الغلط من عيوب الإدارة في القانون، فما هو، وما هي أحكامه؟
المحامي صلاح بن خليفة المقبالي
لقد تحدثنا في زاوية سابقة عبر – أثير – عن أن العقد شريعة المتعاقدين، والتي هي عبارة شائعة أو كما يحلو لأهل القانون أن يسموها بقانون العقد، فهي قاعدة اصطلحها أهل القانون للتعبير عن أن ما جاء في بنود العقد من شروط وقواعد والتزامات متقابلة يكون القانون الحاكم للعلاقة التعاقدية التي اجتمع فيها وتلاقت إرادتهما عليها، فعند الخلاف يُحتكم إليها وتكون هي المطبقة للفصل بينهما شريطة ألا تخالف القواعد القانونية الآمرة بالدولة، وألا تخالف النظام العام ولا تنحرف عن الآداب العامة، وتطبيقها بهذه الصورة يكون تغليبًا من قبل القضاء لمبدأ استقرت عليه جل القوانين المعاصرة وهو مبدأ “سلطان الإرادة”، كما وضّحنا أن العقود لا تنعقد صحيحة إلا إذا كانت صادرة عن إرادة حرة غير معيبة ومن شخص يملك الأهلية الكاملة للتعاقد، والتي حددها القانون المدني العماني بإتمام الثامنة عشرة من العمر، وليس مجرد بلوغها وإنما يجب أن يتمها حتى يكون كامل الأهلية، وتكون عقوده صحيحة، والأهلية ليست هي مجال الحديث في هذه الزاوية، فمجالها هو الحديث عن الاستثناءات على مبدأ سلطان الإرادة، وهي ما يطلق عليه القانون عيوب الإرادة.
وقد تناولنا الحديث عن أول هذه العيوب بما يعرف بـ”التغرير والغبن” في زاوية نشرت سابقًا عبر أثير، وفي هذه الزاوية سنتطرق إلى عيب “الغلط” الذي هو من العيوب التي تصيب الإرادة فتفقد العقد لزومه، وهو مصطلح شائع بين الناس في كثير من التعاملات، ومن واقع خبرتنا في مجال المحاماة كثيرًا ما نقف على حالات يكون فيه الغلط هو الدافع إلى التعاقد.
وبداية نوضح المقصود بالغلط في الاصطلاح القانوني والذي عرفه فقهاء القانون بأنه وهمٌ يصور الواقع على غير حقيقته يقع في نفس وذهن المتعاقد “الذي يصدر منه الرضا بالعقد” ويكون هذا الوهم هو دافعه إلى التعاقد، ولم يتطرق المشرع العماني إلى وضع تعريف للغلط كمثل بعض النظم القانونية المقارنة، إذ اكتفى فقط بمجرد ذكر الحالات التي يمكن أن يعتد بوقوع الغلط فيها ويكون هذا الغلط محل اعتبار أثناء التعاقد ويأخذ به كسبب لفسخ العقد، فليس كل غلط يقع فيه المتعاقد يصح أن يكون عيباً على الإرادة، إذ لابد أن يكون الغلط جوهريًا أي أن ينصب الغلط على أمر يرغبه المتعاقد في العقد ولولاه لما أقدم على إبرام ذلك العقد، فنصت المادة (109) من قانون المعاملات المدنية العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (29/2013) على أنه: “لا يعتبر الغلط إلا فيما تضمنته صيغة العقد أو دلت عليه الملابسات وظروف الحال وطبائع الأشياء أو العرف.”.
والصورة المتقدمة تجعل من الغلط عيباً يجعل من العقد قابلاً للإبطال، أي إنه يجعل ممن وقع في الغلط حق اللجوء للقضاء لطلب فسخ العقد لذلك الغلط، إلا أنه متى ما كان الغلط وقع فيما نصت المادة (110) من قانون المعاملات المدنية عليه فإن العقد يكون باطلاً ولا يمكن أن يقوم هذا العقد، فنصها جاء صريحاً بأنه: “إذا وقع الغلط في ماهية العقد أو في شرط من شروط الانعقاد أو في المحل بطل العقد.”،ومثال ذلك أنه إذا ما أقدم شخص على التعاقد بعقد وظن أنه عقد بيع وهو في حقيقته عقد إيجار، فإن هذا الغلط يكون في ماهية العقد ويجعل منه عقداً باطلاً.
والصورة الأخرى التي أسلفنا الإشارة إليها والتي تدعى بالبطلان النسبي أو القابلية للفسخ، نصت عليها المادة (111) بأنه: “للمتعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في أمر مرغوب فيه كصفة في المحل أو ذات المتعاقد الآخر أو صفة فيه” وبالمثال يتضح المقال، فلو أراد شخص التعاقد مع فنان ليقوم برسم لوحة فنية له معتقداً أنه فنان عالمي مشهور إلا أنه في حقيقة الأمر بخلاف ذلك، فإن العقد يكون قابلاً للإبطال، إذ تكون ذات المتعاقد معه بها صفة مرغوبة للمتعاقد لو أنه علمها قبل العقد لما قام بإبرامه معه، إلا أن وهماً وقع في ذهنه صور له الأمر بغير حقيقته دفعه إلى إبرام هذا العقد، وبصورة أخرى أيضاً يكون العقد قابلاً للإبطال إذا ما وقع هناك غلط في القانون الذي يحكم العقد، فلو تصور شخص بأن نصيبه من الميراث هو الربع، إلا أن النص القانوني يعطيه النصف، وقام بالتصرف في حدود الربع على أساس أنه تصرف بكامل نصيبه من الميراث، فإنه يكون في هذه الحالة وقع في غلط في تطبيق القانون يجعل من العقد قابلاً للفسخ، وهو ما أكدته المادة (112) من قانون المعاملات المدنية، بقولها: “للمتعاقد فسخ العقد إذا وقع منه غلط في القانون وتوافرت شروط الغلط في الواقع طبقاً للمادتين (109) ، (111) من هذا القانون ما لم ينص القانون على غير ذلك.”.
وليس كل غلط يكون مبطلاً للعقد حتى وإن جاء على أمر جوهري، كأن يكون هناك غلط في الكتابة أو الحساب، فهذا أمر يرد عليه التصحيح، إذ هو لا يرقى لأن يكون غلطاً يعيب الإرادة، كما نصت على ذلك المادة (113) بأنه: “لا يؤثر في صحة العقد مجرد الغلط المادي في الحساب أو الكتابة، وإنما يجب تصحيحه.”، ولابد أن نلاحظ أن هذا الغلط لا يمكن أن يؤخذ على عواهنه كسبب لفسخ العقود فهو يجب ألا يتعارض مع مبدأ حسن النية في التعاقد، فإذا ما كان كلا المتعاقدين واقعين في الغلط نفسه فليس لأحدهما التمسك ببطلان العقد أو طلب فسخه، إلا إذا ارتضى الطرف الآخر ذلك، وهذا أكدته أحكام المادة (114) من قانون المعاملات المدنية العماني بقولها: “ليس لمن وقع في الغلط أن يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية”.
والغلط إذا ما وقع في ذهن المتعاقد، وعلمه الطرف الآخر وسكت عنه، فإنه ينقلب إلى تغرير بالمتعاقد، فالسكوت عن أمر جوهري في العقد هو تغرير بالمتعاقد الآخر لو كان علمها لما أقدم على التعاقد، وبذلك ينقلب العيب من غلط إلى تغرير إذا لم يبيّن الطرف الآخر للمتعاقد معه حقيقة المقصود من التعاقد، أما إذا لم يعلمه فإنه يبقى غلطا يجعل من العقد قابلاً للإبطال بحسب تقديرات قاضي الموضوع، والمعيار في تحديد ما إذا كان الغلط هو الأمر الدافع للتعاقد من عدمه هو معيار شخصي يخضع لتقديرات قاضي الموضوع يقدر مدى تأثيره على العقد، وبحسبان أن الغلط واقعة قانونية، فإنه يمكن إثباته بكافة طرق الإثبات، ولعل أبرز وسيلة لإثبات الغلط هي القرائن، لأنه عبارة عن أمر نفسي غير ظاهر للعيان، فيستدل عليه بواقع الحال وملابساته.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً