الحماية الجنائية للتراث في القانون العراقي / القاضي ناصر عمران الموسوي
يشكل التراث منظومة ثراء متميزة تحدد أسس التجذر التأريخي الراسمة لهوية الشعوب ،وهو اداة استنطاق راهنه لماهية الإنجاز الماضوي الذي دأبت عليه الشعوب من خلال سلوكياتها المادية والمعنوية معلنة ًعن صورتها وطريقة تعايشها مع الركام التجاربي الحياتي وصياغة ذلك من خلال التأثر والتأثير العلائقي في تعايشها الانساني ،و اذا كان التراث في بناء مفردته اللغوية يعني : الإرث بمعنى ما يتركه السلف للخلف كالأب للأبناء أو يعني الأصل وهو الشيء القديم أو يعني توريث النار والإبقاء على جذوة اشتعالها وهو المعنى الذي يراه الكاتب (نبيل الشيمي)الاقرب ،كونه يربط بين اذكاء النار والانبعاث الحضاري والثقافي ، أما على الصعيد الفقهي الاصطلاحي فالتراث ضمن هذا التعريف ذو مدلول واسع فهو ميراث الماضي الذي نتفاعل معه ونمنحه الى الاجيال القادمة ،والتراث العالمي هو ملك للإنسانية وقيمة استثنائية لذلك آثرت منظمة (اليونسكو )عام 1972 في كثير من الاتفاقيات على حماية التراث وبخاصة الاتفاقية الخاصة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي ، و المحافظه على التنوع الثقافي للاثنيات والأقليات التي تملك ثقافة وتراث خاص بها وبمجموع هذا التنوع والثقافات المتراكمة عبر مسيرة تعايش تاريخية ،تتشكل القيمة التراثية التي تسعى المنظمة الى الحفاظ عليها كونها جزءا ً من التراث العالمي ، والتراث العالمي ينقسم الى :
1_التراث المادي :يتشكل التراث المادي عبر الجانب المادي المحسوس والمواقع التراثية والطراز المعماري والأثر المادي الملموس الخارج من التصنيف الاثاري والذي لم تمضي عليه الفترة الزمنية التي تم اعتمادها كمعيار عمري للكيان المادي بحيث يدخل في نطاق التراث وليس الاثار وحدد العمر الزمني للتراث بأقل من(200) سنة كما ان القيم الفنية والادبية والدينية والتاريخية التي انتجتها الانسانية واحدة من اهم روافد التراث المادي.
2_التراث المعنوي :فهو النتاج ذو القيمة الفنية والأدبية والعلمية والتاريخية والدينية وقد عرفته اتفاقية (صون التراث الثقافي غير المادي ) بأنه : مجمل الإبداعات الثقافية، التقليدية والشعبية، المنبثقة عن جماعة ما والمنقولة عبر التقاليد، ومنها مثلاً اللغات والقصص والحكايات والموسيقى والرقص وفنون الرياضة القتالية والمهرجانات والطب وحتى فن الطهي . والمتابع لحياة الشعوب يرى بان الشعوب بدأت بالاهتمام وإظهار موروثها التراثي جنبا الى جنب مع الجانب الآثاري ،وبخاصة بعد ان شكلت السياحة في اغلب بلدان العالم مورد اقتصادي مهم يساعد في غنى موارد الدخل القومي والوطني بالإضافة الى تركيز الدول على اظهار الثقافات الشعبية كعلامة مميزة للبلدان تحاول من خلالها نشر ثقافتها والخروج بالمظهر الراقي الجاذب بحيث يكون الزائر ذاته دليلا سياحيا بالمجان في تحفيز الاخرين الذين يلتقي بهم عن طريق الاعجاب بما شاهده وعايشه ،والعراق واحدة من البلدان التي تنام على أرث حضاري تراثي ضخم يفوق ابار النفط التي تطفو عليها ارضه ،ويأتي ذلك من خلال تنوعه القومي والطائفي والاثني والمناطقي وتاريخه الذي تعاقبت على حكمه هذه القوميات والطوائف والاثنيات بحيث صارت فسيفساءه المتنوعة محط ذهول الرائي ،على الرغم من حجم الدمار الهائل الذي طال التراث من خلال سوء ادارة السلطات السياسية التي حكمت والتي لم تكن معبرة عن مكنونات ونتاج العراق الثر وأدخلت العراق في حروب كثيرة لم يجنِ منها سوى الموت والخراب ،و التراث العراقي احد ضحايا هذا الخراب فقد شهد ولما يزل اهمالا شديداً ادى الى ضياع وتخريب وإتلاف الكثير من المعالم والمواقع والمواد التراثية وغابت عنه الحماية الجنائية مقارنة بالآثار التي حظيت بتشريعات وقوانين متعددة حتى صدور قانون الآثار والتراث رقم (55) لسنة 2002 والذي يعتبر قانون الاول الذي تضمن حماية جنائية للتراث حيث جاء في الاسباب الموجبة لصدور القانون ما نصه (من أجل الحفاظ على الابنية الاثرية والتراثية في جمهورية العراق باعتبارها موروثا ً ثقافيا وعلميا ًيمثل الهوية الحضارية للشعب وذات صلة مباشرة في نشوء حضارته وارتقائها عبر العصور ودوره الفاعل في مد الحضارة الانسانية بأولى مقوماتها الاساسية مما أقتضى تسجيل هذا التراث وحمايته وصيانته ومنع التجاوز عليه أو تخريبه كي تبقى معالمه شا خصه امام انظار الناس تحكي دور الانسان العراقي المتميز في وضع اللبنة الاولى لبناء الحضارة الانسانية منذ نشأتها …..)
ان الميزة الرئيسية لهذا القانون هو الجمع بين الاثار والتراث كثنائية تعبر عن الهوية الحضارية للعراق وهو ما جاء في الفصل الاول الذي جاء بعنوان (اهداف القانون ووسائل تحققها ) حيث نصت المادة (1) :(يهدف هذا القانون الى ما يأتي : اولا ً_الحفاظ على الاثار والتراث في جمهورية العراق باعتبارهما من أهم الثروات الوطنية.)
وقد عرف المشرع العراقي المواد التراثية في المادة (4/ثامنا ً ) : بأنها :الاموال المنقولة وغير المنقولة التي يقل عمرها عن (200) سنة ولها قيمة تاريخية أو وطنية أو قومية أو دينية او فنية ويعلن عنها بقرار من الوزير. وبذلك يتحدد العمر الزمني للتراث بسقف اعلى اذا تجاوزه خرج من نطاق التراث الى الآثار والتراث يختلف عن الاثار كون التراث يمكن ان يكون تراثا ً معنويا ً بالإضافة لطبيعته المادية ايضا ً ، الأمر الذي لا ينطبق على الاثار التي تكون كيانا ً مادي محسوسا ً دائما ً حتى ان بقايا الانسان والحيوان تعتبر من الاثار.
(الحماية الجنائية للتراث في قانون الاثار والتراث رقم (55) لسنة 2002 )
لقد آثر المشرع العراقي وبعد سنوات طويلة من الاهمال للتراث ان يشرعن قانونا ً يضمن حماية جنائية للمواد التراثية ،فكان له ما أراد عبر تشريع قانون الاثار والتراث رقم (55) لسنة 2002 والذي يجمع بين الاثار والتراث وبمقتضاه غادر العراق مصاف الدول ذات التشريعات الجنائية التي تعالج الجرائم الواقعة على التراث باليات المعالجة العامة عبر القواعد العامة الواردة في قانون العقوبات ،فقد جاء الفصل السادس من قانون الاثار والتراث وتحت عنوان (العقوبات ) بجملة من المواد القانونية العقابية (من المادة (38 ) وحتى المادة(47) منه ) ،فقد نصت المادة (39) على ما يأتي:يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على (10) عشر سنوات وبتعويض مقداره ضعف القيمة المقدرة للأثر كل حائز لمخطوطة أو مسكوكة أو مادة تراثية مسجلة تسبب في ضياعها أو تلفها كلا ً او جزءاً بسوء نية أو بإهمال منه .) في حين نصت المادة (40) (اولا ً_ يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (7) سبع سنوات ولا تزيد على (15) خمس عشر سنة لمن سرق أثرا ً أو مادة تراثية في حيازة السلطة وبتعويض مقداره (6) ستة اضعاف القيمة المقدرة للأثر او المادة التراثية في حالة عدم استردادها ، وتكون العقوبة السجن المؤبد اذا كان مرتكب الجريمة من المكلفين بإدارة او حفظ او حراسة الأثر أو المادة التراثية المسروقة ، وتكون العقوبة الاعدام اذا حصلت السرقة بالتهديد او الاكراه او من شخصين فاكثر وكان احدهما يحمل سلاحا ً ظاهرا ً او مخبأ .
ثانيا _يعد الشريك في ارتكاب الجرائم المشار اليها في الفقرة (اولا ً ) من هذه المادة في حكم الفاعل .)
لقد اشارت النصوص القانونية العقابية الى حماية المواد التراثية فقد جاءت المادة (39) في نصها على تحديد عقوبة الحائز للأثر او المادة التراثية بعقوبة الجناية التي لا يزيد حدها الاعلى عن عشر سنوات وبتعويض مقداره ضعف القيمة المقدرة للأثر او المادة التراثية واشترطت المادة ان يكون ذلك بسوء نية او اهمال من الجاني ،وتقدير سوء النية والإهمال امر متروك للسلطة التقديرية للمحكمة المختصة ،كما ان الحيازة جاءت بالمطلق واعتبر النص الحيازة مشروعه فبنى عليها الضياع والتلف والإهمال ،في حين كانت المادة (40/اولا ً) نصا ً عقابيا ً واضحا ً لجريمة السرقة فقد حدد المشرع سقفي العقوبة بين (7) سنوات وهو الحد الادنى و(15) وهو الحد الاعلى وفرض تعويضا ً مقداره ستة اضعاف القيمة المقدرة للأثر او المادة التراثية في حالة عدم استردادها ، وقد اشترط نص الفقرة اولا ً في شقها الاعلى ان تكون السرقة قد تمت والأثر والمادة التراثية المسجلة في حيازة السلطة الاثارية وان التعويض الوارد في المادة مرتبط وجودا ً وعدماً بالاسترداد ،ففي حالة استرداد المواد المسروقة فان التعويض لا محل له في النص العقابي ، وجاءت الفقرة العقابية في الشق الاوسط من المادة بفقرتها اولا ً بتحديد العقوبة وهي السجن المؤبد اذا كان مرتكب الجريمة من المكلفين بإدارة او حفظ او حراسة الاثر او المادة التراثية المسروقة ، وزاد الشق الاخير من الفقرة اولا ً بتشديد العقوبة لتصل الى الاعدام في حالة حصول السرقة بالتهديد او الاكراه او من شخصين فأكثر وكان احدهما يحمل سلاحا ً ظاهرا ً او مخبأ . وأرادت الفقرة ثانيا ً تأكيد المبادئ العامة التي تقضي بعقوبة الشريك في ارتكاب الجريمة بعقوبة الفاعل لها .كما نصت المادة (41/ ثانيا ً ) على ما يأتي: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات وبغرامة مقدارها (100000) مئة الف دينار من أخرج عمدا ًمن العراق مادة تراثية في حين عاقبت المادة (43 /اولا ً) بالسجن مدة لا تزيد على 10 عشر سنوات من حفر او شيد أو غرس او سكن في موقع اثري معلن او ازال او حور او قلع او شوه او هدم اثرا ً او بناءاً اثريا ً أو تراثيا ًأو تصرف بمواده الانشائية او استعمله استعمالا ً يخشى معه تلفه او تضرره او تغييره مزيته وبتعويض مقداره ضعف القيمة المقدرة للضرر وإزالة التجاوز على نفقته. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كما اشارت الفقرة( ثانيا ) من المادة المذكورة الموظف او ممثل الشخص المعنوي الذي يحدث ضررا ً متعمدا ًفي الدور والأحياء التراثية . وقد عاقبت المادة (46) بعقوبة السجن مدة لا تزيد على (7) سبع سنوات من تجاوز على المباني والمحلات او الاحياء التراثية المعلن عنها في الجريدة الرسمية بالهدم او تغيير الاستعمال المخصص لها ويلتزم بإعادتها الى ما كانت عليه قبل التجاوز .
ان القانون رقم (55) لسنة 2002 والذي تضمن حماية جنائية للتراث العراقي هو خطوة متقدمة في حماية الهوية الحضارية للعراق لكنه بحاجة الى مناخات داعمة له تتمثل بخلق ثقافة حماية التراث العراقي كمنجز حضاري عبر سن قوانين تتوسع في تفسير معنى التراث فالقانون رقم (55) أشار بشكل واضح الى المواقع والمواد التراثية وهو التراث المادي في حين لم يشر الى التراث المعنوي الذي يشمل مساحات الحياة المتعددة والمرتبطة بعادات وتقاليد اكتسبت الصفة التراثية وصارت ضمن معالم المدن وجزءا ً من تاريخها كما ان هناك تراث ثقافي وفني وتاريخي وأدبي وعلمي لما يزل مستباحا ًلعدم وجود الحماية القانونية التي تمنع المساس به ،والحاجة ماسه الى تشكيل لجان خاصة بحماية المنتج التراثي من ذوي الاختصاص وبخاصة التراث المعنوي ومنحها صلاحيات واسعة من شأنها ان تعمل على وجود منظومة تراثية عراقية تعزز من تواشج وتفاعل ونسق الثقافات الاجتماعية العراقية المتعددة بالشكل الذي يعزز من مكانة العراق الحضارية وبخاصة ان الكثير من مدنه مقبلة على اعتبارها عواصم للثقافات العربية والإسلامية كبغداد والنجف الأمر الذي يجعلها وبعد فترة طويلة من الغياب بمواجهة الحضور الثقافي العربي والإسلامي والعالمي الذي يدخر في ذاكرته صورة غنية عن الارث الحضاري العراقي .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً