مسؤولية القاضي عن التعويض عند التوقيف التعسفي / بقلم فتحي الجواري
توقيف الاشخاص من الاجراءات الخطيرة التي أجازها القانون أثناء مرحلة التحقيق ، إذا أقتضت مصلحة التحقيق إتخاذ ذلك الإجراء للوصول الى الحقيقة .
وهذا الإجراء تكمن خطورته في كونه يمس مباشرة حريات الاشخاص ويقيدها ، ويحول بينهم وبين ممارستهم لحياتهم الاعتيادية ، ويتم إبعادهم عن اسرهم ومحيطهم الاجتماعي ، ويمنعهم من تحصيل رزقهم ، كما انه يسيء لسمعتهم ، بل انه يلحق الاذى بإسرهم .
وتبدو خطورة هذا الاجراء واضحة اذا ما علمنا انه يتخذ ضد إنسان ما زال يعد بريئا في نظر القانون .
لخطورة هذا الاجراء ، ولتعلقه بحرية الانسان ، فقد أتجهت الدساتير، والقوانين ، ومواثيق حقوق الانسان ، الى إحاطة هذا الإجراء بجملة من الضمانات والاحتياطات التي تحول دون التعسف في إستعماله ، وبالتالي بما يمنع الحاق الضرر بالابرياء وبمايحول دون ان يكونوا ضحايا للقانون .
ومن أبرز تلك الضمانات التي وضعتها التشريعات ، انها حصرت قرار التوقيف بالجهات القضائية ، مفترضة فيها الكفاءة والاستقلال والنزاهة والحياد بين اطراف الدعوى . ومع وجود تلك الضمانات التي حرصت التشريعات على إحاطة إجراء التوقيف بها ، الا ان ذلك لم يمنع ان يتم التعسف في اتخاذه ، وخاصة حين يسرف قضاة التحقيق في التوقيف في الكثير من الحالات التي لاتستوجب التوقيف اصلا . فقد يميل بعض القضاة للتمادي في التوقيف وفي تمديده لمدد قد لاتتناسب وطبيعة التهمة او الادلة المقدمة في الدعوى . فقد لاحظت خلال عملي القضائي ، ان بعض القضاة يلجؤون للتوقيف كإجراء لإرضاء المشتكي ، وخاصة في حوادث السيارات التي تلحق اضرارا جسدية بالاشخاص تتسبب في رقودهم في المستشفى ، فيستمر القاضي بتوقيف المتهم طالما استمر المصاب راقدا في المستشفى . وقد يتخذ بعض القضاة من اجراء التوقيف وسيلة عقابية خاصة في قضايا النزاعات العشائرية ، او المشاجرات التي تحدث بين بعض العوائل المتجاورة ، إذ يتحجج القاضي بإستمرار التوقيف لإجبار المتنازعين للمصالحة فيما بينهم .
كما لاحظت ان البعض الاخر من قضاة التحقيق يقدمون على اصدار اوامر القبض ضد الاشخاص ، ومن ثم توقيفهم بعد القبض عليهم ، لمدد قد تطول نسبيا ، في شكاوى لم تتوفر فيها ادلة كافية وجدية . واتذكر بهذه المناسبة اني عملت قاضيا للتحقيق في منطقة الرصافة في نهاية ثمانينات القرن الماضي ، وكان مركز شرطة باب المعظم ضمن منطقة عملي القضائي ، عرض احد محققي الشرطة عليٌ اوراقا تحقيقية تضمنت شكوى صاحب مقهى ادعى فيها ان شخصا (اسمه … كذا) دخل مقهاه وقام بتحطيم صورة الرئيس السابق المعلقة على جدار المقهى ، وقام بسب ذلك الرئيس . لم تتعزز اقوال ذلك المشتكي بأي دليل ، فطلبت من محقق الشرطة ، ان يطلب من المشتكي تعزيز شكواه بالادلة القانونية المعتبرة كشهادات الشهود، ثم يعيد عرض الاوراق التحقيقية علي ثانية . احلت للتقاعد بعد فترة ، واتجهت لمهنة المحاماة ، فوجئت بزميل من المحامين يتصل بي ليخبرني انه موقوف في مركز شرطة باب المعظم ، بتهمة تنطبق واحكام المادة (225) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 ، وتلك المادة تتعلق بإهانة رئيس الدولة وتصل عقوبتها الى الاعدام وكانت تنظر من قبل محكمة الثورة ، اسرعت لنجدة ذلك الزميل ، تصور عزيزي القاريء ماذا وجدت ! اتضح ان القاضي الذي اعقبني في تلك المحكمة عرضت عليه الاوراق التحقيقية التي حدثتكم عنها لغلق التحقيق فيها لعدم مراجعة المشتكي ولخلوها من الادلة ، الا ان القاضي الفاضل ! بدلا من ان يغلق التحقيق لعدم كفاية الادلة بادر لاصدار امر القبض ضد المتهم الذي اتضح انه محام وكان قبل عمله في المحاماة ضابطا برتبة كبيرة .
وهكذا اوقف هذا الرجل وزج به في موقف قذر مع النشالين بتهمة خالية من الادلة ، ولم يخل سبيله الا بعد ان تدخل رئيس محكمة الاستناف القاضي اكرم الخضار . واعتقد – وارجو ان يكون اعتقادي خاطئا- ان ذلك القاضي اخذه الفزع والرعب حين وجد ان تلك الاوراق التحقيقية تتضمن الادعاء بتحطيم صورة الرئيس السابق والتعرض لشخصه بالسب والشتم ، فارتجف القلم بين يده واتجه ليصدر امر القبض والتوقيف في قضية خالية من الادلة واقتصرت على ادعاء مجرد لاقوال المشتكي الذي قد تكون له دوافعه الخاصة ضد المتهم فاختار ان يتهمه بهذا الاتهام الذي ارتعدت له فرائص القاضي . أقول لهذا القاضي وأمثاله ( ماهكذا ترعى يا سعد الابل …) .
ان نظرة عجلى لسجلات محاكم التحقيق تؤكد لنا ان الاف الدعاوى تغلق لعدم كفاية الادلة ، ولاتصل لمحاكم الجنح او الجنايات الا الجزء اليسير منها ، وحتى هذا الجزء اليسير ينتهي اكثره بالافراج ان لم يكن من قبل محكمة الجنح او الجنايات فمن قبل محكمة التمييز ، الاان هذا الافراج – اوقل الفرج – لايأتي لهؤلاء السيئي الحظ الابعد ان يكونوا قد امضوا اياما طويلة في تلك المواقف البائسة لاقوا خلالها الامرين من تعسف مسؤولي تلك المواقف ، ولحقت بهم وبعوائلهم الاضرار المادية والمعنوية ، وتعرضوا لعذابات نفسية وجسدية ، وتضرروا ماديا ، إذ تعطلت مصالحهم واعمالهم ، وتكبدوا اموالا انفقوها ليتلمسوا طوق النجاة ، وتركوا عوائلهم تتناهب كياناتها اعاصير مدمرة ، ناهيك عما لحق بهم وبأسرهم من سوء السمعة التي قد تظل تلاحقهم في منطقة سكنهم ، ومحلات عملهم ، وفي محيطهم الاجتماعي بصورة عامة .
الشيء بالشيء يذكر ، اني عملت ابان ثمانينات القرن الماضي مدعيا عاما لمحكمة جنايات الكرادة ، وكما تعلمون ان من واجبات الادعاء العام المهمة زيارة المواقف وتفقد احوال الموقوفين فيها ومتابعة قضاياهم – وارجو ان يكون هذا الواجب لازال من بين النصوص التي يتضمنها قانون الادعاء العام رقم (159) لسنة 1979 لحد الان ، وإن كان النص لازال قائما ، فلعله يطبق بفعالية – .
وتنفيذا لهذا الواجب انتقلت والزميل ثامر الشيخلي الى مركز شرطة الزعفرانية ، الذي كان الموقف الملحق به قد خصص لتوقيف النساء المتهمات في ذلك الوقت ، وقد شاهدنا عمق المأساة التي تعاني منها (74) إمرأة حشرن في غرفة لاتزيد مساحتها عن عشرين مترا مربعا ، وما زاد في بشاعة المأساة ، ان بعض الموقوفات اصطحبن معهن اطفالهن الرضع . تابعنا قضاياهن ، فماذا اتضح لنا ؟ اتضح لنا ان بعضهن امضين في ذلك الموقف البائس اكثر من عام في تهم باطلة تخلو من الادلة ، وكان القضاة – واقولها بأسف والم – يكتفون بتمديد توقيفهن حالما يحل تاريخ انتهاء التوقيف ، دون ان يكلف احدهم نفسه لتقليب الاوراق المعروضة عليه ليرى لم هذه الانسانة موقوفة ، ولم مرت تلك الشهور على توقيفها دون ان تحسم قضيتها ، وهل هناك ما يستوجب توقيفها اصلا ؟ ،هل كان نظام صدام حسين هو الذي امر اولئك القضاة ان يفعلوا ما فعلوا ؟ ام هو موت الضمير وفقدان الاحساس بالواجب المهني والانساني ؟ اترك الجواب لك عزيزي القاريء الكريم !
كانت نتيجة تلك الزيارة التي تمت عام (1985) ، ان اعددنا تقريرا يقطر اسىٌ ، حرك لدى المسؤولين – يوم ذاك – الاحساس بالمسؤولية الانسانية ، فتم الغاء ذلك الموقف ، وتم الايعاز بنقل الموقوفات الى منطقة الكاظمية ، في مبنى فسيح الارجاء بقاعات وغرف كبيرة وحدائق . حققت لتلك المظلومات بعض ما قررته لهن القوانين من ان يعاملن كبشر ، الا اني لقيت من زملائي القضاة الغضب والمقاطعة ، الا اني ارضيت ضميري وأديت واجبي كإنسان ورجل عدالة .
عدت بعد سنوات للعمل في القضاء بعد سقوط النظام السابق ، فماذا وجدت ؟ اقولها وبصراحة ، وجدت الامور أكثر سوءا ، عشرات الموقوفين تغص بهم المواقف ، بعضهم امضى اشهرا ، والبعض الآخر امضى مددا تجاوزت السنة ، فاحتفلوا بمضي تلك السنة باسىُ ومرارة . أخذت ابحث في اوراق الموقوفين ، فلم اجد في اكثرها الا وريقات خالية من أي دليل يستوجب التوقيف ، بل لم يكن هناك ما يستدعي الاستدعاء للتحقيق اصلا ، بعضهم قبض عليهم من قبل قوات الاحتلال بورقة وقعها عريف امريكي يدعي فيها انه شاهد المتهم وثيابه ملوثة بالدم ! لم يتسآل القاضي الذي قام بتوقيف ذلك الشخص اي دم هذاالذي لوث دم الرجل هل هو دم المتهم نفسه ، ام دم دجاجة ام دم خروف كان قد نحره المتهم قبيل القبض عليه . ثم أين المتهم ؟ لاوجود له ! استصحبته قوات الاحتلال معها بعد ان تركت للشرطة العراقية تلك الورقة الموقعة من عريف امريكي مجهول ، الكل يخاف فالشرطة في ورطة ولا تدري ماذا تفعل الا ان تلجا للقاضي ، الذي يخاف بدوره ، ولا يدري ماذا يفعل الا ان يلجأ للتوقيف ، وتمديد التوقيف كلما حان موعد انتهائه . والموقوف المسكين ليس له الا الله . صدقوني هذه حقائق .
وهكذا ايها السادة ، في ايام الدعوة لتكريم بني البشر ووجود مواثيق لتضمن حقوق الانسان ، ووزارة لحقوق الانسان ،وهيئة عامة لحقوق الانسان الى جانب الوزارة وورش تقيمها منظمات لاادري عددها تدعو لضمان حقوق الانسان ، يعامل الانسان بهذه الصورة وتبقى روحه رخيصة لاتساوي قيمة الورق الذي قرر القاضي على صفحاته زجه في التوقيف ، ثم يمدد توقيفه ، دون لحظة تأمل ليسأل القاضي نفسه ، هل ان ما اسند لهذا الانسان يستوجب التوقيف ، ام لا ، فإن كان الامر لايستوجب لم يستمر موقوفا ؟
وهكذا اعود ثانية لعام 1985 حين استجلبت على نفسي غضب زملائي القضاة وزعلهم مني . إذن مالعمل ؟ على حد قول أحد منظري الماركسية .
لامفر لضمان حريات الافراد وكرامتهم ، الا من خلال إحاطة قرار التوقيف بنصوص قانونية تضمن انسانية الانسان ، وأن ندعو قضاة التحقيق – في الوقت الذي تعقدت فيه الامور – الى عدم المغالاة في هذا الاجراء الاستثنائي وعدم اللجوء لهذا الاجراء الا عندما تتوفر امامهم ادلة كافية وجدية تدل على نسبة الجريمة للمتهم . كما وأدعو قضاة التحقيق لتسبيب قرارات التوقيف ، والزامهم بذلك من خلال رقابة محكمة الجنايات بصفتها التمييزية على قراراتهم ، ومن خلال رقابة أجهزة الاشراف القضائي . وكلنا نتذكر واقعة الكاتب والاديب ( … قاسم) – اعذروني فقد نسيت اسمه الاول – الذي اوقف وفق المادة (4) من قانون مكافحة الارهاب ، وهو الذي لم يذبح في حياته دجاجة ، كما قيل، ان لم يكن يخش الاقتراب منها أصلا ، أذ لولا موقع كتابات الذي فضح الموضوع ونداءات الكتاب والادباء وتدخل معالي رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي مدحت المحمود ، لكان ذلك الرجل النبيل يرزح في التوقيف ان لم يكن قد مات فيه إذ كان رجلا مسنا ومريضا ، قبل ان يصحو ضمير من كان السبب في توقيفه . ولم يكن ليصحو لولا تدخل معالي رئيس مجلس القضاء الاعلى ونداءات موقع كتابات الذي اكتظ بنداءات زملاء ذلك الرجل (الارهابي الخطير !) .
هنا اتساءل هل يمكن مساءلة القاضي ان كان متعسفا في قرار التوقيف ؟
اختلفت الاراء في الاجابة على هذا التساؤل . الا ان الرأي الراجح في الفقه ، يميل للاعتدال في ذلك ، بهدف ضمان اطمئنان القاضي عند تحديد مسؤوليته في حدود معقولة ، كما ان هذا الاعتدال يحمي الانسان من الاجراءات المتعسفة البعيدة عن التطبيق القانوني السليم .
لهذا وجب عدم حرمان من تعرض لقرار توقيف تعسفي من أن يطالب بإنصافه وتعويضه عن الاضرار المادية والمعنوية التي تعرض لها جراء توقيفه ، والسماح له ان يشكو القاضي الذي تعسف في استعمال الجواز القانوني الذي خوله اياه القانون .
الا ان ضرورات حماية القاضي عندما يمارس عمله القضائي ، تتطلب تحديد الحالات التي يجوز فيها مخاصمة القاضي ، ولهذا نجد ان المادة (286) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 ، حددت الحالات التي يجوز فيها الشكوى من القضاة : وهي حالات الغش، التدليس ، الخطأ المهني الجسيم الذي يرتكب بما يخالف القانون ، او بدافع التمييز في المعاملة بين الاشخاص ، او بقصد الاضرار بأحد الخصوم .
وتهدف هذه الشكوى الى كشف انحراف القاضي عن جادة الحق ، وما يترتب على ذلك من بطلان الاجراء الذي قام به القاضي ، وبالتالي مسؤوليته عما لحق الاخرين من ضرر مادي او معنوي .
وحيث ان إثبات الغش او التدليس ، امر يصعب اثباته ، خاصة اذا ما علمنا ان عبيء الاثبات يقع على المتضرر ، الذي يكون دائما في موقف الضعف اذ شاءت الظروف ان يزج به في التوقيف ظلما ، فهمه الاول ان ينجو بجلده ، فاني ادعو ان تتحمل الدولة مسؤولية تعويض المتضررين من القرارات التعسفية التي يتخذها قضاتها ، استنادا لفكرة ان مرافق الدولة اثناء ممارستها لعملها قد تلحق ضررا باحد الافراد او مجموعة منهم ، لذلك تتحمل الدولة مسؤولية تعويض ذلك الضرر الذي لحقهم ، واساس دعوتي هذه يستند الى ان مسؤولية الدولة تنهض استنادا للضرر الذي اصاب الفرد وتنهض تلك المسؤولية دون الحاجة لاثبات خطأ القاضي .
وبالتالي فإن للمتضرر ان يطالب بالتعويض عما لحقه من ضرر ، دون ان نكلفه بإثبات خطأ القاضي اذ ان اللجوء لحكم المادة (219) من القانون المدني رقم (40) لسنة1951،لكي يستحق المتضرر للتعويض يتطلب اثبات الخطأ الذي صدر عن المكلف بخدمة عامة لكي تتحمل الدولة عندها مسؤولية اخطاء التابعين لها المكلفين بخدمة عامة . اذا اتجهنا لهذا الاتجاه الذي يحقق العدالة ،و بعد ان يتم تعويض المتضرر يمكن للدولة ان تلاحق القاضي المتعسف تأديبيا من خلال الاجراءات التاديبية التي حددها قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979 .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً