القضاء والمصالحة السياسية
إن المتابع للتغيير الديمقراطي في العراق منذ عام 2003 يلاحظ بشكل وضح لا يقبل اللبس ولا يحتاج إلى تدقيق معمق مستوى قلة الخبرة لدى القوى السياسية بالمرتبة الأولى وكذلك لدى جمهور الناخبين فضلاً عن المؤسسات الدستورية القائمة على العملية الديمقراطية في البلد فبلا شك فيه أن حداثة التجربة بل قل غرابتها ليس في العراق فحسب بل على مستوى المنطقة سواء العربية منها أو الإقليمية كان له الأثر الأكبر في هذه العثرات والكبوات التي تعاني منها العملية السياسية.
فالتداول السلمي للسلطة أمر غير مألوف وغير معتاد عليه من قبل الجميع سواء القابضين على السلطة أو المتنافسين معهم وذلك ينسحب كذلك على جميع المؤسسات الأخرى التي لها علاقة بشكل أو بآخر بتلك المنافسة فالإعلام وكذلك النخب الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية هي كذلك أصبحت جزءاً من هذا التنافس الجديد وغير المألوف في المنظومة المعرفية لتلك المؤسسات فقد لاحظنا التصريحات التي كان يتداولها الإعلام على لسان المتنافسين السياسيين والتلويح بحدوث حالات تزوير وذلك في يوم الانتخابات وكانت المراكز لم تغلق أبوابها بعد ، والصناديق لما تنتهي لتلقف الأصوات الانتخابية وبعد الغلق استمر مسلسل الطعن بالعملية الانتخابية والتشكيك بوجود التزوير وربما لم يستثن احد من المتنافسين من قضية الطعن والتشكيك أما بعد إعلان النتائج فالمسألة أخذت أبعاداً أكثر حدة وخطورة فلا يخفى أن بعض القوى لوحت بعودة العنف والأخرى اتجهت إلى الاستقواء بالآخر وهذا الآخر محلياً احياناً وخارجياً في احيان اخرى ..
وما يهمنا هنا هو موقف القضاء العراقي وموقف المتنافسين من قرارات القضاء العراقي المتصلة بموضوع الانتخابات فقد ظهرت أولى قرارات القضاء بصدد العملية الانتخابية الأخيرة التي جرت في 7/3/2010 وهو القرار التي أصدرته الهيأة القضائية المختصة بالنظر في الطعون على القرارات الصادرة من هيأة المساءلة والعدالة حيث أصدرت الهيأة المذكورة ..
قراراً يقضي بإرجاء النظر في الطعون إلى ما بعد الانتخابات وعند صدور القرار المذكور هلل المستفيدون منه وكبروا وأشادوا ومجدوا بالقضاء وأشاروا إلى عدل الفاروق الذي يتحلى به القضاء العراقي وكان من الجانب الآخر الرافضون للقرار قد اعدوا العدة لمهاجمة القرار ومتخذيه بل مهاجمة القضاء العراقي برمته ولا يفوتني مدى التسخير الطرفين لأدواتهم الإعلامية للترويج للاتجاه الذي تبناه .. ومؤكد وفق ما ينسجم مع مصلحته …
وبعد ذلك تراجع القضاء عن قراره المذكور باعتبار أن القرار لم يتطرق إلى الجانب الموضوعي في موضوع الادعاء وإنما كان القرار معبراً عن حجم الطعون والموارد المتاحة للهيأة التي تنظر تلك الطعون وأدى القرار إلى النظر في الطعون ونتج عنه إصدار القرار من الهيأة القضائية بالمصادقة على استبعاد بعض المرشحين من المنافسة الانتخابية وهنا عاد نفس السيناريو السابق إلا أن الأعزاء تبادلوا الأدوار ومن هلل وكبر للقرار السابق بدأ يشتم ويلعن والطرف الآخر بدأ يكيل المديح والثناء للقضاء العراقي ونزاهته وشرفه وشجاعته وبعدها وفي نفس الصدد أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها التي تضمن تفسير الكتلة النيابية الأكثر عدداً وهنا طبعاً كان وقع القرار اكبر من الذي سبقه على المنافسين وبنفس الطريقة التي اشرنا إليها سابقاً ومن المهم الإشارة إلى جمهور الناخبين ومدى التأثير السلبي والسيئ الذي يقع عليهم من جراء ذلك والذي نريد أن نخلص إليه عدة أمور مهمة وبسيطة في نفس الوقت وهي على التوالي :
1 – أن القوى السياسية المتنافسة في العراق تضع القضاء في مرمى نيرانها كلما تعرضت مصالحها السياسية إلى الانتقاص بناءاً على قرارات القضاء ولربما على القضاء بالمدح والثناء بين الحين والآخر بناءاً على المصالح السياسية أيضاً
2- إن المراقب الفطن يكتشف بسهولة شديدة أن القضاء العراقي تعرض لهجمات القوى السياسية المختلفة أي أن لا جهة راضية تمام الرضا على القضاء ومن ذلك يمكن استنتاج أن القضاء لا يميل لجهة على حساب الأخرى.
3 – ومن المهم أن نقف وقفة إجلال وإكبار واحترام بالنسبة إلى موقف القضاء أثناء التأزم الطائفي في العراق في السنين العجاف التي مر بها البلد والتي تسامى فيها القضاء وأصر على استخدام الدليل والإثبات القانوني وليس الانتماء العرقي أو الطائفي للفصل في المنازعات المعروضة أمامه مع وجود بعض الحالات الشاذة التي لا يقاس عليها.
4 – إن عمل القضاء العراقي في النظر بالنزاعات التي تخص العمل السياسي والديمقراطي والفصل في المنازعات التي تخص المؤسسات الدستورية قد بدأ في 2004 هذا يعني أن الخبرة المتراكمة في هذا الصدد بدأت بعد التاريخ المذكور ولم تكن هناك أية خبرة سابقة باعتبار أن الأنظمة السابقة لم تسمح للقضاء بالتدخل في مثل هكذا قضايا وبالتالي فان القضاء اليوم يحاول اختزال وبناء خزين تراكمي من الخبرة الجديدة وهذا مما يجعل خطأ القضاء غير المقصود وارداً.
5- إن المحكمة الاتحادية هي خط الدفاع الأخير للديمقراطية في العراق وهي جزء من السلطة القضائية فكما لاحظ العراقيون أن كل الأمور التي اختلف فيها السياسيون وعجزوا عن حلها أحالوها إلى المحكمة المذكورة للفصل فيها وفي الغالب فان قرارات المحكمة المذكورة كانت تنال سخط البعض قبل رضا البعض الآخر.
6 – والأمر الأخير الذي يجب على الجميع بصرف النظر عن عناوينهم أن يؤمنوا به ويدافعوا عنه بكل قوة هو استقلال القضاء حيث أن ذلك الاستقلال هو المظلة الحقيقية لجميع العراقيين سواء المتحزبين منهم او المستقلين على اعتبار أن الدستور العراقي لعام 2005 حاله حال جميع الدساتير التي تبنت الديمقراطية كمنهج أعطى للقضاء دوراً بارزاً وعظيماً وإذا اكتفينا بدور التصديق على الانتخابات لكفى حيث لا يمكن حسم الانتخابات ونتائجها دون مصادقة القضاء وبذلك لا يمكن تشكيل برلمان ولا حكومة دون تلك المصادقة لذا فمن الواجب ان نعمل على دعم ومساعدة القضاء على تدعيم أسس استقلاله ومنع التدخل في قراراته وذلك ليس فيه مصلحة للقضاء فحسب بل أن المصلحة تكون للعراق الجديد .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً