مقالة قانونية حول تمييز القضاء الدستوري عن القضاء العادي

سمات القضاء الدستوري وتميزه عن القضاء الاعتيادي ((المحكمة الاتحادية العليا في العراق أنموذجاً))
القاضي سالم روضان الموسوي

إن القضاء الدستوري في كل الأنظمة الدستورية العربية وغيرها، ليس جهة استشارية لباقي السلطات أو الأفراد، وإنما يضطلع بسلطة الحكم على ما يعرض عليه من نزاعات دستورية أتخذ الحكم صيغة القرار التفسيري فيما يعرض من طلبات تفسير لنصوص الدستور، والتي وإن كان لا يحمل في ظاهره طابع المنازعة، بما هوعليها لوضع في المنازعة الدستورية حول دستورية أي قانون من عدمها، إلا إن طلبات التفسير تحتوى على مسألة خلافية بين السلطات أو في داخل إحداها على مضمون نص الدستور وفحواه وبالتالي تحمل طلبات التفسير معنى المنازعة الدستورية وحكمها بمعناها الواسع ، ومع إن الأحكام التي يصدرها القضاء الدستوري لها طابع مشابه ومقارب للأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم الاعتيادية الأخرى بكافة أنواعها المدنية والجزائية والإدارية والعسكرية من حيث الشكل لكن له سمات اخرى تميزه عن الاحكام القضائية الصادرة عن القضاء الاعتيادي ووجه التشابه يتمثل في الجانب الشكلي لإصدار الحكم القضائي من حيث توفره على عدة أركان منها الركن الأول : وهو صدور الحكم من محكمة في حدود ولايتها القضائية والركن الثاني: أن يصدر بموجب خصومة بالشكل المقرر قانوناً للأحكام وعناصره والمنطوق والأسباب[1] والركن الثالث: تشكيل المحكمة من القضاة فضلا عن عملية تسبيب الحكم القضائي لأنه خاتمة المطاف في الخصومة ونقطة النهاية في سباق تصارع وناضل فيه ذوو الشأن بأساليب وأدوات وحجج قانونية، وهو تتويج لجهود كبيرة وإجراءات طويلة قام بها الخصوم وممثلوهم والقاضي وأعوانه، وهو واجب النفاذ وملزم لأطراف الدعوى، وأحيانا للكافة في بعض دعاوى القضاء الإداري ومثله القضاء الدستوري، لكن القضاء الدستوري يبقى متميزا عن كل أنواع القضاء التي أشير إليها من عدة جوانب منها الآتي :

1. إن القضاء الدستوري لا يبحث في الوقائع المادية التي تشكل عنصر أساس في المنازعة القضائية مثلما عليه الحال في القضاء الاعتيادي والتي تتكون من الوجود المادي لوقائع الدعوى وكذلك العناصر القانونية ومن ثم تقوم المحكمة بتحصيل الفهم من إيراد وقائع الادعاء والدفوع المثارة في مواجهة الأدلة المقدمة لإثبات صحة هذه الوقائع لأن الفقه مجمع على ان الواقعة هي مصدر الالتزام وان العمل القضائي يتناول هذه الواقعة من خلال القانون الإجرائي بعد إن يزوده القانون الموضوعي بها وينحصر دوره الدقيق في إزالة عمومية القانون بمواجهة مجموع العناصر الواقعية المطروحة للنزاع أمام المحكمة والتي يمكن عدّها حالة محددة أو خاصة[2] بينما حكم القضاء الدستوري محله القانون النافذ والصادر عن سلطة تشريعية تملك سلطة تشريع القوانين والدعوى التي تنظرها هي دعوى عينية والخصم فيها هو النص القانوني المطعون فيه دون الالتفات إلى أطراف الدعوى الخصوم .

2. الدعوى الدستورية يجب أن تتضمن مطالبة المحكمة الاتحادية العليا في العراق بإلغاء ذلك القانون الذي يتعارض مع الدستور أو إعلان عدم دستوريته بحسب ما يقرره الدستور أو القوانين المختصة ومنثمتكونالنصوص القانونيةهيمحلالخصومة الدستوريةأوهيبالأحرىمحلها، وهي لاتبلغ غايتها إلا بإهدار تلك النصوص بقدر تعارضها مع الدستور[3] بينما في القضاء الاعتيادي لا يمكن للخصوم أن يطلبوا من المحكمة إلغاء القانون لان مهمة القضاء الاعتيادي تطبيق القانون سواء كان قد صدر مستوفياً لشكله الدستوري أو غير مستوفٍ لان القاضي في القضاء الاعتيادي لا يملك سلطة مناقشة القانون من حيث مشروعيته وإنما فقط الاجتهاد فيه وفي ضوء أحكامه ولا يملك سلطة الحياد عن النص القانوني وإنما من الواجب عليه تطبيق القانون.

3. تتولى الدعوى الدستورية البحث بالنقص الوارد في النص القانوني المطعون فيه وتقرر إكمال ذلك النقص على وفق نظرية الإغفال التشريعي لأنها أحياناً تصدر حكمها بإكمال النقص الوارد بالتشريع محل الطعن وهو إعمال لنظرية الإغفال التشريعي فالقضاء الدستوري ليس مجرد قضاء تطبيقياً يقوم بإنزال حكم الدستور بشكل آلي أو مجرد على الواقعات المعروضة عليه، وإنما يتحتم عليه دوماً أن يحاول التوفيق والموازنة بين الشرعية الدستورية وإعلاء حكم الدستور، وبين المحافظة على الاستقرار داخل الدولة وتحقيقه وهو إذ يحاول إقامة هذا التوازن فإنه يبتكر من الحلول التي تحقق الاعتبارين معاً ويأخذ بالتأويلات والتفسيرات التي توصله إلى هدفه ولو كان بعضها يخالف ظاهر ما يؤدي إليه النص الدستوري، تلك المهمة ينفتح معها الباب لدور إنشائي وإبداعي كبير يقوم به القضاء الدستوري مكنه من القيام به النصوص الدستورية ذاتها وما تحمله من عمومية وسعة في خطابها ومرونة في تفسيرها تلك التفسيرات التي لا يمكن أن تنفصل عن الرؤية الخاصة للقاضي الدستوري في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعرض لها في حكمه ولهذا السبب نؤيد بحق من قال إن العدالة الدستورية ليست أبداً عدالة معصوبة العينين والرقابة على دستورية القوانين ليست عملية حسابية أو آلية يوضع بها نص القانون في مواجهة نص الدستور فتظهر على الفور مدى التطابق بينهما أو مدى مخالفة القانون لنصوص الدستور[4]المحكمة الاتحادية العليا في العراق كان تطبيقها لنظرية الإغفال التشريعي تطبيقا اتسم بحكمة المجتهد ومعرفة العالم، وأعطت لنا أحكام ذكرتنا بما كان يتسم به القضاء العراقي من رصانة في الأحكام فضلا عن حمايتها للدستور من عبث التأويل وجعلها صمام أمان لحماية الحقوق ، بينما في القضاء الاعتيادي لا يستطيع القاضي أن يتولى البحث في الأسباب التي لم يدفع فيها الخصم ولا يستطيع ان يخلق أدلة للخصوم وليس له ان يقضي الا بما توصلت اليه قناعته من الأسباب المقدمة في الدعوى وهو محدود الصلاحية ويعمل في إطار النص القانوني النافذ حصرا ولا يستطيع ان يخلق قاعدة قانونية لم يرد فيها نص قانوني صريخ نافذ وان كان له إن يكيف الوقائع التي يتقدم بها الخصوم مع النصوص القانونية النافذة .

ومن خلال ما تقدم نجد ان للقضاء الدستوري سلطة أوسع مما لدى القضاء الاعتيادي فضلاً عن تعامله مع الأحداث والوقائع السياسية العامة لان الحكم الصادر عن القضاء الدستوري المتمثل بالمحكمة الاتحادية العليا في العراق يكون محله النظر في دستورية القوانين ومدى مطابقتها للمبادئ الواردة في الدستور فضلاً عن قرارها التفسيري فان مادته الرئيسية تكون الدستور وهذا ما يميز القضاء الدستوري عن القضاء الاعتيادي، لان القضاء الاعتيادي يتولى تطبيق القانون كيفما يكون طالما صدر عن الجهة التشريعية إما عن مدى دستوريته فلا يدخل في صلاحيات القاضي الاعتيادي بينما القضاء الدستوري يناقش القانون وينظر في أحكامه ومدى مطابقتها للدستور وللقضاء الدستوري سلطة إلغاء أو تعطيل النص القانوني من خلال الحكم بعدم دستوريته لذلك فان مادة القضاء الدستوري ومحل الدعوى الدستورية هو القانون ذاته والتفسير يتناول الدستور وكلاهما (الدستور والقانون) لهما وظيفة سياسية بالتأكيد ستنعكس على الحكم أو القرار الصادر عن القضاء الدستوري.

 

[1]للمزيد انظر محمد سعيد عبدالرحمن ـ الحكم القضائي أركانه وقواعد إصداره ـ منشورات الحلبي الحقوقية ـ بيروت ط 1 عام 2011 ـ ص 21

[2] د. عبد الرزاق السنهوري الوسيط -ج1 – المجلد 1 – منشورات الحلبي الحقوقية بيروت ط3 عام 2000 – ص142

[3] الدكتور غني زغير عطية محمد ـ الدعوى الدستورية بين القانون وقرارات المحكمة الاتحادية العليا في العراق دراسة تحليلية ـ مجلة جامعة ذي قــار المجلد ـ11 العدد الثاني عام 2016 ـ ص56

[4]الدكتور عبدالعزيز سالمان ـ رقابة الإغفال في القضاء الدستوري ـ بحث منشور في المجلة الدستورية التي تصدر عن المحكمة الدستورية العليا في مصر العدد 15 السنة السابعة

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.