجنائي دخل في الحادث ، إذ أن مسؤوليته متولدة بسبب ترك ما وجب فعله أو فعل ما يجب عليه تركه ” .
أما بخصوص الفرق بين القصد الجزائي والدافع فأن جل التشاريع الجزائية المقارنة وكذلك إجماع الفقه متفق على أن الدافع ليس من مكونات الركن المعنوي للجريمة ، وهي ليس كذلك سبب أباحه يبرر عدم المسألة الجزائية .
ويمكن تعريف الدافع بأنه الأرضية النفسية والشعور الطاهر والمدفوع الذي يحرك الإنسان ، وهذه الأرضية هي نتاج العديد من الضغوطات والأحاسيس والمكبوتات ،ورغم رفض أنصار المدرسة الكلاسيكية الأخذ بالدافع مكتفية بالإرادة والعلم كتعبير عن نفسية الجاني ، فأنه ولئن كان رأيا مقبولا في إطار قانون جزائي موضوعي ، يسلط أحكامه على الأفعال بدون الأخذ بعين الاعتبار نفسية الجاني ، فأنه لا يمكن قبوله إذا ما اعتبرنا أن من أهداف القانون الجنائي مراعاة نفسية الجاني ، وتفريد العقاب ، وهو ما يعني ضرورة وجود حدود لمبدأ عدم الاعتداد بالدافع .
فبالنسبة للمشرع التونسي رغم أن المبدأ المعمول به عدم الاعتداد بالدافع ، إلا انه قد يساهم في تعريف جريمة ما ، وقد يمثل أساسا لوضع عقوبة وربما مثل هذا التوجه التشريعي كان له اثر على موقف فقه القضاء من الباعث حين اعتبرت محكمة التعقيب ” أن الدافع هو القصد الجزائي الذي يكون الجرم والذي يجب على القاضي الجزائي إبرازه بكل وضوح ليستقيم قضاؤه ويكون سليما قانونا وواقعا ، وكأن محكمة التعقيب جعلت من الباعث جزء من الجريمة وهو القصد الجزائي وهو ما قد يعقد مسألة إثبات القصد الجزائي ، الذي لن يكون من خلال الوقائع المادية للجريمة وإنما من خلال الدوافع النفسية للمجرم وهو أمر يصعب تحققه إن لم يكن مستحيلا .
لكن محكمة التعقيب تراجعت عن موقفها هذا واعتبرت إن “ القصد الجزائي هو انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب فعل غير جائز ….. فالعداوة لا تعدو أن تكون من قبيل الدوافع أو البواعث التي لا يعتد بها القانون الجزائي التونسي ” لذلك فأن ” الدافع على الإضرار بالغير ولو كان بنية الإشفاق أو التخليد للذكريات لا ينفي معه المسؤولية الجزائية ” ” فالباعث النبيل لاقتراف الجريمة لا يمنع توفر الركن الأدبي ” ” فضلا عن أن العداوة في حد ذاتها لا تشكل دليلا علي نية القتل ، وإنما تعتبر من قبيل الدوافع التي لا يعتد بها القانون الجنائي ” ” فالجريمة تحصل سواء أكان الفعل لغاية سيئة أم لغاية غير سيئة ، ولا عبرة بالداعي الذي بعث المتهم على الفعل ، كما لا عبرة بالغاية المقصودة منه ” ” فلا يلتفت إلى الغاية التي يرمي إليها الفاعل ” .
وعملت محكمة التعقيب على التميز بين الدافع والقصد الجزائي الخاص ، ويقوم هذا الأخير على نفس العناصر التي ينبني عليها القصد العام ، فالقصد الخاص يلتقي مع القصد العام في كونه امتدادا ضروريا لهذا الأخير ، بحيث لا يحول دون تحققه ولا يحل محله ، فالفرق بينهما هو في الموضوع الذي يتعلق به العلم والإرادة ، فهو أوسع نطاقا في القصد الخاص منه في القصد العام ، بحيث يكون إدراك الجاني لحقيقة نشاطه الإجرامي مقترنا باتخاذ تحقيق النتيجة غاية له حين تصوره لها هدفا لنشاطه .
ويمكن تعريف القصد الجزائي الخاص بأنه توجيه قصد الفاعل إلى تحقيق هدف معين من وراء جرمه ، أو هو الاعتداد بغاية معينه يجب أن يستهدفها القصد في سبيل أن يعتبر قصدا جزائيا . وهو ما اخذت به محكمة التعقيب لأبراز القصد الجزائي الخاص في جريمة اختلاس الشيء معتبرة أن ” يفهم من الفصل 297 من المجلة الجنائية ان اختلاس الشيء أو إتلافه يجب أن يكون بنية الإضرار بأصحابه وطالما لم تتجسم تلك النية فان أركان جريمة الخيانة تبقى غير متوفرة “. وذهبت إلى اعتبار عدم توفر القصد الخاص ينفي وجود الجريمة لأنه ” من الأركان الأساسية لجريمة الخيانة ثبوت نية الاستيلاء بقصد الإضرار بصاحب الشيء المختلس وترتيبا على ذلك فان المحكمة إذا لم تبرز هذا العنصر بما هو كاف واكتفت بذكر إن التهمة ثابتة ضد المتهم بالأدلة المادية والشهادة والمصادقة على نتيجة الاختبار واحتفاظ الطاعن بالمبلغ المالي بدون بيان أن ذلك كان بنية الاستيلاء والإضرار بأصحاب المال فان حكمها يعتبر ضعيف المستند مستهدفا للنقض “.
وقد اعتبرت محكمة التعقيب في قرار حديث ” أن الدافع في جريمة القتل هوأمر مستقل تماما عن القصد الجنائي الخاص ” .
كما ميزت محكمة التعقيب بين الدافع والغاية والتي هي تصور نفسي لنتيجة معينة والبحث عن تحقيقها ، وفي قرار آخر ميزت بوضوح بين القصد الجزائي و كل من الغاية الدافع معتبرة ” وحيث يستخرج من عامة المستندات الصريحة أن قضاة الموضوع خلطوا بين القصد …….. والمصلحة التي تتريب عن الباعث والغاية، وحيث أن الباعث هو السبب الذي يدفع الإنسان إلى ارتكاب الجريمة وأن الغاية هي الفرض النهائي الذي يرمي الجاني بارتكانها ، وحيث لا جدال أنه ليس للباعث والغاية أي تأثير على المسؤولية الجزائية فهما إذا يدخلان في الأركان المكونة للجريمة وليس على القاضي ذكرهما في الحكم ، وإنما يسوغ أن يتخذهما كعامل لتقدير العقوبة “. ” من كل ذلك يضح أن محكمة مالت إلى عدم الاعتداد بالدافع إلا أنها تميل إلى انه يسوغ للقاضي أن يتخذه كعامل لتقدير العقوبة ” لذلك يتجه إلى تشديد العقاب إذا كان السبب الحامل على الجرم تافها ” .
الجزء الثاني : إثبات القصد الجزائي :
إن سوء النية أمر عسير الإثبات لتعلقه بالنوايا الخفية ، فهي أمر داخلي يخفيه الجاني في قرارة نفسه .
وأمام صعوبة إثبات القصد الجزائي ، نجد أن فقه القضاء يلجاء أما إلى وسائل إثبات مادية ملموسة أو إلى القرائن لإثبات القصد ـ أ ـ أو يلجاء أحيانا إلى الخروج عن المبادئ المعتادة لإثبات القصد وذلك بافتراضه ـ ب ـ .
ـ أ ـ الوسائل المادية لإثبات القصد :
إن تشخيص القصد الجزائي أي إبراز حدوده الخارجية ، لا يعني فقط تمييزه عن المفاهيم القريبة منه ، بل إن التحديد القضائي له دور هام في بلورة ذلك التشخيص ، فالقصد الجزائي ليس فقط مسألة تعريف نظري فالتطبيق القضائي يساهم بصفة هامة في تحديد هذا المفهوم وإبراز طبيعته وذلك من خلال إثباته، كما أن صعوبة إثبات القصد الجزائي يمكن أن يمثل عائقا حقيقيا لتسليط العقوبة الجزائية خصوصا وأن اعتماد الركن القصدي من عدمه يعتمد في جزء هام على أهمية المصلحة التي ينبغي حمايتها ومدى خطورة الجريمة المرتكبة.
وهو ما أكده المشرع في الفصل 37 من الجلة الجزائية الذي قسم الجرائم إلى جرائم قصدية وهي أساس المعاقبة والتشديد فيها وغير قصدية والتي تكون فيها العقوبة مخففة ، مما يعني معه أن القصد الجزائي معيارا لتنوع العقوبة لذلك وجب التأكد من إثباته بكل وضوح وهو أمر موكول إلى فقه القضاء ، باعتبار أن القاضي الجزائي لم يعد مجرد أداة لإدارة العدالة الجزائية ، وإنما أصبح يطبق النص بعد تفسيره وفهم علته ، إذ انه ” لا يكفي أن تكون التهمة متوفرة الأركان القانونية من حيث المبدأ وإنما لابد من وجود الدليل الصحيح والكافي لنسبتها للمتهم حتى تتجه مؤاخذته جزائيا من اجلها وتسليط علية العقوبة المستوجبة قانونا انطلاقا من أنه لا يعاقب الشخص إلا من اجل جريمة قصدية وأن الأصل البراءة إلى أن تثبت الإدانة ” لأنه ” ليس للمتهم إثبات حسن نيته بل يجب على القائم بالتهمة والقرار الصادر بالعقاب إثبات سوء النية ” .
وقد أكدت محكمة التعقيب انه ” درج فقه القضاء على أن الشك ينتفع به المتهم وأن تبرئة ساحة متهم أفضل من إدانة بريء ” لذلك عمل فقه القضاء على استنتاج القصد الجزائي من ملابسات كل جريمة تعرض عليه ، لأن ” القاضي الجزائي حر في تدعيم قناعته بمختلف الأدلة القانونية وليس بلازم عليه اعتماد إقرار الجاني أو البينة بالشهادة وله أن يهمل إقرارا ليأخذ بقرينة متى كان ضميره إليها مرتاحا ” ” أن نية القتل أمر باطني يستخلصها القاضي من ظروف الجريمة و ملابساتها حسبما يمليه عليه وجدانه الخالص شريطة أن يبرر وجهة نظره بتعليل سائغ مستمد مما له أصل ثابت بالأوراق بدون تحريف و لا ضعف في التسبيب ” .
ذلك أنه “ لم يأت القانون بضوابط مخصوصة لتحديد نيّة القتل عند المعتدي و اعتبارها مسألة موضوعية يقدّرها القاضي حسبما يمليه عليه وجدانه مما يستخلصه من ظروف الجريمة و ملابساتها. ” ” وهي أمر باطني تبرز في الخارج بعدة مظاهر خاصة ظروف الواقعة واستعمال السلاح وتحديد نوعه إذا كان قاتلا أم لا وأماكن الإصابة ” .
ففي بعض الأحيان تقتنع بوجود نية القتل انطلاقا من الآلة المستعملة في الجريمة ، فتعتبر الأفعال مكونة لجريمة الشروع في القتل ، كما اعتبرت ” أن الطاعن كانت له نية القتل التي استنتجها قضاة الأصل من تعمده طعن الضحية …… بسكين كبيرة الحجم طول نصلها 17 سنتمتر بأماكن قاتله أدت إلى وفاة الهالكة على عين المكان كما استخلصوا أيضا أنه كان أضمر هذا القتل واستعد له ….. بالتسلح بالسكين آلة الجريمة التي اختار شراءها من بين عدة سكاكين أخرى …. والحال انه يعرف انه يعرف تلك السكين خطيرة وتستعمل عادة في الذبح يدل دلالة واضحة على أن نيته كانت متجهة مسبقا في قتل الهالكة ولو كان ينوي تشويهها لاختار سلاحا آخر أقل خطورة ” و ” أن إزهاق روح بشرية ولئن كانت أمر باطنيا يصعب تأكيده أو نفيه إلا أنه ليس بالأمر المستحيل لإثبات توفره أو انعدامه بالنظر للوسيلة المستعملة في القتل ” .
“تعتبر نية القتل وتعمده ثابتة بالأعمال التحضيرية لتنفيذ ذلك العزم المتمثلة في اشتراء الساطور والانتقال من مكان آهل بالسكان إلى مكان خال منهم للتخلص من قريبه وأخذ أمواله وقيامه بالطعنات المتعددة المسببة الموت ثم الفرار من الجهة بعد طمس معالم الجريمة وهذه النية المتبينة من زمن بعيد واضحة بأن زيارة لذلك المكان النائي في ليلة اختارها لتكون له ستارا لفعلته دون عين تراقبه أو نجدة تفسد عليه عزمه “.
وقد اعتبرت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة أنه “ أتجه فقه القضاء في تونس إلى أن المواقعة لا تنصرف بمجرد الفعل الفاحش و إنما تقوم إذا كان هناك وطىء بالمكان الطبيعي من الأنثى وبطريق الإيلاج حسبما قررته محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة بقرارها عدد 6417 الصادر بتاريخ 16 جوان 1969 فإذا لم يتم الإيلاج إطلاقا لا جزائيا و لا كليا أعتبر الاعتداء فاحشة….. إن جريمة محاولة المواقعة غصبا لا تقوم إلا إذا قصد المتهم المواقعة فعلا و استخلاص القصد يؤخذ من ظروف و ملابسات أفعاله كمحاولته نزع سراويل المجني عليها أو رفع ثيابها… أما مجرد مسك المتضررة من شعرها و إسقاطها أرضا أو جرها إلى مكان خفي عن الأنظار فقد ذهب فقه القضاء إلى عدم كفايته لقيام جريمة محاولة المواقعة و لا يبرز القصد الجنائي عند المتهم “.
“استنتاج الحكم توافر ركن الإضمار من اعتراف المتهم المفصل لدى الباحث المنتدب وإعداده السلاح المناسب لاقتراف الجريمة منذ مدة عن وقوعها وإخفائه لآلة الجريمة بمنزله وبدكان عمله عدة أيام انتظارا للفرصة السانحة ثم التسلح به وإخفاءه تحت معطفه و التنقل به من مدينة تونس إلى ضاحية حمام الأنف يوم أن قرر انجاز ما عقد عليه العزم وبحثه عن مكان مظلم بعيدا عن الأنظار و هجومه عليها بدون موجب وإصابتها بضربات متتالية من الساطور في رأسها مما جعل المتضررة تستعمل يدها لتلقيها كاف لقيام محاولة القتل العمد مع سابقية الإضمار “
أما في جرائم المخدرات اعتبرت أن ” نية الترويج هي من الأمور الباطنية يستدل عليها في الخارج بعدة قرائن منها حجم وقيمة القطعة المخدرة المحجوزة وتعددها وشكاها وإن كانت ملفوفة ومهيئة للبيع ” لأن “ركن سوء النية يستنتج من ظروف كل عملية غش ومن ملابساتها الخاصة ” .
من ناحية أخرى فإن الاعتداء الناتج عنه تشويه قد يعتبر محاولة قتل ، وهذا ما ذهبت إليه دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بالكاف في احد قراراتها حيث اعتبرت أن الاعتداء بالحامض الكبريتي من النوع المقوى لا يدخل تحت أحكام جرائم التشويه { الفصل 219 } من المجلة الجزائية ، بل أحكام الفصلين 201 و202 من المجلة الجزائية المتعلقة بالقتل مع سابقية الإضمار .
كما انه في موقف أخر اعتمدت محكمة التعقيب مكان الإصابة وقوتها لتدليل على وجود القصد الجزائي من عدمه ” معتبرة انه ” لا يقتصر أثبات محاولة القتل على نوع السلاح المستعمل فقط وانما كذلك مكان الإصابة الذي عادة يكون مكانا قاتلا وتعدد الطعنات حتى يتحقق الجاني من إزهاقه روحا بشرية ” حيث أن نية إزهاق روح بشرية ….. ليس بالأمر المستحيل التدليل على توافره أو انعدامه بالنظر لمكان الإصابة فبالنسبة لصورة الحال فأن المتهم يعلم علم اليقين أن موطن الإصابة بالنسبة للهالكين هما من المقاتل بما يجعل نية القتل وإزهاق روح بشرية متوفرة لا محالة ” ، وفي أحيان أخرى اعتبرت محكمة التعقيب أنه ” لئن كانت نية القتل مسألة موضوعية يقدرها القاضي بما يستخلصه من ظروف الجريمة وأسبابها، فان اعتبار خلاف الجاني و الضحية دافعا على القتل و استنتاج تلك النية من تعدد الضربات يجعل الحكم ضعيف التعليل و مستوجب للنقض “.
عموما تبق مسألة تكييف الفعل الإجرامي وتقدير قوة الأدلة راجعة للسلطة التقديرية للقضاء بشرط التعليل المستساغ ، وهو ربما ما دفع بالقضاء إلى افتراض القصد الجزائي .
ب ـ افتراض القصد الجزائي :
القصد الجزائي يتم استخلاصه من ماديات الجريمة وظروفها ، وهذا يؤدي إلى تقديم الركن المادي على الركن المعنوي ، أي إن هذا الركن يتأثر بمحتوى الركن المادي ، هذا الأمر يبرز خللا واضحا في التطبيق ، ذلك إن استنتاج القصد من ماديات الجريمة هو بمثابة استخلاص السبب من النتيجة “. .
قد يبدو من الغريب الحديث عن افتراض للقصد الجزائي ، ذلك إن ما يميز القصد عن الخطاء هو وجوبية إثباته في حين إن الخطاء يقع افتراضه، كما أن المسؤولية الجزائية التقليدية تقوم على ركيزة أساسية وهي بناء أحكامها على الواقع ونفورها من الافتراض ، إلا انه أمام صعوبة إثبات القصد الجزائي ، لأنه عنصر نفسي باطني ، يتم اللجوء إلى افتراضه . ولأن القاضي ملزم عند البت في القضايا الجزائية أن يحدد عناصر الجريمة المعروضة أمامه وخاصة منها الركن المعنوي وباعتبار أن هذا الأخير يتطلب البحث عنه في الخوض بنفسية الجاني ومدى توفر الإرادة عنده من عدمها وما لذلك الإثبات من صعوبة ، بعكس إثبات الركن المادي لتعلقه بأمور موضوعية . ولتجنب القاضي صعوبات الإثبات عنصر أساسي من عناصر الجريمة ، وأمام استحالة إهماله رغم انه لم يتمكن أحيانا من الإحاطة به ، فأنه يتم اللجوء إلى افتراض القصد الجزائي .
فالباعث الرئيسي للقضاة أذا يكمن في اعتبارات عملية للتغلب على صعوبة إثبات القصد الجزائي ، وذلك بافتراضه .
رغم عدم تكريس المشرع التونسي قرينة افتراض القصد ألا أن فقه القضاء ذهب في عدد من القرارات إلى الأخذ بهذه القرينة ، فقد اعتبرت محكمة التعقيب انه ” إذا عرض بائع أسماك سمكة على العموم في لون متغير ورائحة كريهة استنتجت منها الحكمة أنه على علم من فساد بضاعته ، كان استنتاجه صحيحا مستمدا من وقائع القضية ” و ” حيث اقتضى الفصل 86 من مجلة الغابات أن قطع ورفع الأشجار …..يستوجب خطية ………… وحيث يؤخذ من هذا النص أن مجرد رفع الأشجار المقطوعة من الغابة والاستيلاء عليها يشكل جريمة غابية عملا بأحكام الفصل 86 …… ” .
إن المشرع في القانون الجنائي الاقتصادي يمر أحيانا بصمت حول وجود القصد الجزائي أو الخطأ ، مقتصرا على ذكر الركن المادي فقط ، وهو ما دفع بفقه القضاء إلى افتراض القصد الجزائي من هذا الصمت التشريعي حيث يعتبر انه ” لابد من توفر شرطين أساسين لقيام جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية ، وهي أن يكون مرتكب الاختلاس موظف عمومي أو شبهه ، وأن تكون الأموال التي اختلسها وضعت تحت يده بمقتضى الوظيفة ” ، وبمطابقة هذا المبدأ مع الفصل 99 نجد أن المشرع لم يفصح عن اعتبار الركن المعنوي شرط أساسي في الجريمة .
وما يدل على أن المحكمة مصرة على رأيها في إهمال التركيز على اعتبار سوء النية ركن في هذه الجريمة إقرارها أن ” جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية لا تستقيم إلا بتوفر ثلاث أركان ، أولا أن يكون لمرتكب الجريمة صفة موظف أو شبهه ، ثانيا أن يتسلم بهذه الصفة أموالا أو منقولات أو غير ها مما وقع وعده بها ، ثالثا أن يختلس ذلك أو يتصرف فيه بلا وجه ” .
من خلال هذه الحيثية يتضح أن محكمة التعقيب تستبعد الركن المعنوي أو القصد الجزائي بالذات من هيكلة هذه الجريمة ، مع العلم أنها جناية والمبدأ في الجنايات أنها جرائم قصدية . ورغم ذلك أهملت هذا الوصف ذاهبة للبحث والتأكد من صفة الموظف وطبيعة المال ذلك أنه من وجهة نظر هذه المحكمة يكون الحكم الجنائي قاصر التسبيب وقابلا للنقض إذا أدين الطاعن بجريمة الفصل 99 من القانون الجنائي ، قبل البحث هل أن الجاني موظف عمومي أو شبهه ، وهل أن المال أو المنقولات كانت تحت يده بحكم وظيفته .
” فجريمة الاستيلاء على أموال عمومية الواردة بالفصل 99 من القانون الجنائي هي من الجرائم القصدية ومتى اختل هذا الركن انتفت الجريمة من الأساس ، ويعد استخلاصه من الأمور الموضوعية التي يختص بها قضاة الأصل دون رقابة عليهم من محكمة التعقيب طالما كان معللا “. ومع ذلك فأنها تعتبر ” أن عدم إبراز الأركان الأساسية لجريمة الاستيلاء على أموال عمومية وجدت بين يدي المتهم بمقتضى وظيفته مع تفر صفة الموظف العمومي أو شبهه في جانبه وهي الأركان الواجب توفرها لقيام جريمة الفصل 99 من القانون الجنائي يجعل القرار فيه ضعيف التعليل ومستوجبا للنقض “.
يبدو أن هذا الموقف لمحكمة التعقيب إزاء هذه الجريمة لم يكن ثابت حين اعتبرت أن ” جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية أو الخاصة من قبيل الموظف العمومي أو شبهه الذي يتصرف فيها بدون وجه قانوني لا تقوم إلا بتوفر ثلاث أركان وهي أن يكون الجاني موظف ….. أن يكون عل سوء نية ، وعليه فأنه يجب على المحكمة أن تثبت العناصر الثلاثة و إلا استهدف حكمها للنقض “، وأكدت ذلك في القرار الصادر في 17/3/2003 ، واعتبرت أن ” ….. الجرائم النصوص عليها بالفصل 99 من القانون الجنائي هي جرائم قصدية “.
واعتمدت المحكمة نفس التوجه بالنسبة لجريمة إصدار شيك بدون رصيد معتبرة “ أن الركن الأدبي وهو سوء النية مفروض وجوده بمجرد عدم التأكد من وجود الرصيد وكفايته وقابليته للتصرف ” وهو ما أكدته في قرارها عدد 4112 ، معتبرة ” إن الشيك أداة وفاء فوري يمكن المطالبة بقيمته بمجرد تسلمه ، ويكفي لبيان سوء نية الساحب مجرد الحكم بعدم وجود رصيد ، ولذا فتسلمه على وجه الضمان لا يعفيه من المسؤولية ” .
بتقييم سريع لموقف محكمة التعقيب من مسالة افتراض القصد الجزائي والتي لابد من التأكد هل أن هذا الافتراض كان بمثابة قاعدة موضوعية ، أم انه مجرد وقاعدة إثبات ، يبدو أنها جانبت الصواب في كلتا الحالتين ، وذلك لعدة اعتبارات منها :
ـ أن اعتبار افتراض القصد الجزائي قاعدة موضوعية فيه مخالفة لأحكام الفصل 37 من المجلة الجزائية الذي وضع مبدأ واستثناء في خصوص الركن المعنوي حيث أن المبدأ إن لا يعاقب احد إلا بفعل ارتكب قصدا، وهي حالة جميع الجنايات والاستثناء من هذا المبدأ لا يكون إلا بنص قانوني صريح .
ولما كان هذا المبدأ هو الأساس فأنه لا يمكن لفقه القضاء أن يتوسع في أقرار أو إضفاء صفة الافتراض للقصد الجزائي في هذه الجرائم ، لكن هذا الموقف القضائي ربما كان مدركا لما يقوم به حيث أنه يعتبر الفصل 37 القاعدة العامة التي تنص على ضرورة توفر القصد ، معتبرين بأن القاعدة العامة بهذه الجرائم العمد سيما
جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية ، وجنحة إصدار شيك بدون رصيد ، التي المبدأ فيها انها تقوم على الخطاء غير ألعمدي حسب ذات الفصل .
لكن حتى وفي مثل هذا التبرير فإن فقه القضاء قام بخرقه إذ أنه تارة يذكر سوء النية من بين أركان الجريمة وتارة أخرى يسكت عنه ، وهنا لابد من التأكيد على ضرورة التمييز بين الإقصاء التشريعي للقصد الجزائي وبين الافتراض التشريعي للقصد الجزائي .
أما بخصوص الحالة الأولى فهي واقع تشريعي مكرس في القانون التونسي وذلك ضمن الفقرة الثانية من الفصل 37 من المجلة الجزائية ، وهي على صورتين حالة الجرائم غير القصدية التي تم التعرض لها ، وحالة الجريمة المادية المكرسة في الفصل 313 من المجلة الجزائية والتي تعني بأنها الجرائم التي تعرض فاعلها لطائلة الجزاء الجنائي بمجرد ارتكاب الفعل المادي مجردا عن كل خطاء قصديا كان أو غير قصدي ، كما قبل فقه القضاء بالمسؤولية المؤسسة على مجرد وقوع الركن المادي منذ 1935 ، ويعلل البعض بأن الجرائم الاقتصادية لا تتعارض مع الأخلاق وبالتالي فإنها جرائم مادية بحته لا مجال فيها للبحث عن الخطاء .
أما بخصوص افتراض القصد الجزائي فأن المشرع لم يكرسه في القانون الجزائي على عكس بعض القوانين الجزائية الأخرى على غرار المشرع المصري واللبناني الذي قبل به .
إضافة لذلك فأن اقل ما يمكن أن يقال في هذا الشأن بأن فقه القضاء حصر نطاق الفصل 37 في ميدان المسؤولية عن فعل الغير ، ويستغرب بالنسبة لهذا التوجه أنه وقع اعتماده الفصل 37 لرفض مسؤولية لأب من فعل ابنه بالنسبة لجريمة إصدار شيك بدون رصيد واتي يعتبرها فقه القضاء جريمة مادية تقوم دون اشتراط الركن المعنوي فيها .
خلاصة القول أن محكمة التعقيب لا تقر للفصل 37 أية مكانة فيما يتعلق بالركن المعنوي ، وتحصر نطاقه في مسألة رفض المسؤولية عن فعل الغير ، وهذا بدوره يعكس موقف محكمة التعقيب من هذا الفصل الذي يعد ثروة قانونية قيمة لحل مشكل الركن المعنوي ، بحيث لم تعتبره في القمة وتنطلق منه لتفسير سكوت المشرع بخصوص الركن المعنوي ، ذلك أنه وحسب هذا الفصل أن السكوت يفسر إذا كانت الجريمة من صنف الجنايات بأن الركن المعنوي فيها القصد ، وإذا كانت من صنف الجنح فهو الخطاء غير القصدي ، أما إذا كانت مخالفة فهي جريمة مادية ، عملا بأحكام الفصل 313 من الجلة الجزائية .
وهو ما نجد له تطبق واضح لهذا الفصل في قرار لمحكمة التعقيب تم الطعن فيه مرتين حيث أصدرت قرارها الأول عدد 83673 المؤرخ في 16 / 4 /1997، بالنقض مع الإحالة بمقولة أن الفصل 187 من المجلة الجزائية لا يشترط العلم لثبوت تهمة حصول الإدخال والعرض لعمله اتضح أنها مزورة . غير أن محكمة الإحالة قضت من جديد بعدم سماع الدعوى مؤكدة أن الفصل 187 من المجلة الجزائية مثل غيره من فصول المجلة والقانون الجزائي يشترط الركن القصدي فأصدرت محكمة التعقيب قرارها الحالي معتبرة ” أن القرار السابق عدد 83673 غير سليم لأن القضاء الجزائي لا يستقيم إلا على أساس توفر ركن القصد للجرائم حسب أحكام الفصول 37 و 191 ، وعليه فإنه من ألثابت في ذهن المشرع بمنطوق الفصلين المشار إليهما أن الركن القصدي ركن ضروري لتوفر أركان الجريمة وكان بذلك الحكم المطعون فيه من هذه الناحية في طريقه ومطبقا للقانون تطبيقا سليما ” .
ـ أما بخصوص اعتبار افتراض القصد كقاعدة إثبات من قبل فقه القضاء ، فأنه ولأن كان الافتراض كقاعدة إثبات اقل سوء من كون اعتباره قاعدة موضوعية ، خاصة وأن افتراضه حل وسط بين صعوبة وسلبيات إثبات القصد الذي يستحيل أحيانا وسلبيات الحجة القاطعة على الخطاء التي لا تقبل الدحض ، إلا أن افتراض القصد يبقى متعارض مع قرينة البراءة ، والتي تفرض على سلطة الاتهام أن تثبت كافة أركان الجريمة وأن المضنون فيه مسؤول عن ارتكابها ، لأنه الأصل البراءة إلى أن تثبت الإدانة ، وأنه ” ليس للمتهم إثبات حسن نيته بل يجب على القائم بالتهمة والقرار الصادر بالعقاب إثبات سوء النية “، ” لأن الافتراض والتخمين لا يصح لثبوت الإدانة ، فالأحكام لا تبنى إلا على ما يفيد الجزم واليقين ” و ” إن انعدام الركن ألقصدي للجريمة يفرض على المحكمة القضاء بالبراءة ” .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً