اولا – القضاء لغة :
القضاء بالمد يقصد الحكم وأصله قضاي لأنه من قضيت إلاّ أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت ، وقال ابن بري صوابه بعد الألف الزائدة طرفاً أهمزت والجمع أقضية ، والقضية مثله ، والجمع قضايا على وزن فعالى والاسم القضيّة فقط . ويقال القضاء الفصل في الحكم ومنه قوله تعالى [ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم] (1). أي لفصل الحكم بينهم ومنه قضى القاضي بين الخصوم أي قطع بينهم في الحكم(2). ويقال استقضي فلان أي جعل قاضياً يحكم بين الناس ، وقضّى الأمير قاضيا كما تقول أمر أميراً ، ويقال قضى بينهم قضية وقضايا وهي الأحكـام وفي صلح الحديبية [هذا ما قاضى عليه محمد ] هو فاعل من القضاء الفصل والحكم لأنه بينه وبين أهل مكة(3). وللقضاء في اللغة معانٍ عدة ترجع كلها إلى انقطاع الشيء وتمامه وكل ما أحكم عمله أو أُتم أو حتم أو أدى أداء أو أوجب أو أنفذ أو أمضي فقد قضي .
يتبين مما تقدم أن معاني القضاء في اللغة هي ما يأتي :
1.بمعنى ( الصنع والتقدير ) يقال قضى الشـيء قضـاء إذا أصنعـه وقـدره ، قال تعالى [فقضاهن سبع سماوات في يومين] (4). أي خلقهن وعملهن .
2.القضاء المقرون بالقدر ويكون بمعنى ( الحتم ) قال تعالى [وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه] (5). وقال تعالى [ثم قضى أجلاً] (6).
3.بمعنى (البيان) قال تعالى [ من قبل أن يقضى إليك وحيه ] (7). أي يبين لك بيانه.
4.بمعنى (العهد والوصية) قال تعالى [ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ] (8). أي عهدنا .
5.بمعنى (الأداء) قال تعالى [ فإذا قضيتم مناسككم ] (9). وقال تعالى [ فإذا قضيت الصلاة ] (10) .
6.بمعنى (الفراغ) قال تعالى [ فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها ] (11) .
7.استعملها العلماء تعبيراً عن العبادة التي تقع خارج وقتها المحدد شرعاً(12).
ثانياً – القضاء اصطلاحاً :
أ- القضاء في الاصطلاح الشرعي
القضاء هو عبارة عن (ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق) (13). يعرفه السيد الخوئي بانه ( فصل الخصومة بين المتخاصمين ، والحكم بثبوت دعوى المدعي او بعدم وجود حق له على المدعى عليه ) (14). ، ويعرفه الشهيد الاول في الدروس ( ان القضاء عبارة عن الولاية على الحكم، في الدعاوى ، والمنازعات ، وفي الامور العامة ) ووافقه على ذلك الشهيد الثاني (15). أو هو (ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل الإمام) والتعريف الأخير أعم من الأول حيث يشمل الحقوق وغيرها كالحكم بالهلال وغيره(16). ويعرفه ابن رشد بأنه (الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام) (17) . ويختلط مفهوم القضاء بمفهوم الإفتاء من حيث التصدي للحكم الشرعي وبيانه إلاّ أن الفقهاء يفرقون بين القضاء والإفتاء ، إذ أن القضاء هو إلزام أحد المتخاصمين بما عليه للآخر بعد أن يثبت ذلك لديه ، أما وظيفة المفتي فهي بيان الحكم الشرعي ، حتى مع عدم الخصومة(18). ومن ثم فإن منصب القضاء مختلف عن منصب الإفتاء إلاّ أنه يجوّز بعض الفقهاء للقاضي أن يتصدى للإفتاء إذ يرى ابن القيم أنه ((لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء مما تجوز الفتيا به إذ منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور فالقاضي مفتٍ ومثبت ومنفذ لما أفتى به)) فيما ذهب بعضهم الآخر من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى كراهة الإفتاء في مسائل الأحكام المتعلقة به ذلك أن فتياه تصبح كالحكم منه على الخصم(19)(20) . ما يختلط مفهوم القاضي بمفهوم المجتهد والفقيه للجهة السابقة نفسها غير أن الفقهاء يقررون أن القاضي يفترق عن المجتهد في أن المجتهد هو من يستدل على الحكم ، كما أنه يفترق عن القاضي في أن الأخير هو العالم بالحكم عن دليله وصفات الجميع واحدة والتغاير بالحيثية فقط(21).
إذن فالقضاء شرعاً هو قطع للخصومة أو هو قول ملزم يصدر عمن يملك الولاية العامة ، وهو إخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام على وفق الاحكام الشرعية(22). وإن الحكم في مادته بمعنى المنع ، لذا سمي الحاكم حاكماً لمنعه الظالم من ظلمه ، وقولهم حكم الحاكم أي وضع الحق في أهله ومنعه ممن ليس له بأهل(23). ويختار بعض الأساتذة تعريفاً للقضاء في الشرع الإسلامي مفاده (الحكم بين الخصوم بالقانون الإسلامي بكيفية مخصوصة) (24) . ويمكننا تعريف القضاء بأنه حكم ملزم صادر عن ولاية شرعية ، ترفع به الخصومة ، يُجتهد فيه أن يكون على وفق الشرع . وكونه حكماً ملزماً يجعله يخرج عن كونه إخباراً بالحكم الشرعي فحسب ، لأن قول القاضي في حقيقته يشتمل على معنى الإلزام لا مجرد الإخبار وبذلك يفترق عمله عن عمل المفتي أو المجتهد اللذين لا يكون لعملهما صفة الإلزام ، ويجب أن يصدر هذا الحكم استناداً إلى ولاية شرعية تخول القاضي مباشرة النظر في الخصومات وإصدار الأحكام فيها ، ومع عدم الولاية فإن مباشرة النظر في الخصومات تكون أقرب إلى التحكيم منها إلى القضاء لأن التحكيم يفترض لجوء المتخاصمين إلى شخص معين لفض الخصومة بينهما دون أن تكون له ولاية شرعية في نظر الخصومة . لمّا كان الحكم الذي يصدره القاضي ملزماً فإن به تنقطع الخصومة وليس لأطرافها تجاوز هذا الحكم أو عرض الخصومة مجدداً أمام قاض آخر . والقاضي في إصدار حكمه يتوجب عليه أن يبذل غاية وسعه في الوصول إلى حكم الشـريعة الإسلامية في القضية المعروضة أمامه ، ذلك أن القاضي الإسلامي يجتهد في الوصول إلى حكم الشرع إلاّ أنه لا يصل إليه لذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وآله قال : {إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد}(25). ومن ثم قد لا يكون ما يصدر عن القاضي هو حكم الشرع لذا لا نستطيع أن نقول إنه حكم بحكم شرعي قطعي لأن ذلك له متعلق بالاجتهاد .
وينقسم القضاء في الفقه الإسلامي إلى أقسام ثلاثة هي :
القضاء القولي (القصدي) : الذي يكون محله الخصومات وهو على نوعين ، فقضاء استحقاق وقضاء ترك ، أما قضاء الاستحقاق فيكون بقول القاضي حكمت بكذا وهو إلزام المحكوم عليه بالمحكوم به ، وقضاء الترك ويكون بمنع المدعي من المنازعات كأن يصدر حكم بأن ليس للمدعي حق أو منعه من المنازعة .
أما القضاء الفعلي : فمرجعه الولاية العامة للقاضي فلا يحتاج إلى دعوى بل يكفي فيه إذن القاضي كأمره بتزويج الصغير او الإذن بشراء أو بيع مال اليتيم .
أما القضاء الضمني : فيكون فيه غير المحكوم فيه غير مقصود بالذات بل هو داخل ضمن المحكوم به قصداً ومثاله إذا شهد الشهود على خصم بحق وذكر اسمه واسم أبيه وجده ، فقضى القاضي بذلك الحق وذكر الخصم واسم أبيه وجده في الحكم فيكون حكمه بنسبه ضمناً وإن لم تكن الدعوى دعوى نسب(26).
ب- تعريف القضاء في الاصطلاح القانوني
وردت عدة تعريفات للقضاء الذي يطلق عليه أحياناً السلطة القضائية ، فقد عرفت بأنها (الجهة التي تختص بفض المنازعات بمقتضى القانون سواء كانت هذه المنازعة واقعة بين الأفراد أم الأفراد والحكومة) (27) . ويعرفها آخر بأنها السلطة (التي تقوم بتفسير القانون وتطبيقه في خصومة مطروحة عليها لتقضي أياً من الفريقين المتنازعين هو صاحب الحق موضوع الشكوى أو الاختلاف) (28). عُرفت بأنها (السلطة المختصة بتفسير القانون وتطبيقه على المنازعات التي تعرض عليها) (29). ويمكن من خلال التعريف بمصطلح القاضي أن نفهم ونحيط أكثر بتعريف القضاء ، فقد عُرف القاضي بأنه (الرجل (30). الذي يحكم بالعدل بين شخصين متنازعين طبقاً لما يقرره القانون) فإذا ما لجأ أي شخص إلى القاضي فإنه ملزم بالفصل في الموضوع المعروض عليه وإلاّ عُدَّ مرتكباً لجريمة (إنكار العدالة) (31)(32). ويرى بعضهم أن اصطلاح القاضي قد يراد به أحد معنيين فقد يقصد به كل شخص تكون وظيفته العادية هي ولاية القضاء فينظر إلى القاضي فرداً ، وقد يقصد به الجهاز الذي يباشر من خلاله هذا الفرد – وحده أو مع غيره – مهمة القضاء ، بمعنى الوحدة التي من خلالها توفر الدولة الحماية القضائية وهي المحكمة(33). ويعرف بأنه (( كل من يشغل منصب القضاء في الدولة ، أياً كانت الدرجة الوظيفية التي يشغلها ، مستشاراً كان أم قاضياً)) (34). من كل ذلك يمكن أن نعرف القضاء بأنه الجهة التي تتولى فض المنازعات بين الخصوم – أياً كانت صفتهم – في حدود اختصاصها من خلال تفسير القانون وتطبيقه في خصومتهم (35).
ويمكن من خلال التعريف من أن نلاحظ الآتي :
أولاً . إن مهمة القضاء هي فض المنازعات التي تعرض عليه من الخصوم .
ثانياً. إن القضاء ينظر في الخصومات بغض النظر عن صفة الخصوم سواء كانوا أفراداً أو دولة .
ثالثاً. إن القضاء وهو يعمل على حسم المنازعات يتحدد باختصاصاته التي حددها له القانون .
رابعاً. إن القضاء يعمل على تطبيق القانون فيما يعرض له من خصومات وهو يتقيد بنصوص هذا القانون .
وبذا يمكن أن ندرك أن القاضي في القانون لا يستطيع أن يجتهد فيما يعرض عليه من منازعات وهو بذلك يختلف عن القاضي في الشريعة الإسلامية الذي وإن كان مقيداً بقاعدة ( لا اجتهاد في مورد النص ) يستطيع أن يجتهد فيما لا نص فيه وهو يتمتع بمدى أوسع في فض المنازعات التي تعرض عليه .
___________________
– الشورى / 14 .
2- ابن منظور ، لسـان العرب ، المحيط ، دار لسـان العرب ، بيروت ، المجلد الثـالث ، ص162 ، عبد الله العلايلي ، الصحـاح في اللغة والعلوم ، دار الحضـارة العربية ، بيروت ، المجلد الثاني ، ص316-317 ، محمد مرتضى الزبيدي ، تاج العروس في جواهر القاموس ، المطبعة الخيرية ، القاهرة ، 1306هـ ، ص 210 .
3- ابن منظور ، المصدر السابق ، ص 162 .
4- فصلت /12 .
5- الإسراء / 23 .
6- الأنعام /2 .
7- طه /114 .
8- الإسراء /4 .
9- البقرة /200 .
0- الجمعة /10 .
1- الأحزاب /37 .
2- ابن منظور ، المصدر السابق ، ص112 ، عبد الله العلايلي ، المصدر السابق ، ص317 ، محمد مرتضى الزبيدي ، المصدر السابق ، ص 210 .
3- الفاضل الهندي ، كشف اللثام ، نقلاً عن باقر شريف القرشي ، نظام الحكم والإدارة في الإسلام ، مطبعة الآداب في النجف الأشرف ، ط1 ، 1386-1966 ، ص332 –333 .
4- ابو القاسم الموسوي الخوئي . مباني تكملة المنهاج ، مطبعة الاداب ، النجف الاشرف ، ج 1 ، 1975 ، ص 3 .
5- السيد حسين الحسيني الهمداني . المحاكمة في القضاء ، 1397هـ ، ص 22 .
6- باقر شريف ، المصدر السابق ، ص333 .
7- علي الفنطاسي ، نظام القضاء في الإسلام ، بحث في مجلة القضاء والتشريع ، تونس ، السنة 18 ، العدد 8 ، السنة 1976 ، ص783 .
8- محمد جواد مغنية ، فقه الإمام جعفر الصادق ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ص64 . وللمزيد راجع السيد حسين الحسيني الهمداني ، المصدر السابق ، ص 16-17 .
9- علي القنطاسي ، المصدر السابق ، ص784 .
20- ويشبه هذا الحكم ما يسمى في القانون ” إحساس رأي ” من القاضي وهو ممنوع عليه أن يبدي رأياً في أي قضية معروضة عليه قبل الفصل في الدعوى .
2- محمد جواد مغنية ، المصدر السابق ، ص 64-65 .
22- محمد عبد اللطيف محمد عبد الله ، القاضي بين الشريعة والقانون ، مجلة العدالة الإماراتية ، العدد السابع ، السنة الثامنة ، أبريل 1981 ، ص22 .
23- ابن قرحون ، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، ج 1 ، القاهرة 1930 ، ص12 .
24- د. عبد الكريم زيدان ، القضاء في الإسلام ، مطبعة العاني ، بغداد 1984 ، ص13 .
25- صحيح البخاري ، 4/181 ، وصحيح مسلم ، 3/1342 ، رقم 1716 .
26- محمد شفيق العاني ، أصول المرافعات والصكوك في القضاء الشرعي ، ص162 .
27- فاروق كيلاني ، استقلال القضاء ، ط1 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، سنة 1977 ، ص15 .
28- عبد الوهاب الأزرق ، هل القضاء سلطة مستقلة ، مجلة العدالة الإماراتية ، أبو ظبي ، العدد 11 ، السنة 3 ، سنة 1976 ، ص44 .
29- د. سليمان محمد الطماوي ، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي ، ط2، دار الفكر العربي ، السنة 1973 . المعنى نفسه ، د. إحسان حميد المفرجي ، النظرية العامة في القانون الدستوري والنظام الدستوري في العراق ، جامعة بغداد ، 1990 ، ص75 .
30- يعرف الحكم بانه القرار القضائي الصادر عن محكمة مشكلة تشكيلاً صحيحاً الذي يحسم نزاعاً رفع اليه بالطريقة التي يحددها القانون عن د. حسن ابو الوفا . نظرية الاحكام في قانون المرافعات ، 1980 ، ص 32 . فهو قرار يجب ان يصدر عن محكمة تتبع جهة قضائية ومن ثم فان القرار الصادر من هيئة غير قضائية حتى لو كان من بين اعضاء هذه الهيئة قضاة مثل قرارات مجلس الانضباط العام ، او لجنة التعويض في شركة التأمين الوطنية عن حوادث المركبات لاتعد احكاماً . عن جمال مولود ذيبان . ضوابط صحة وعدالة الحكم القضائي في الدعوى المدنية ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 1992 . لذلك نرى أن تعريف القاضي بانه الرجل او الشخص دون ذكر تخويله بالقضاء غير دقيق .
31- د. إبراهيم نجيب سعد ، القانون القضائي الخاص ، ج1 ، منشأة المعارف بالإسكندرية ، ص235 .
32- راجع حول جريمة إنكار العدالة ، الفصول القادمة من أسباب مخاصمة القضاة ، ص 118 .
33- د. فتحي والي ، الوسيط في قانون القضاء المدني ، القاهرة ، 1987 ، ص155 .
34- د. محمود محمد هاشم ، قانون القضاء المدني ، ج1 ، السنة 1981 ، ص207 .
35- احمد عزيز جايد . دور القاضي في اثبات الدعوى المدنية ، وزارة العدل ، 1988 ، ص 1 . كذلك : د. صالح محسوب . فن القضاء ، ط 1 ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1982 ، ص 7 .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً