قال الفقهاء أن القاضي إذا أخطأ بجهل فلا يسأل عن الضرر الذي لحق المتخاصم بسبب قضائه لأن خطأه في الأموال على الاجتهاد هدر اذ جاء [ولا شيء على القاضي ، لأن خطأ السلطان في الأموال على الاجتهاد هدر] (1). ويرى بعضهم أن عدم مسؤولية القاضي لا تنحصر في الأموال فقط وإنما تشمل النفوس أيضاً ، لأن القاضي أصدر حكمه عن اجتهاد سائغ(2). ومن ثم فإن القاضي في هذه الحال لا يضمن ، ذلك أنه غير معصوم من الخطأ، والخطأ هنا موضوع شرعاً ويكون قضاؤه موافقاً للشرع(3). وهو لا يضمن لانه لم يعمل لنفسه بل لغيره فكان بمنزلة الرسول فلا تلحقه عهده (4) . لذا فإن المبدأ العام المقرر في الفقه الإسلامي هو عدم مسألة القاضي مدنياً إلاّ أن عدم المساءلة هذه ليست مطلقة اذ حددت حالات تجوز فيها مخاصمة القاضي . ويمكن تقسيم حالات المخاصمة في الفقه الإسلامي على النحو الآتي :
اولاً . الخطأ الفاحش
وهو نوع من الخطأ الذي لا يحتمله الاجتهاد السائغ فلو صدر من القاضي مثل هذا الخطأ الفاحش فإنه يسأل عن هذا الخطأ وعن الأضرار التي لحقت بالغير بسبب هذا الخطأ كما لو اعتمد على شهادة أطفال غير مميزين أو شـهادة مجانين مع علمه بجنونهم ، اساساً للحكم(5). ويبدو أن هذا النوع من الخطأ مما يخرج عن نطاق الاجتهاد الذي يعذر فيه القاضي انطلاقاً من قاعدة إذا اجتهد وأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ، اذ يكون فيه الخطأ فاحشاً ، بحيث لا يقدم على فعله كل ذي نظر ، ولو بسيط ، في مسائل الخصومة ، فضلاً عن القاضي .
ثانياً . الخطأ المتعمـد
في حال كون خطأ القاضي متعمداً بأن يقضي بالجور ويعمد إلى الانحراف عن مقتضى العدل ، ويثبت تعمد القاضي في خطئه من خلال اعترافه بذلك أو أن يثبت عن طريق البينة المقبولة ، وفي حال ثبوت ذلك يترتب عليه الآتي :
1.يعزر ويعزل عن القضاء لكونه قد خان الأمانة التي جعلت في يده .
2.يلزمه الضمان من ماله لان ما جار فيه ، لم يكن فيه قاضياً بل أنه إتلاف بغير حق فيكون فيه كغيره في الضمان(6).
3.لا تجوز في المستقبل ولايته للقضاء ولا شهادته حتى لو تاب وصلحت حالة لما ارتكبه في حق الله(7).
ويبدو أن هذا الرأي في الفقه الإسلامي يجرد القاضي الذي يتعمد الخطأ من كل حصانة فيعزله عن القضاء مع إيقاع العقوبة اللازمة له لخيانة أمانة القضاء ثم يلزمه بالضمان من ماله حاله حال غيره ممن يتلف مال الغير ، وإذا نظرنا بعمق في الشريعة الإسلامية ، نجد أن وجوب الضمان من بيت المال ، في حال ارتكاب القاضي للخطأ المتعمد، هو الأقرب إلى عدالة الشريعة الإسلامية، لأن القاضي ارتكب خطأه وهو في ولاية القضاء التي هي امتداد للولاية العامة للدولة الإسلامية، والدولة مسؤولة عن أخطاء من توليهم ، ولاسيما الأخطاء المتعمدة ، انطلاقاً من كونها أذنت للرعية باللجوء إليهم والاحتكام لهم لاستحصال حقوقهم ومن ثم تتحمل وزر أعمالهم مع علمنا أن من لحقه ضرر لا يستطيع في الأغلب الحصول على الضمان من مال القاضي ، كون القاضي مفتقراً في ذمته المالية غالباً، وأن الذمة المالية للدولة ممتلئة، كذلك فإنه حسناً فعل الفقهاء في تأكيد عدم قبول القاضي لولاية القضاء مرة أخرى حتى مع توبته لما أساءه لمنصب القضاء الخطير في تعمده الخطأ .
ثالثاً . الامتناع عن الحكم أو تأخيره
وقد يمتنع القاضي عن الدعوى أو إصدار الحكم فيها أو تأخيرها ، اذ ليس للقاضي أن يمتنع عن إصدار الحكم في الدعوى بعد أن يتصل بها لأنه بذلك يكون قد ارتكب جريمة يعزر عليها ، وكذلك فإنه يعزر إذا أخر الحكم دون مسوغ(8). وقد عالج بعض الفقه الإسلامي حالة رفض القاضي أو إهماله دون سبب مشروع الإجابة على طلب أو عريضة لأحد الخصوم أو رفض أن يقضي في دعوى صالحة للحكم ومنظورة لديه اذ عد ذلك خطأ توجب مساءلته مدنياً(9). من كل ذلك نجد أن الفقه الإسلامي أوجد كل الضمانات اللازمة لمنع مخاصمة القاضي العادل ، ما دام يقضي على وفق الشرع الإسلامي حتى لو أدى به اجتهاده في الأحكام إلى ارتكاب خطأ الحق الضرر بالآخرين ما دام قد توخى الأصول الشرعية للوصول إلى الحكم وابتنى حكمه عليها ، بل أن الشرع يعده مأجوراً أجراً واحداً في حال خطئه في قضائه وهو – أي المشرع – لم يغفل في الوقت نفسه حق المتقاضين ، في حال خرج القاضي بخطئه عن الخطأ السائغ إلى الخطأ الفاحش أو المتعمد فألزمه بالضمان مع استحقاق العقوبات اللازمة ، ومن ثم فهو يملك كل الضمانات الضرورية للقاضي ولا يمكن لأحد محاسبته أو مساءلته أو مخاصمته ما دام يقضي بالعدل المستند إلى الشرع . ويعد الشرع الإسلامي الامتناع عن الحكم أو تأخيره ، خطأ يوجب المساءلة للقاضي وذلك في موازنة عادلة بين ما يتمتع به القاضي من سلطة تقديرية وبين حق المتخاصم في ضرورة حسم النزاع وعدم تأخيره .
____________________
– ابن قرحون ، المصدر السابق ، ج1 ، ص92 ، وضرب مثلاً لخطأ القاضي السائغ في الحكم [قال ابن حبيب قال لي مطرف في منزل حبس على المساكين فرفع إلى قاضٍ فجهل وباعه وفرق ثمنه على المساكين ثم رفع إلى قاضٍ غيره : أرى أن يفسخ البيع ويرد المنزل حبساً كما كان ويدفع الثمن للمشتري من غلة الحبس ولا شيء على القاضي لأن خطأ السلطان في الأموال على الاجتهاد هدر] .
2- د. عبد الكريم زيدان ، المصدر السابق ، ص83 .
3- د. عبد العزيز عامر ، المصدر السابق ، ص28 .
4- علي قراعه . كتاب الاصول القضائية والمرافعات الشرعية ، مطبعة الرغائب ، 1921 ، ص 311 .
5- الشيخ عبد العزيز الثميني ، الورد البسام في رياض الأحكام ، ص108-109 . عن د. عبد الكريم زيدان المصدر السابق ، ص83 .
6- شمس الدين السرخسي ، المبسوط ، ج9 ، القاهرة 1324هـ ، ص80 . وجاء فيه [إذا قضى القاضي بحد أو قصاص أو مال وأمضاه ، ثم قال قضيت بالجور وأنا أعلم ذلك ، ضمنه في ماله وعزر وعزل عن القضاء] و علي قراعة ، المصدر السابق ، ص 311 .
7- ابن قرحون ، المصدر السابق ، ج1 ، ص79 .
8- ابن قاضي سماوة ، جامع الفصولين ، ج1 ، المطبعة الأزهرية ، سـنة 1300ه ، ص16-17 .
9- د. عبد العزيز عامر ، شرح قانون المرافعات الليبي ، ص29 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً