المحكمة الاتحادية العليا والحراك الدستوري في العراق
القاضي سالم روضان الموسوي
قبل عدة أيام اتصل احد الأصدقاء القضاة العرب وطلب مني توضيح عن حجم العمل القضائي الدستوري في العراق لأنه بعد أن اطلع على موقع المحكمة الاتحادية العليا وملاحظته عدد الدعاوى التي تنظرها وطبيعة ونوع تلك الدعاوى من خلال بعض القرارات التي اطلع عليها أو المبادئ التي وردت فيها من خلال الفهرس التحليلي الذي نشرته المحكمة الاتحادية عبر موقعها الالكتروني وكان له اثر كبير في إيصال تجربة القضاء الدستوري إلى المختصين والباحثين في القضاء الدستوري على مستوى الوطن العربي وكذلك إلى العالم عبر القرارات التي تمت ترجمتها إلى اللغة الانكليزية والتي نشرها موقع المحكمة الاتحادية العليا الالكتروني وكان سؤال ذلك الزميل العربي بصيغة التعجب والإكبار على حجم العمل الذي تضطلع به المحكمة الاتحادية العليا بوصفها محكمة قضاء دستوري قياسا بعمرها القصير نسبياً وحجم الأحكام التي صدرت عن العديد من المحاكم او المجالس الدستورية في بعض البلدان العربية وهذا السؤال لفت الانتباه إلى عدة أمور تتعلق بالواقع الديمقراطي والوعي الدستوري في العراق ودور تلك الأحكام في الحراك الدستوري الفعال في الحياة السياسية او العامة في العراق،
حيث نرى ان القضاء الدستوري في العراق لم يولد بشكله الحقيقي والفعال إلا بعد تاسيس المحكمة الاتحادية العليا القائمة الآن والتي تشكلت بموجب قانونها المرقم 35 لسنة 2005 النافذ وما كان قبل ذلك التاريخ مجرد مسميات لم ترى النور ومن تاريخ تأسيس الحكم الوطني في العراق عام 1921 ولغاية تأسيس المحكمة الاتحادية العليا عام 2005 لم نجد أي عمل للقضاء الدستوري حيث لم تشكل أي محكمة ولم تنعقد ولم تمارس اختصاصها سوى مرة واحدة عندما طلب منها مجلس الوزراء في حينه البت في دستورية قانون منع الدعايات المضرة رقم (20) لسنة 1938م وأصدرت قرارها بإلغاء مادتين من مواده (الرابعة والخامسة) لمخالفتها القانون الأساسي لعام 1925 وكان ذلك في القرن التاسع عشر ونحن الآن في القرن الحادي والعشرون، وهذا هو القرار اليتيم في القضاء الدستوري العراقي لغاية عام 2005 وبلغ الدعاوى التي نظرتها المحكمة الاتحادية خلال فترة عملها من عام 2005 ولغاية نهاية عام 2016 حيث بلغ مجموعها (971) تسعمائة وواحد وسبعون دعوى منها (218) قرار تفسيري والقرارات التي صدرت في الطعون بعدم دستورية القوانين بلغت (753) سبعمائة وثلاثة وخمسون قرار وادناه مخطط بياني يوضح تفصيلا حجم العملة خلال السنوات من 2005 ولغاية 2016 ولم أتطرق إلى عام 2017 لأنه لم ينتهي بعد وفيه عشرات الدعاوى التي ما زالت قائمة وأدناه مخطط بياني لعدد الدعاوى ونوع القرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا
ويظهر من خلال ما تقدم المؤشرات عن هذا الكم النوعي من الأحكام التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا واهما الآتي :
1. إن المحكمة الاتحادية العليا مارست دورها في حماية المبادئ الدستورية التي وردت في دستور عام 2005 لأنها قضت في العديد من أحكامها بعدم دستورية قوانين بأكملها أو في بعض موادها.
2. إن المواطن والموظف الحكومي التنفيذي وكذلك النائب في البرلمان كان يلجئ إلى المحكمة الاتحادية العليا عندما يرى بان خرق دستوري حصل في عمل تنفيذي أو تشريعي أو في قانون صادر عن مجلس النواب أو نظام وتعليمات عن السلطة التنفيذية وهذا يشكل نقطة تحول في الوعي الدستوري لان أصبح هؤلاء على يقين بوجود قضاء قادر على تصحيح المسار باتجاه المبادئ الدستورية.
3. كما لوحظ إن المواطن العادي كان له السهم الكبير في الدعاوى التي أقيمت وهذا يؤشر على انتشار الوعي الدستوري لدى المواطن العادي بوجود دستور وقضاء دستوري يؤمن له الحماية من الخرق أو الاعتداء الذي تقوم به السلطات سواء التشريعية او التنفيذية.
4. إن اللجوء إلى القضاء لفض الخصومة تجاه السلطات العامة يؤكد على إن الحياة السياسية في العراق تحظى بإطار ديمقراطي يتيح للجميع المشاركة في الحياة السياسية ويشارك فيها المواطن عبر القضاء الدستوري بتصحيح مسارات العمل لدى السلطات كافة.
5. كما يؤشر هذا الكم الكبير والنوعي لقرارات المحكمة الاتحادية العليا في العراق على ان الجميع ملتزم بمبدأ الفصل بين السلطات لان جميع السلطات التزمت بالأحكام التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا بشكل حرفي ولم نسمع عن أي ممانعة من أي جهة كانت تجاه الأحكام التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا في العراق
6. ومن خلال مراقبة نشاط المحكمة الاتحادية العليا عبر نوعية الأحكام التي أصدرتها نجد إنها أرست ثوابت دستورية أسهمت في تكوين شكل الدولة العراقية الحديثة بما يتلائم وروح الدستور النافذ، كما أسهمت كثيراً في تشكيل وصياغة النظام الدستوري في العراق وحافظت على مبدأ سيادة القانون من خلال تعطيل النصوص القانونية التي تتعارض مع المبادئ الدستورية الواردة في دستور عام 2005 النافذ، والمتابع للقرارات والأحكام التي أصدرتها سيجد إنها عطلت نصوص قانونية لأسباب تتعلق بالشكل الدستوري لصدورها أو لتعلقها بموضوع الأحكام الواردة فيها، فضلا عن دورها في سد النقص التشريعي في بعض القوانين التي طالها الإغفال التشريعي
7. كما كان لها الأثر في إكمال النقص التشريعي في القوانين وهو إعمال لنظرية في فقه القانون الدستوري تسمى بنظرية الإغفال التشريعي، فكان التشريع يصدر عن السلطة التشريعية (مجلس النواب) ولان هذه التجربة حديثة ولم تصل إلى مرحلة النضج الكامل مع ما يحيطها من ظروف وعند ممارستها لعملها أصدرت عدد من القوانين وكان بعضها لم تراعِ فيه فنون الصياغة التشريعية، مما شاب بعضها النقص والغموض، وبعض هذه القوانين كانت مهمة ومفصلية في بناء العراق الديمقراطي الجديد مما دعا بعض الناشطين في المجتمع المدني إلى الطعن في هذه القوانين أمام المحكمة الاتحادية العليا التي تصدت للفصل في هذه الطعون على وفق المبادئ الحديثة في علم التفسير وفنون القانون وصواب الاجتهاد وكان لها دور كبير في معالجة النقص في هذه التشريعات بإكمالها بأحكام قضائية أصدرتها وكان تطبيقها لنظرية الإغفال التشريعي تطبيقا اتسم بحكمة المجتهد ومعرفة العالم، وأعطت لنا أحكام ذكرتنا بما كان يتسم به القضاء العراقي من رصانة في الأحكام فضلا عن حمايتها للدستور من عبث التأويل وجعلها صمام آمان لحماية الحقوق
ومن خلال ما تقدم عرضه فان المحكمة الاتحادية العليا وعبر الأحكام التي وعلى امتداد عمرها القصير نسبياً كان لها اثر كبير في تحقيق منجز فقهي يتعلق بالقضاء الدستوري فاق عمل العديد من المحاكم الدستورية في بعض البلدان المجاورة أو والمماثلة لنظام الحكم في العراق، كما أثنى الكثير من فقهاء القانون الدستوري في الوطن العربي وخارجه بالعطاء الثر لعمل المحكمة، مما يدعو الجميع إلى التفاخر بوجود قضاء دستوري عراقي له سمات خاصة تتناسب وطبيعة نظام الحكم في العراق وينطلق من استقلاله التام وحياده وموضوعيته تجاه القضايا التي نظر فيها ولو لم تكن الكتيبة الفقهية المتمثلة بقضاة المحكمة الاتحادية العليا على قدر عالي من المسؤولية والحكمة والتجربة القضائية الطويلة لما كان لنا هذا المنجز الفقهي الكبير ولابد من الإشارة إلى الرجال الذين أسهموا في هذا الانجاز الفقهي وهم أعضاء المحكمة الاتحادية العليا وعلى رأسهم معالي الرئيس القاضي مدحت المحمود فضلا عن توليه إدارة مجلس القضاء الأعلى منذ تشكيله ولغاية الشهر الماضي وكان لوجوده على رأس السلطة القضائية وإدارتها اثر في بقاء ساحة العدل دون الانحياز أو الميل نحو الأهواء السياسية،
إذ تحملت الإدارة ممثلة برئيسها القاضي مدحت المحمود احتواء الصدمة والهجمات التي تعرض لها القضاء، والتي لم تتوقف إلى الآن وكان لشخصيته اثر بالغ ومؤثر في احتواء الأزمات وإدارتها إذ يتمتع شخص القاضي مدحت المحمود بمزايا كان لها دور في تحقيق المنجز واستقبال القادم، وقال فيه البروفيسور شبلي ملاط في مقال نشرته صحيفة القانون والسياسة الألمانية عام 2009 ((إن ما قام به رئيس المحكمة الاتحادية العليا وزملائه كان مذهلا لمن يتتبع مسيرة السلطة القضائية خلال السنوات العصيبة لبناء سيادة القانون بعد 40 عام من الدكتاتورية .. وقدم القضاة العراقيون لبلدهم على مدى السنوات الخمس الماضية تفان لا مثيل له على هذا الكوكب، لا شيء اقل من البطولة، وقلب كلب هذا العمل والتفاني مدحت المحمود)) وفي نطاق القضاء الدستوري فان المحكمة الاتحادية العليا وفي ظل رئاسته كانت المثال الحي على وحدة العراق ففي أروقتها كان كل العراق يقف امتثالا لقول القضاء سواء في المحافظات او في الإقليم، فان المحكمة الاتحادية لها الولاية على الجميع وعلى كل التراب العراقي وحصل ان مثل المتخاصمون من الإقليم وغيره أمامها.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً