قراءة في قرار مجلس الدولة الفرنسي المشهور ” بالبوركيني “
بنقدور بلال باحث بماستر تجارة و أعمال وجدة
تفاعل الرأي الفرنسي و العالمي حول المسألة التي أثيرت في فرنسا ، حول قرار إداري تنظيمي بمنع نوع من الملابس داخل رقعة جغرافية معينة وفي فترة محددة ، تساؤلات عديدة ، من بينها هل فعلا إجراءات تدل عن تراجع القيم الديمقراطية ؟ أم تأكيد علمانية الدولة ؟ أم هو إجراء ظرفي أملته ظروف معينة لما هو في صالح فرنسا ؟
قال الكاتب و المحلل الفرنسي المعروف بيير بيرتيلو ” انه لا يوجد وعي بأن هذه القضية أضرت بسمعة فرنسا ” فسمعة بلد عريق كفرنسا حقوقيا و قانونا وتاريخه الطويل في هذا الشأن ، هو ما جعل القرار الإداري يثير تساؤلات عدة ، مما جعل الكل ينتظر و يترقب حكم مجلس الدولة كأعلى جهة قضائية إدارية ،خاصة من طرف القانونيين و الحقوقيين عن كيفية تعامله مع الدعوى ، و أيضا ما يحمله من مقتضيات و أسس قانونية ، الشيء الذي جعله قرارا مشهورا و تاريخي .
وإجمالا فالإنتظارات كانت كبيرة على القضاء الفرنسي ، لأنه هو الذي يحمي المشروعية ، ويطبق القانون ويجتهد على أساسه ، و إعطاء لكل ذي حق حقه ، وتغليب العقلانية و ترجيح المبادئ و الأسس القانونية و إنهاء الحالة العاطفية و الدوافع السيكلوجية.
و للإحاطة بالموضوع أكثر ، سأتناول بعض المقتضيات العامة المحيطة بهذا القرار بجوانبه المتعددة ، بدءا باستحضار بعض التصورات السياسية من طرف البعض ( المطلب الأول )، و التطرق بعدها لقراءة وقائع الحكم ( المطلب الثاني ) ، ثم نتناول أخيرا ( المطلب الثالث ) لشرح و قراءة لحيثيات حكم مجلس الدولة الفرنسي.
المطلب الأول : قراءة لأحداث و أوضاع سياسية
يدور جدال سياسي وحقوقي و إعلامي في فرنسا على قرارات بعض البلديات التي منعت نوع من اللباس استنادا على قانون 5/10/1905 القاضي بفصل الدولة عن الكنيسة ، للمحافظة على علمانية الدولة الذي قيد حرية أقلية في فرنسا من ارتداء لباس له دلالة دينية يعارض قيم فرنسا ، هذا القرار جاء في وضعية تواجه فيها فرنسا التطرف و الإرهاب ،أخرها حادث وقع في مدينة نيس الذي أدى إلى مقتل العديد من الأشخاص ،فهل هذا القرار هو قرار احترازي لمواجهة هذه الحوادث ؟ أم جاء لتنظيم مرفق عام؟ أو للحفاظ على علمانية الدولة؟
فكل الحجج مقبولة عند بعض المسئولين الفرنسيين مادامت تؤدي إلى حرمان الأقلية المسلمة من حرية شخصية بديهية يعد اللباس أتفهها إذ صح التعبير ،فمثلا صرح ممثل الجبهة الديمقراطية اليمينية عضو البرلمان عن مدينة مرسيليا أن “هؤلاء يضعون أنفسهم على هامش مجتمعنا” وأيضا صرح “ساركوزي” الرئيس السابق لفرانس24 “إن البور كيني استفزاز لنا من الإسلام الراديكالي” وأيضا يدعون أن هذا القرار هو في مصلحة المرأة فلباس البوركيني علامة لقمع المرأة وقد ولى عنه الزمن، كتغريدة “روبيير منيار” عمدة بزييه على تويتر “حان الوقت لنشح لهؤلاء الأهالي إن فرنسا ليست مملكة عربية من القرن العاشر” وكل هذه التصريحات من مسئولين كبار تعبر عن أزمة عميقة داخلية خاصة النظرة لهاجس الأخر المختلف ثقافيا ودينيا ،وهذا راجع للأوضاع الراهنة و الأحداث السابقة ،ونتيجة للازمة الاقتصادية والتحاقن الاجتماعي بفعل السياسات الخاطئة الداخلية و الدولية ،كلها أدت إلى قرارات هجومية على روح الحقوق الفرنسية .
إذن هناك أصوات وازنة تدعم قرار عمدة متخذ القرار لتقييد حريات الشخص للحفاظ على علمانية الدولة حسب قولهم ،أو لاستحقاقات انتخابية كما يجزم البعض ،مما أثار جدال قانوني واسع حول هذا التصور السياسي المقلق حقوقيا ، خاصة أن هذا القرار يطرح علامة استفهام وتعجب إذا وضعنا في مقابل هذا اللباس ،لباس الراهبات والصليب المعلق على عنق مرتديه وعلى ملابسهم وفوق الكنائس ،وأيضا قبعات اليهود الصغيرة والمسلمين أيضا ، ولحية المسلمين وضفائر اليهود وووو…كل هذا سيسقط فرنسا في متاهات وبحور من التأويلات تصب يقينا في مآزق سياسية حقيقية ،الذي يعبر عن انحطاط قيمي أخلاقي وتدهور حقوقي خطير. وهو ما عبرت عنه منظمة العفو الدولية ،إذ قال مديرها في أوروبا “جون دالهيسن” يجب على السلطات الفرنسية أن تتخلى عن الادعاء أن الحظر كان لحماية حقوق النساء ،فذلك الحظر لم يفد إطلاقا في رفع من مستوى السلامة العامة ويروج لفكرة الإخلال العام” وهذا يدل عن نتائج عكسية ستجنيها فرنسا من هكذا قرار.
ومن خلال هذا الرصد الوجيز نتساءل هل قرار العمدة فعلا يحافظ على القيم العلمانية خاصة أن العمدة دفع بذلك أمام القضاء ؟ وهل الأوضاع الراهنة مبرر لاتخاذ هكذا قرار ؟ وهل فعلا هو منسجم مع القوانين الفرنسية ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه أثناء تفحص و قراءة الحكم التاريخي لمجلس الدولة الفرنسي.
المطلب الثاني: قراءة وقائع موضوع حكم مجلس الدولة الفرنسي
كما تطرقنا سابقا فقد اصدر عمدة إحدى مدن فرنسا قرارا بمنع ارتياد ملابس على الشاطئ تشير إلى اعتقاد الشخص الديني المنافي لمبادئ الدولة العلمانية ،والذي جرى تسميته عرفا ب”البوركيني”، والذي جرى تأييده من قبل المحكمة الإدارية على أسس و مبادئ العلمانية الفرنسية وخاصة الراهنة والتي عبر عليها “بالحالة الأمنية” لاسيما الاعتداء الذي وقع في مدينة نيس.
أحيل طلب استئناف الحكم إلى قضاء الأمور المستعجلة وفقا للا حكام المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من المادة 511-2 من قانون العدالة الإدارية لتوفر ضرر جسيم حال ، وعلى المركز القانوني للطاعنين ، جامعة حقوق الإنسان و منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان لواجهة الاسلاموفوبيا بفرنسا ، بتاريخ 23 غشت 2016 ، وقد تقدما بمذكرة شارحة تطالب بإلغاء الحكم المطعون عليه والاستجابة لطلباتهما المقدمة أمام محكمة أول درجة وإلزام الدولة بدفع مبلغ 5000 اورو ، وفقا للمادة 761-1 من قانون العدالة الإدارية.
وقد تمسك الطاعنين أن الطعن مقبول لوقت تنفيذ الحكم المطعون عليه ، وانه قد اغفل أحكام القانون رقم 9/12/1905 ، وانه احدث ضررا جسيما و حال على مصلحة عامة ، ومن ناحية أخرى إقامة الطعن في أسرع وقت ، ران الحكم المطعون عليه تظل أثاره قائمة حتى 15/10/2016 .
وقد تمسك عمدة مدينة” فلنوف لوبيت” بمذكرته بتاريخ 25 غشت 2016 بانتفاء شرط الاستعجال وعدم قانونية الدفوع، و أيضا تقدم وزير الداخلية 25 غشت 2016 بمذكرة لإبداء بعض الملاحظات لم يشر الحكم إليها ولم يبين الحكم ما جاء فيها.
المطلب الثالث : قراءة لحيثيات الحكم مجلس الدولة الفرنسي
أجاب مجلس الدولة الفرنسي على طلبات الأطراف باختصار دون التوسع في الحيثيات و الإكثار من الشرح و التفسير ، وذلك وفق سبع نقط أو بنود تماشيا مع الطلبات المقدمة إليه ، وبدأها في النقطة الأولى لحسم الاختصاص الاستعجالي المخول إليه ، وقد أشار “على ان المادة 521-2 من قانون العدالة الإدارية تجيز له في ظروف خاصة الفصل في الدعوى في أسرع وقت ، واتخاذه الإجراءات ألازمة لحماية حريات الأساسية التي قد يتم الاعتداء عليها بصورة جسيمة و بمخالفة صريحة للقانون من قبل السلطات الإدارية” .
ونرى هنا وان كان بصدد تحديد الاختصاص ، فإنه إطار حدد به توجهه ونظرته الأولية لموضوع الدعوى ، خاصة انه بقراءة البند الثاني لمجلس الدولة الفرنسي ومناقشته في الجلسة العامة ، انبرى واطر الموضوع بذكاء حاد وفصل بين الرداء المناسب والملائم للآداب العامة و العلمانية بجملة شاملة وهي “…امتد إلى ارتداء اللباس الذي يفصح بصورة واضحة عن اعتقاد ديني أثناء السباحة او على الشاطئ ..” اي بصيغة أخرى انه كان يجب على القانون الصادر من العمدة ألا يمتد إلى اللباس الذي يعبر عن دين معين كيفما كانت النية أو الهدف .
أما البند الثالث فقد وافق على ضم الطعنين والدعويين التي قدمتها كل من جامعة حقوق الإنسان و أيضا جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان لمواجهة الاسلاموفوبيا ، لارتباطهما و إثارة نفس الطلبات .
وقد أكد مجلس الدولة الفرنسي اختصاص العمدة في تنظيم البوليس الإداري للشواطئ وللأنشطة البحرية التي تمارس في الشواطئ الرملية ، ويتولى العمدة تحديد استخدام الأماكن الشاطئية وتوفير آليات الحماية ألازمة و المحافظة على السلامة و الصحة التي تقتضيها الظروف ، حسب المادة 2122-1 من قانون الوحدات الإقليمية .
لكن المجلس لم يقف عند هذا الحد ، بل تمم ذلك في البند الخامس رابطا بين الاختصاص الإداري المنوط بالعمدة و حدود هذا الاختصاص ، و الأخذ في الحسبان أثناء تنظيمه وتدبيره للشاطئ اعتبارات أخرى ، حيث جاء في الحكم في البند الخامس “… و بالنظر إلى انه وان كان العمدة يتولى بموجب الأحكام المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من هذا الحكم كفالة النظام في مدينته ، فانه يتعين عليه أن يوفق بين المهمة المنوطة به و بين احترام الحريات المكفولة بموجب القانون…” أي أن التدابير المتخذة من قبل السلطة الإدارية لا تحترم القانون الفرنسي ،وغير متسقة و منسجمة مع “ضرورة الحفاظ على النظام العام وفقا لظروف المكان و الزمان التي تم اتخاذه فيه ..” حسب المجلس ، خاصة أن دفوعات العمدة لم تؤكد أي خطر محدق و حقيقي ، و الاستناد إلى اعتبارات أخرى – كإشارة إلى حادثة نيس – هو خطر محتمل و غير مؤكد ، ولا يمكن أن يكون أساس لدعوى المحافظة على النظام العام لانعدام وعدم وجود أي ضرر ، خاصة انه لا يوجد نص تشريعي يحدد النظام العام ، فهو من أكثر المسائل تعقيدا حسب ( الدكتور السنهوري ) فتحديد ذلك يكون من طرف القضاة إذا عرضت عليه المسألة فيما إذا كان فعللا الإجراء مرتبطا بالنظام العام أم لا ، وذلك مما بما يتمتع به من سلطة تقديرية في تحديد مثل هذه المسائل وربطها بالمشروعية و بقانونية الإجراء .
وقد تمم ذلك في البند السادس لحسم المسألة ،وأورد إن ليس هناك في أوراق الدعوى أي مبررات وجيهة و إثباتات تبرز الخطر الذي يشكله ارتداء نوع من الملابس ، وإخلاله بالنظام العام ، وقد جاء في البند السادس “…ولمل كان البين من الاطلاع على محضر الجلسة العامة بان القرار المطعون عليه يستهدف منع رواد الشاطئ الذين يرتدون لباس البحر بالمخالفة للفقرة الثالثة من المادة الرابعة منه ،بينما خلت كافة عناصر الدعوى من بيان للخطر الذي يترتب على ذلك..” .
وقد أوضح المجلس بشكل لا لبس فيه ، حيث اعتبر ان اعتداء نيس ليس مبرر قانوني لاتخاذ مثل هذه التدابير ، أي التدابير الغير القانونية طبعا ، و بالتالي الخروج عن المشروعية ، الذي أدى إلى اعتداء صارخ على الحريات الأساسية ، من حرية التنقل و الاعتقاد و الحرية الشخصية .
وطبعا إذا كان التدبير غير قانوني ويمس حقوقا مكفولة بالدستور و القانون ، و بالاتفاقيات الأوروبية لحقوق الإنسان، وتسببت في ضرر بالغ على الحريات الأفراد الأساسية ، فقد قضى بإلغاء الحكم الصادر من قاضي الأمور المستعجلة بالمحكمة الإدارية بمدينة نيس بتاريخ 22 غشت 2016 ، مع وقف تنفيذ الفقرة 3 من المادة 4 من قرار العمدة الصادر بتاريخ 5 غشت 2016 ، ورفض طلبات التعويض بنظر لواقعة الدعوى تطبيقا للمادة 721-1 ( الخاصة بالمصروفات ) من قانون العدالة الإدارية.
و الملاحظ أن المجلس لم يناقش علمانية الدولة ، و الدخول في نقاش فكري و سياسي ، وإنما أورد إشارات و تلميحات بما اصطلح عليه “حرية الاعتقاد” الديني المكفول من قبل الدولة العلمانية الحيادية ، فبالعكس فقرارها منفصل عن أي دوافع دينية وليس تقييد لهذه الحرية ، فعلمانية الدولة ليست علمانية المجتمع ، وقد عوض المجلس هذا السجال على التركيز على النظام العام و الحقوق المكفولة ، التي يحميها القانون بعيدا عن تأويلات و أحداث و ظروف اعتبرها ليست أساس قانوني و مبرر لحرمان حقوق أساسية مكفولة بأسمى القوانين.
اترك تعليقاً