الاخلاق والسياسة / لفتحي الجواري
تعتبر الاخلاق من اهم اركان العمل السياسي ، بل لعلها الثابت الوحيد في هذا العالم المتغير ، وهي وحدها التي يمكن الرهان عليها عند تبدل او تبديل التحالفات . فاذا غابت الاخلاق ومفاهيمها غابت الثقة والاحترام بين العاملين في الاوساط السياسية وبالتالي تنهار كل العلاقات مهما كانت رصينة ومتينة .
وحين نؤكد على ان الاخلاق من الاسس الهامة في العمل السياسي فان ذلك يعود بالدرجة الاساس لتأكيد اهمية عدم تحول السياسي الى آلة مجردة من العواطف فيتحول الى (دراكولا) شره يبتلع من يقف في طريقه فيتحول عالم السياسة الى غابة يتصارع فيها ذئاب بملابس البشر .
لقد دلت التجارب الانسانية ان الذين يعملون في عالم السياسة بوحي من اخلاقهم الحميدة لاتتصدع علاقاتهم ولا تنخرها عوامل الهدم الخارجية ، فتلك الاخلاق الحميدة تجعل علاقات السياسيين عصية على الاختراق الا متى وضع السياسي تلك الاخلاق الى جانب وقدم هواه وحبه للدنيا عليها ، فقد قال الله تعالى (فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لايهدي القوم الفاسقين – سورة الصف آية 5) . ان الكيانات السياسية القائمة على الاخلاق الحميدة والتي يضع رجالها نصب اعينهم المكاشفة ، والشفافية ،والوضوح ،والصراحة ، فإنهم يعملون مع اخوتهم في المجال السياسي كما يعمل الانسان مع نفسه . فيفكرون معا بصوت مسموع . فلا يفسحون الطريق امام من يريد ان يحطم جدار محبتهم بعضهم للبعض الآخر . فالكراهية اذا عمت وشاعت في العمل السياسي تجعل من الحبة كبّة ، والصغيرة كبيرة ، والهفوة جريمة ، والقصور تقصيرا ، والزلة اثما .
فالاخلاق الحميدة هي التي تجعل من وجهات النظر عوامل تلاقي نحو التكامل وبلورة الافكار . وبخلو العمل السياسي من تلك الاخلاق تتحول الآراء ووجهات النظر ، الى نقاط تفجير وتناحر والغام وبؤر احتقان .
وبالتالي تأخذ الجميع نحو التداعي والانهيار نحو الهاوية . قد ينجح المكر والدهاء فترة معينة الا انه سرعان ما تنهار تلك الالاعيب امام اول اختبار ، خاصة ايام المحن .
الا ان التمسك بالاخلاق الحميدة يقطع الطريق امام المتصيدين بالماء العكر وتلتمس الاعذار للاخوان , وبغير تلك الاخلاق ترصد العثرات وتتسقط الكبوات . حتى يصل الامر الى ان تحتسب نقاط الاختلاف (حتى لو كانت انفعالية) على حساب المبادئ . ان النهج الاخلاقي في العمل السياسي يؤكد على زرع القيم الروحية في النفوس كالتسامح والصفح والشفافية وكظم الغيظ وغض الطرف وتناسي الاحقاد والترفع عن الضغائن .
ان تلك الاخلاق الحميدة تصلح اي خلل في العلاقات وترمم ما تخرب منها . ولن يتم ذلك الا من خلال ادراكنا اننا لسنا وحدنا ندعي الصدق والود وغيرنا الخونة , ولسنا وحدنا المجردون من الذاتية وغيرنا النفعيون الانتهازيون . من المؤكد ان اغلب الخلافات تبدأ نفسية ثم ترتدي لباسا عقائديا او فكريا . وهنا تكمن الخطورة في تغطية المصالح الذاتية برداء العقيدة او الدين . فلا ننكر ان المصالح لها دور في الحياة ، فحتى العبادات يتوجه بها الانسان الى ربه لطلب المنافع .
فقد تكون الصلاة لطلب الستر او الجاه او طلب الرزق او العافية او لطلب الجنة والانعتاق من النار ، والا من يستطيع ان يدرك في عباداته عبادة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) حين قال : (أي رب ، اني لم اعبدك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، ولكني وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك) . فمتى ما ادركنا دور المصالح الذاتية في الحياة الانسانية ، انصفنا الاخرين ووضعنا هذه الحقيقة نصب اعيننا عند الحكم على الناس وتقييم مواقفهم .
اذا ادركنا ذلك سنجد عذرا للاخرين في حرصهم على تحقيق مصالحهم ، وادركنا ان هناك قاسما مشتركا بين بني البشر ومجالات واسعة وفسيحة للتلاقي بين الناس على مختلف مشاربهم وعقائدهم ، بل ومصالحهم الذاتية . وبغير هذا الادراك تبقى نيران الكراهية مستعرة ، ويبقى العنف والعنف المضاد هو المسيطر ليتولد عنهما حجب الكراهية ومنطق ابادة الآخر أوازاحته الى زوايا النسيان في الاقل .
اخيرا لنا في وصية الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر سفرا خالدا لم تصل اليه كل الدساتير ومواثيق حقوق الانسان في اسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، او حق الناس على من تصدى لحكمهم ، ففي هذه الرسالة فصاحة لم تبلغها فصاحة احد من العرب ، ودقة لم يصلها كل من يدعي انه يحيط بالحقوق ولغتها وثقافتها . فالرسالة ، او الوصية تتوغل الى اعمق اعماق النفس الانسانية فيقول عليه السلام : (واخفض لهم جناحك ، والن لهم جانبك ، وأبسط لهم وجهك ، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة ، والاشارة والتحية ، حتى لايطمع العظماء في حيفك ، ولاييأس الضعفاء من عدلك) .
ثم يؤكد على الرحمة بالرعية فيقول : (وأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاّك …) .
ثم يضع مقياسا للحق ومعيارا للعدل : (وليكن أحب الأمور اليك اوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة … وليكن ابعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس … ولاتعجلن الى تصديق ساع فإن الساعي غاشٌ وإن تشبه بالناصحين …) .
ووضع منهاجا للتواضع للناس والاصغاء لمطالبهم والاهتمام بشؤونهم بعيدا عن مظاهر الابهة والاستعلاء فيقول : (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتُقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع …) .
ثم يرسم الطريق السوي للعلاقة بين الراعي والرعية فيقول : (واعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق ، حق الوالي على الرعية ، وحق الرعية على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل ، فجعلها نظاما لأنفسهم وعزا لدينهم ، فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ، ولايصلح الولاة الا باستقامة الرعية ، فاذا أدت الرعية الى الوالي حقه ، وأدى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل فصلح بذلك الزمان ويئست مطالع الاعداء .
واذا غلبت الرعية واليها وأجحف الوالي برعيته ، اختلفت هناك الكلمة وظهرت معالم الجور ، وعُطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حق عُطل ، ولا لعظيم باطل فُعل ، فهناك يُذل الابرار ويُعز الأشرار …) .
وعود على بدء نجده يؤكد على حسن السيرة بين الاصحاب فيوصي بالتماس العذر للاخرين ، ويؤكد على حسن الظن بالناس بقوله : (لاتظنن بكلمة خرجت من أحد وأنت تجد لها في الخير محتملا …) .
وفي موضوعنا نجد قولة له : (من سلَ سيف البغي قُتل به) . و : (من أستبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) .
واختتم مقالتي بوصيته (عليه السلام) لابنه الامام الحسن (عليه السلام) التي يوصيه فيها ، ومن خلاله يوصينا ان نجعل من انفسنا ميزانا بينا وبين الناس فيقول : (يابُني اجعل نفسك ميزانا في ما بينك وبين غيرك ،فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لاتحب أن تُظلم ، واحسن كما تحب أن يُحسن اليك ، واستقبح ما تستقبحه من غيرك ، وارضَ من الناس بما ترضاه من نفسك ، ولاتقل ما لاتعلم وإن قلً ما تعلم ، ولا تقل ما لاتحب أن يقال لك …) . هذا هو علي بن ابي طالب جُبل على العدالة وتحكيم القيم والمبادئ في دنيا الناس ، ويكفيه فخرا انه القائل (لا قصاص قبل الجناية ) ، مؤسسا بذلك لأعظم مادة من مواد مواثيق حقوق الانسان وقوانين العقوبات في زماننا هذا ، وهي (المتهم برئ حتى تثبت ادانته) . وهكذا هم أهل الاخرة وهكذا هم اهل الدنيا وسيبقون ، كلٌ ينظر الى الوجود من زاويته ، وكلٌ يفسر الآخرة والدنيا بمنظوره وقراءته لهما ومصالحه فيهما . الا ان الاخلاق الحميدة تبقى هي المعيار للتعامل بين الناس ، وتبقى سنة التكامل مشفوعة بالاختلاف (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً