قراءة قانونية في دور النيابة العامة الزجري أمام المحاكم التجارية بين الرفض والتأييد

الدور الزجري للنيابة العامة أمام المحاكم التجارية بين الاتجاه الرافض والمؤيد

ياسين كردمتي

ماستر قانون العقود و العقار بكلية العلوم القانونية بوجدة

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

الدور الزجري للنيابة العامة أمام المحاكم التجارية بين الاتجاه الرافض والمؤيد
أمام الفراغ الدي يعرفه القانون رقم 95-53 المحدث للمحاكم التجارية بخصوص الدور الزجري للنيابة العامة أمام هدا الصنف من المحاكم الأخيرة فقد تجادب هدا الموضوع اتجاهين فقهيين:
الأول ينادي بالحفاظ على الدور التقليدي للنيابة العامة و المتمثل في الوظيفة الزجرية لهدا الجهاز(الفقرة الأولى)، .
والثاني يرى بدور حضاري جديد للنيابة العامة يتمثل بشكل أساسي في حماية الأمن العام الاقتصادي، بعيدا عن وظيفته الزجرية الكلاسيكية (الفقرةالثانية) .

الفقرة الأولى: الاتجــاه المؤيد للدور الزجـري للنيابة العامـة بالمحاكم التجاريـة

-الاتجاه الكلاسيكي-

نادى أصحاب هذا الاتجاه بضرورة المحافظة على الدور الكلاسيكي للنيابة العامة، ذلك أن هذا الجهاز له وظيفة تاريخية معروفة وهي إثارة الادعاء العام والدعوى العمومية بمجرد أن يصل إلى علمها بأن فعلا ما يشكل جريمة، وهذا المبدأ حسب هذا الاتجاه هو مبدأ عام لا يمكن أن تحد منه لا المادة التجارية، ولا المادة العقارية ولا أي مادة أخرى.
وتعزيزا لموقفه يورد هذا الاتجاه العديد من الدعائم المنطقية والقانونية منها:
أن مصطلح النيابة العامة يعود بداهة إلى الدفاع عن الصالح العام وإثارة الدعوى العمومية حفاظا على ذلك، وأنه إذا جردنا النيابة العامة من هذه الوظيفة الكلاسيكية فالأحرى بنا أن نغير لها التسمية، وأن نصفها بشيء آخر غير النيابة العامة[1].
ثم إنه من غير المعقول – يضيف أنصار هذا الاتجاه- أن يصبح دور النيابة العامة بمفهومها الواسع، أداة إعلامية وإخبارية فقط، وأن تنقل قضايا ذات طابع تجاري تهم القضاء التجاري إلى جهة أخرى[2] وهو ما يجعل النيابة العامة بهذه المحاكم جهازا متكاملا من الناحية الهيكلية، إلا أنه جهاز لا يقوم بوظيفته التقليدية اللصيقة به والمتمثلة في إثارة الإدعاء العام، باعتباره الأداة الوحيدة التي تمكنه من تمثيل الحق العام والدفاع عنه.

ويضيف نفس التيار أن هناك حالات طارئة تستوجب الحسم الآني، كما في جرائم الجلسات وحالات التزوير التي تطال العقود المطروحة للمناقشة أمام القضاء التجاري، ومن شأن الاستعانة بنيابة عامة خارج نطاق جدران المحكمة التجارية أن تفقد عنصر المباغتة والتلبس معناه الحقيقي.
ويزيد أصحاب هذا التوجه أن وجه الغرابة في هذا الصدد هو أن يبرر رواد الاتجاه الرافض للدور الزجري في عمل النيابة العامة موقفهم هذا بكونه حضاريا يتماشى مع المنظومة التجارية الحديثة، متسائلين حول أحقية النيابة العامة في التخلي عن دورها في إعمال المقتضيات القانونية الزجرية وفي تفعيل تلك المقتضيات عن طريق ممارسة الادعاء العام في الميدان التجاري لمجرد أن

يوصف عملها بالحضاري؟ مع العلم أن مكونات النيابة العامة بالمحاكم التجارية هي نفسها مكونات نظيرتها بالمحاكم العادية، سواء على مستوى الهيكلة أو الاختصاص.

– وفي معرض تناولهم للموضوع يتساءل أنصار هذا الاتجاه ، عن الكيفية التي يتأتى بها للنيابة العامة بالمحاكم العادية ، أن تبسط يدها على الجانب الزجري لمنازعات ذات صبغة تجارية لم تكن أصلا من اختصاص الجهاز القضائي الذي تنتمي إليه بموجب القانون المحدث للمحاكم التجارية[3] ؟
وبأي سند قانوني تم تحويل وتفويض العمل الزجري الذي من المفروض أن تتولاه النيابة العامة بالمحاكم التجارية إلى نظيرتها بالمحاكم العادية، مع أن المشرع قد أقلع عن هذه الأخيرة كل اختصاص له علاقة بالميدان التجاري ؟

ورغم كونه من أنصار إضفاء الطابع الزجري على عمل النيابة العامة بالمحاكم التجارية، فقد حاول الأستاذ العربي الغرمول تبرير موقف المشرع في كون الأمر لا يتعلق بمشكل قانوني، بل هو فقط تخوف من قبل المشرع من أن يطغى الجانب الزجري على عمل المحاكم التجارية، ويغيب الدور الأساسي الذي هو النظر في القضايا التجارية الصرفة، رغم أن هذا التخوف ليس في محله -حسب الأستاذ-، حيث كان من الأحسن أن تكون هناك نيابة عامة لدى المحكمة التجارية، متمتعة بكافة الصلاحيات التي ستساهم بكل تأكيد في حل العديد من المشاكل[4].

وقد تساءل العديد من العاملين في حقل النيابة العامة بالمحاكم التجارية حول مغزى تواجدهم في هذه المؤسسة في ظل غياب تام لأي دور وظيفي لهذا الجهاز، معتبرين أنهم طالبوا في أكثر من مناسبة بضرورة إعادة النظر في النصوص القانونية المؤطرة لعمل النيابة العامة بالمحاكم التجارية[5].
ويخلص هذا الاتجاه إلى أن النيابة العامة بالمحاكم التجارية تعتبر من الوجهة الواقعية والقانونية جهازا للإدعاء العام، ومن هذا المنطلق عليها أن تضطلع بالاختصاص الإطار الموكول إليها كأي جهاز من هذا النوع متواجد بمحاكم أخرى.

فكيف تعامل الاتجاه الرافض للدور الزجري للنيابة العامة بالمحاكم التجارية مع هذا الإشكال القانوني؟.

الفقرة الثانية: الاتجاه الرافض للدور الزجري للنيابة العامة بالمحاكم التجارية

– الاتجاه الحديث-

يرى أنصار هذا الرأي أنه وإن كان يحق للنيابة العامة لدى المحكمة التجارية ممارسة مهامها في نطاق الميدان التجاري والمدني ، انطلاقا مما نصت عليه الفصول من 6 إلى 10 من ق.م.م وفصول أخرى ضمن مدونة التجارة وقوانين الشركات، فإنه لا يحق لها لممارسة اختصاصات ذات طابع زجري، وحجة هذا الرأي هو أن القانون المحدث للمحاكم التجارية في الوقت الذي حدد اختصاصها في الميدان المدني بكل دقة موضوعا وشكلا، فإنه لم يتعرض لاختصاصها في الميدان الزجري لا من حيث الموضوع ولا من حيث المسطرة ، ويكون المشرع بذلك قد نفى بشكل قاطع طابع الازدواجية عن المحاكم التجارية.
ذلك أن المشرع أراد لهذا الجهاز أن يضطلع باختصاصات من نوع جديد، وأن يكلفها بأعمال تدخل في إطار البحث والتقصي والتداول والمساعدة القضائية و يبعدها عن الهاجس الزجري و الأمني لكي تقوم بدورها أحسن قيام .
ولتبرير موقفهم يضع أنصار هذا التوجه بدورهم العديد من المبررات القانونية والواقعية من ذلك :
المصدر التاريخي لهذا الصنف من المحاكم وهو التشريع الفرنسي ، قد صنف بدوره المحاكم التجارية في الكتاب الرابع من قانون التنظيم القضائي ضمن المحاكم المتخصصة غير الجنائية ، وذلك إلى جانب مجالس الخبراء وقاضي نزع الملكية، ومحاكم الضمان الاجتماعي.
ويضيف أنصار هذا الاتجاه أن هناك عراقيل قانونية تحول دون تطبيق المقتضيات الزجرية من طرف النيابة العامة بالمحاكم التجارية، وأهمها أن ق. م. ت. لا يحيل على ق. م. ج ، في حين أن هذا الأخير يخاطب وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية والوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف، ولا يمكن القول هنا بوحدة جهاز النيابة العامة، لأن هذه الوحدة تكون داخل المحكمة الواحدة، وأن النيابة العامة بالمحكمة التجارية مؤسسة مستقلة ولا يمكن تخويل الاختصاص لها إلا بنص صريح.
ويردفون أيضا أن القوانين الاقتصادية تتضمن فصولا عديدة تتعلق بالجرائم الاقتصادية وبالأخص فيما يتعلق بشركة المساهمة، وقد انتقدت في حينها من طرف الفاعلين الاقتصاديين، حيث أصبحت شركة المساهمة منبوذة وبدأت الشركات تغير شكلها إلى شركات التضامن وذات المسؤولية المحدودة.
وقد تجسد هذا النقاش يضيف أصحاب هذا التيار، في إطار الدراسة المستفيضة التي قامت بها اللجنة التشريعية بالبرلمان وهي بصدد إعداد القانون المحدث للمحاكم التجارية ، حيث اقترحت فرق الكتلة إدراج المقتضيات الزجرية، ولكن استبعدت في آخر المطاف للاعتبارات السالفة الذكر، وكذلك لإعطاء ثقة زائدة للمستثمر[6].
– ثم إن من شأن إسناد الاختصاص الجنائي للنيابة العامة أن يسلب الاختصاص الحقيقي للمحاكم التجارية، بحيث يصبح عدد الغرف الباتة في القضايا الجنحية والجنائية المتعلقة بالأموال والشركات أكثر من القضايا التجارية الحقيقية فنكون أمام محكمة جنائية تجارية ، وليس أمام محكمة تجارية بدليل أن قضايا التلبس والجنحي العادي والجنايات، أكثر بكثير من القضايا التجارية وهذا ما سوف يخالف إرادة المشرع[7].
ويخلص أنصار هذا الاتجاه الفقهي إلى أن المشرع كان حكيما ، فميدان الاقتصاد والمال يتطلب التريث والفحص والاستشارة وينبغي أن يقتصر دور النيابة العامة كفاعل أساسي في تبادل المعلومات في جل القضايا التي تعرض على هذا الصنف من المحاكم ومتابعة مسطرة معالجة صعوبات المقاولة [8].
وهذا الاتجاه هو الغالب أو الأصح السائد في عمل المحاكم التجارية بالمغرب [9]، فلم يثبت أن مارست النيابة العامة اختصاصها الزجري المتمثل في تحريك الدعوى العمومية ومتابعتها، بل يبقى دور النيابة العامة في هذا الصدد محصورا في الشق الأول، وهو تحريك الدعوى العمومية وإثارتها دون الحق في متابعتها، وذلك كجميع السلطات والمواطنين ، هكذا إذا تعلق الأمر بقضية ذات طابع إجرامي اقتصادي وصلت إلى علم النيابة العامة واطلعت عليها أثناء ممارستها لوظيفتها الأساسية وهي حماية النظام العام الاقتصادي تجاريا وماليا، أو وصل إلى علمها ارتكاب أحد التجار جريمة اقتصادية كجريمة التهريب الجمركي أو جرائم الشركات، فإنها بعد تمحيص وتدقيق وحذر تعد تقريرا بخصوص المخالفة ونوعها والنصوص القانونية الواجبة التطبيق، وتحيل القضية على النيابة العامة المختصة، وهي بهذا التقرير تكون قد مارست ما يسمى بإثارة الدعوى العمومية[10].

وبدوري أميل إلى مسايرة هذا الاتجاه الداعي إلى عدم إعطاء النيابة العامة لدى المحاكم التجارية دورا زجريا، خصوصا مع حداثة هذه المحاكم بالمغرب بالإضافة إلى طابع القضايا التي تعرض عليها، والتي ترتبط غالبا بالصالح العام الاقتصادي وهو ما يتطلب التفرغ لهذا الصنف من القضايا دون إثقال كاهل النيابة العامة بدور زجري، قد يزيد من أعبائها.
إلا أنه ومع ذلك أرى ضرورة تدخل المشرع لتجريد النيابة العمة بالمحاكم التجارية من هده الصفة، و التي لربما كانت هي السبب وراء هدا الانتقاد الموجه للمشرع وبالتالي مسايرة مثيلاتها أي المحاكم الإدارية، حيث أن القضايا التي تعرض على هذه الأخيرة تكون في الغالب خالية من الطابع الزجري لذلك تم تعويض مؤسسة النيابة العامة بهده المحاكم بمؤسسة المفوض الملكي ، الساهر على حسن تطبيق القانون والعدالة[11].

الهوامش
1 – ذ. زهير برحو: “مجال اختصاص النيابة العامة في إطار المحاكم التجارية”، مجلة رسالة المحاماة، عدد 26، سنة 2006 ص 130.
[2] – عبد الإله المشاري: “دور النيابة العامة أمام المحاكم التجارية”، مجلة المنتدى، عدد 1 أكتوبر1999، ص 199.
– د. يوسف ملحاوي،” الوجود المؤسساتي للنيابة العامة بالمحاكم التجارية وحقيقة دورها” ، مجلة القصر،العدد11 ماي 2005، ص 101 3
[4] – ذ. العربي الغرمول : تفعيل دور النيابة العامة لدى المحاكم التجارية، مجلة رسالة المحاماة، عدد 26، فبراير 2006 ص 122.
[5] – تم تأكيد ذلك في مقابلة أجريتها مع السيدة ممثلة النيابة العامة بالمحكمة التجارية بمكناس في 2011/09/21
[6] – يوسف ملحاوي : “الوجود المؤسساتي للنيابة العامة و حقيقة دورها” م.س ، ص 104.
[7] – ذ. رشيد مشقاقة : “دور النيابة العامة الجنائية أمام المحاكم التجارية”، مجلة رسالة المحاماة، عدد 26 فبراير 2006، ص 117.
8- ذ. محمد المجدوبي الإدريسي: “دور النيابة العامة بالمحاكم التجارية” ، مجلة المنتدى ، العدد الأول، أكتوبر 1999 ص 193.
9- وهو ما تم تأكيده كدالك في المقابلة مع السيدة ممثلة النيابة العامة بالمحكمة التجارية بمكناس.
[10] – عبد العلي العضراوي ، “النيابة العامة بالمحاكم التجارية مؤسسة جديدة”، دار العلم للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى، سنة 2001 ص 119.
[11] – وهو ما بحثته مع السيد رئيس كتابة الضبط بالمحكمة التجارية بمكناس في 22/09/2011

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.