إن القاضي يتمتع بكامل الاستقلال في مجال إبداء رأيه في الدعوى ، وإذا كان هناك خطأ ما فإنه يمكن إلغاء حكمه بإحدى طرق الطعن ، من غير أن يعرضه للمساءلة التأديبية . ولما كان القاضي من البشر فقد يقع منه ما يؤدي إلى تعريضه إلى المساءلة التأديبية التي تصبح ضرورية حتى يؤدي القاضي واجبه على أحسن وجه(1). لذلك عمدت التشريعات إلى وضع نظام تأديب القضاة لتحقيق مصالح المتقاضين مع إقرار جميع الضمانات التي تحفظ هيبة القضاء وكرامته مما قد يتعرض له من السوء أو الاتهام الباطل(2). وإن أهم الأمور التي يجب أن تقرر في شأن المسؤولية التأديبية أن تضطلع بها السلطة القضائية نفسها ، وهو أمر متبع في معظم الدول(3) . وهناك من الأخطاء التي يرتكبها القاضي ، لا تستوجب مساءلته تأديبياً ويكتفى فيها بمجرد التنبيه(4). وقد تناولنا الضمانات في هذه المسؤولية في فرعين تناولنا في الاول منها نطاق هذه المسؤولية وتناولنا في الفرع الثاني الضمانات في الدعوى التأديبية .
الفرع الأول : نطاق المسؤولية التأديبية :
ويمكن تقسيم الوقائع التي يمكن أن تكون سبباً للمسؤولية التأديبية للقضاة على ثلاث مجموعات :
أولاً . ما يتصل بأداء العمل الوظيفي :
ومن هذه تخلف القاضي عن الإقامة في مركز الوحدة الإدارية التي فيها مقر عمله اذ ألزمت المادة 7/ رابعاً من قانون السلطة القضائية العراقي ، عضو السلطة القضائية الإقامة في مركز الوحدة الإدارية التي فيها مقر عمله إلاّ إذا أذن له وزير العدل الإقامة في مكان آخر لظروف يقدرها . وكما نصت المادة 76 من قانون السلطة القضائية المصري على وجوب إقامة القاضي في البلدة التي بها مقر عمله . كذلك نصت المادة 7 من القانون نفسه على عدم جواز تغيب القاضي عن عمله دون إجازة(5) ، كما نصت القوانين على المحافظة على سرية المداولات ، اذ أن عضو السلطة القضائية يطلع بحكم وظيفته العامة على كثير من الأسرار التي لا يمكن أن يطلع عليها لولا هذه الوظيفة(6). فقد نصت المادة (7) ثانياً على إلزام القاضي بكتمان الأمور والمعلومات والوثائق التي اطلع عليها بحكم وظيفته أو خلالها إذا كانت بطبيعتها سرية أو يخشى من إفشائها إلحاق ضرر بالدولة أو الأشخاص ، ويظل هذا الواجب قائماً حتى بعد انتهاء خدمة عضو السلطة القضائية . كذلك نصت على ذلك المادة 74 من قانون السلطة القضائية المصري .
ثانياً . ما يتصل بحياته الخاصة :
فيجب على القاضي أن يمتنع في حياته الخاصة عن أي سلوك ، ولو كان في ذاته مشروعاً ، لا يتلاءم مع ما يستلزمه الوقار والبعد عن الشبهات اذ لا يمكن الفصل في وظيفة القضاء بين الوظيفة وحياة القاضي الخاصة(7). لأن القاضي يمثل العدالة القضائية(8). وقد نص قانون التنظيم القضائي العراقي على أن القاضي ملزم بالمحافظة على كرامة القضاء والابتعاد عن كل ما يبعث الريبة في استقامته(9).
ثالثاً . ما يتصل بنشاطه الخارجي :
فلا يحق للقاضي مزاولة التجارة أو أي عمل لا يتفق ووظيفة القضاء ، كما نص على ذلك قانون التنظيم القضائي العراقي(10). كذلك نص المشرع المصري في قانون السلطة القضائية على أنه ليس للقاضي مزاولة التجارة أو أي وظيفة أو عمل لا يتفق مع استقلال القضاء وكرامته وكذلك الاشتغال بالسياسة أو إبداء أي رأي سياسي(11).
الفرع الثاني : ضمانات المحاكمة التأديبية :
يلاحظ أنه متى ما أخل القاضي بأحد واجباته فإنه يتعرض لمحاكمة تأديبية ، وقد تمت إحاطة هذه المحاكمة بضمانات عديدة نذكرها :
أولاً .لا تقام الدعوى التأديبية إلاّ بطلب من وزير العدل أو رئيس المحكمة التي يتبعها القاضي :
اي أن أمر تحريكها لم يترك إلى أي شخص أو أي سلطة ، وبعيداً عن التأثيرات السياسية(12). وفي العراق نص قانون التنظيم القضائي على أن تقام الدعوى الانضباطية على القاضي بناءً على قرار من وزير العدل ، بإحالته إلى لجنة شؤون القضاة على أن يتضمن القرار بياناً بالواقعة المسندة إليه والأدلة المؤيدة لها ويبلغ القاضي بهذا القرار(13). وقد نص على هذا المبدأ قانون السلطة القضائية المصري وان يتم تحريك الدعوى من قبل النائب العام (14). وقانون نظام القضاء الليبي(15). وقانون نظام القضاة العدليين اللبناني(16). كما أن قانون السلطة القضائية المصري أضاف أنه في حال تهاون النائب العام في الدعوى خلال 30 يوماً فإن للمجلس التأديبي ان يتولي التأديب من تلقاء نفسه(17). ويلاحظ على نص المشرع العراقي أنه اكتفى بإحالة القاضي إلى لجنة شؤون القضاة بقرار من وزير العدل دون إشراك المدعي العام في تحريك الدعـوى الانضباطية ، ويبدو أن من الأفضل إيكال أمر تحريك الدعوى إلى المدعي العام بصفته يمثل الحق العام لا الى وزير العدل ، وإن كان الأمر بما هو عليه لا يؤثر في المساس بضمانات القاضي لأن ضمانته مكفولة في إحالته إلى لجنة شـؤون القضاة وليس إلى جهة أخرى غير قضائية .
ثانياً. أن يكون هناك تحقيق جنائي وتحقيق إداري قبل تقديم طلب تحريك الدعوى :
أن قانون التنظيم القضائي في العراق خول لجنة شؤون القضاة أن تجري بنفسها ما تراه مناسباً ولازماً من التحقيقات ، وأن تتبع في إجراءاتها القواعد المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية(18). كما ينص قانون السلطة القضائية المصري على ذلك واشترط أن يتولى ذلك أحد كبار القضاة ، كأن يكون أحد نواب رئيس محكمة النقض أو رئيس محكمة استئناف يندبه وزير العدل بالنسبة للمستشارين أو مستشار من إدارة التفتيش القضائي بالنسبة إلى الرؤساء أو القضاة بالمحاكم الابتدائية(19) .
ثالثاً. انقضاء الدعوى التأديبية :
نصت التشريعات على أن الدعوى التأديبية تنقضي باستقالة القاضي أو إحالته إلى التقاعد وذلك دفعاً للحرج عنه ، فقد نص قانون السلطة القضائية المصري على انقضاء الدعوى التأديبية باستقالة القاضي أو إحالته إلى المعاش(20).
رابعاً . سرية المحاكمة والحكم :
وهذا هو خلاف الأصل الذي يقضي بالعلنية . وقد نص قانون السلطة القضائية العراقي على أن تكون المحاكمة سرية ويفهم القرار علناً(21). ونص قانون السلطة القضائية المصري على سرية المحاكمة والتحقيق(22) ، وكذلك نص هذا القانون على أن تكون جلسة النطق بالحكم سرية أيضاً(23). وكذلك نص القانون اللبناني أن يكون تأديب القاضي سرياً(24). ويلاحظ أن سرية المحاكمة والحكم تُعد جزءاً من إجراءات حماية هيبة القضاء وأن المشرع العراقي جعل إجراءات المحاكمة للقاضي سرية وحسناً فعل . أما النطق بالحكم فجعله علنياً ، ويبدو ، انسجاماً مع توجه التشريعات الأخرى وحماية لهيبة القضاء عامة ، أن من الأفضل أن يكون النطق بالحكم كذلك سرياً .
خامساً . العقوبة التأديبية :
وهي التي لا يملك توقيعها إلاّ مجلس التأديب ، وقد عملت التشريعات وحفظاً لكرامة القاضي على أن يكون الحكم الصادر بحقه لا يتعدى عقوبتين هي اللوم والعزل من الوظيفة وقد حدد قانون التنظيم القضائي العراقي العقوبات الانضباطية بالإنذار وتأخير الترفيع أو العلاوة أو كليهما وإنهاء الخدمة(25) . وقد نص قانون السلطة القضائية المصري تحديد على عقوبتي اللوم والعزل من الوظيفة (26). وتنفذ الأحكام الصادرة من مجلس التأديب عن طريق وزير العدل الذي يصدر قراراً بتنفيذ عقوبة اللوم والتي لا يجوز نشرها في الجريدة الرسمية ، أو من خلال إبلاغ القاضي بالحكم الصادر بعزله في خلال 48 ساعة من صدوره ويستصدر قراراً جمهورياً بتنفيذ عقوبة العزل ، وينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية(28). كذلك نص القانون اللبناني على أنه لا يجوز نشر المحاكمة التأديبية مع جواز نشر القرار النهائي إذا تضمن عقوبة الصرف من الخدمة أو العزل(28). ويُعد حصر العقوبات التأديبية لأعضاء السلطة القضائية في نص قانوني وإلزام السلطة التأديبية بعدم الخروج عن هذا النص ، من الضمانات المهمة المقررة لأعضاء السلطة القضائية في مواجهتها ، كما أنه يجب أن يكون هناك تناسب بين العقوبة الموقعة مع المخالفة المرتكبة من حيث الجسامة ، كما أنه لا يجوز إيقاع أكثر من عقوبة تأديبية عن المخالفة نفسها إلاّ إذا أجاز القانون ذلك(29). ويلاحظ أن إيكال أمر توقيع العقوبة إلى لجنة شؤون القضاة أو مجلس التأديب أو أي تسمية أخرى يقصد بها الجهة نفسها ، هو من الضمانات المهمة جداً للقاضي لكي يكون بمأمن من محاولة المساس بسمعته أو هيبته من خلال محاولات إلصاق مخالفة غير حقيقية به وبذلك تتحقق حمايته من السلطة التنفيذية والأفراد في آن معاً ، كما أن تحديد العقوبات على سبيل الحصر يشكل هو الآخر ضمانة مهمة للقاضي .وخلاصة القول أن إحاطة القاضي بهذه المجموعة من الضمانات في مراحل الدعوى التأديبية كافة ، تهدف إلى حماية القاضي من كل ما يوجب له الإساءة أو الإهانة أو ممارسة الضغط عليه وذلك لسبب مهم ، هو أن القاضي يفترض فيه أنه يعمل لتحقيق العدالة ويسعى إليها وأن خطأه لا يوجب هتك حرمته والمساس بكرامته .
___________________
– د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص163 .
2- د. عبد العزيز عامر ، المصدر السابق ، ص74 .
3- د. محمد عصفور ، استقلال السلطة القضائية ، مطبعة أطلس ، القاهرة ، ص172 .
4- أعطت المادة 57 من قانون التنظيم القضائي العراقي الحق لوزير العدل ورئيس محكمة التمييز ورئيس محكمة الاستئناف ، في تنبيه القاضي إلى ما يقع منه من أخطاء قانونية أو إدارية أو مخالفات لواجبات ومقتضيات وظيفته ، وكذلك المادة (94) من قانون السلطة القضائية المصري .
5- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص164 ، وفي العراق لا يوجد نص يقابل نص المادة 7 مصري المذكورة ، في قانون التنظيم القضائي النافذ ، على أن قانون الخدمة القضائية رقم 27 لسنة 1945 وقانون رقم 58 لسنة 1956 كانا يعطيان لوزير العدل صلاحية إنذار القاضي إذا أهمل في وظيفته .
6- شفيق عبد المجيد الحديثي ، النظام الانضباطي لموظفي الدولة في العراق ، دراسة مقارنة ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، عام 1975 ، ص6 .
7- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص164 .
8- ضياء شيت خطاب ، فن القضاء ، قسم البحوث والدراسات القانونية 1984 ، ص35 .
9- المادة 7/ أولاً من قانون التنظيم القضائي العراقي .
0- المادة 7/ ثانياً من قانون التنظيم القضائي العراقي .
1- المادتين 72 و 73 من قانون السلطة القضائية المصري .
2- د. فتحي والي ، المصدر السابق ، ص165 .
3- المادة 60 من قانون التنظيم القضائي العراقي .
4- المادة 99/1 من قانون السلطة القضائية المصري .
5- المادة 66/1 من قانون نظام القضاء الليبي .
6- المواد 32-39 من قانون نظام القضاة العدليين الليبي .
7- المادة 99/1 من القانون نفسه .
8- المادة 60/ثانياً (د) و (و) من قانون التنظيم القضائي العراقي .
9- المادة 99/2 من قانون السلطة القضائية المصري .
20- المادة 104/1 من قانون السلطة القضائية المصري .
2- المادة 60/ثانياً (ب) من قانون التنظيم القضائي العراقي .
22- المادة 106 من قانون السلطة القضائية المصري .
23- المادة 107 من القانون نفسه .
24- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص104
25- المادة 58 من قانون التنظيم القضائي العراقي .
26- المادة 108 من قانون السلطة القضائية المصري .
27- المادتين 109 و 110 من نفس القانون السابق .
28- د. أحمد أبو الوفا ، المصدر السابق ، ص104 .
29- ماجد راغب الحلو و محمد رفعت عبد الوهاب ، القانون الإداري ، دار الجامعات الجديد للنشر ، الإسكندرية 1995م ، ص454 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً