اذا فقد التشريع حكمته فقد حكمه / القاضي سالم روضان الموسوي
((مشروع قانون القضاء الشرعي الجعفري إنموذجاً))
ظهر في الاعلام قبل ايام معدودة خبر تقديم وزارة العدل مشاريع قانون الاحوال الشخصية الجعفري وقانون القضاء الشرعي الجعفري، وكان لهذا الخبر اصداء كبيرة على المستوى الاجتماعي والقانوني واغلبها كانت تعبر عن استنكار واستهجان لهذه الخطوة وتحت ذرائع شتى منها من يرى انه من غير المناسب طرحه الآن، وآخرون يرون انه يسهم في تمزيق اللحمة الاجتماعية للشعب، وآخر يزعم انه جاء لأسباب انتخابية، إلا اني سأتناول الموضوع من جهة الحكمة والمصلحة التي تسعى اليها هذه المشاريع التي سمعنا عنها ولم نطلع على مضمونها وان كان بعض المدافعين عنها قد اعربوا عن سعادتهم لصدورها لأنها تعزز من الخصوصية للطائفة الجعفرية والبعض الاخر عدها تنفيذ لحكم المادة (41) من الدستور التي جاء فيها الاتي ( العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية ، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم ،وينظم ذلك بقانون ) لذلك سأعرض للموضوع على وفق الاتي :ـ
1- لكل تشريع اذا ما اريد له الظهور لابد وان يتوفر على غاية يسعى لتحقيقها ومصلحة يبتغيها وحكمة ينطوي عليها، ومشروع قانون القضاء الشرعي الجعفري المزعوم سيكون مثل سائر التشريعات من حيث الغاية والمبتغى والحكمة وانه يسعى لحماية حقوق طائفة بعينها (الجعفرية) على وفق توصيفه، وهذا السعي ارى انه مردود على من سعى به لأنه جعل من الطائفة الجعفرية في العراق اقلية يسعى لحمايتها من الاغلبية بواسطة هذا المشروع ويصور الامر على ان هذه الطائفة لم تتمكن من حماية حقوق اتباعها بموجب القوانين النافذة ولا اظن في ذلك إلا مجانبة الصواب لان القانون النافذ سواء الموضوعي او الاجرائي المتعلق بالأحوال الشخصية كان حاميا لحقوق الجميع بما فيهم الطائفة الجعفرية التي يزعم المشروع حماية حقوقها ومنذ تاريخ صدور قانون الاحوال الشخصية لعام 1959 لم نجد اي مؤشر سلبي اجتماعي او ديني على الاحكام الواردة فيه وبذلك فان ما يزعم المشروع تحقيقه من هذه الجهة لا اساس له.
2- ان قانون الاحوال الشخصية النافذ كان جمع الاحكام الشرعية وصاغها على شكل قواعد قانونية ومن جميع المذاهب السائدة في العراق، ولو كان لصاحب الشروع برهة من الزمن لمراجعة احكامه لوجد ان القانون الحالي الذي يطبق على كافة المسلمين في العراق فيه من الاحكام المهمة والمفصلية مأخوذة من الفقه الجعفري ومنها جعل التلفظ بالثلاث في الطلاق طلقة واحدة وفي ميراث البنت وميراث الأخت، كما ترك سائر الاحكام لمذهب الزوجين فيما يتعلق بأجل استحقاق المهر والعدة والرجوع عن البذل في الطلاق الخلعي وسائر الاحكام في المواريث، فضلا عن جعل كل زوجين احرار بهذه الاحكام على وفق مذاهبهم، وهذا يقودنا الى ان حقوق الطائفة التي يزعم صاحب المشروع انه المدافع عنها , محفوظة ونافذة بحق اتباعها والآخرين من سائر المذاهب الاسلامية الاخرى السائدة في العراق، وبذلك فان المشروع لا يتوفر على الحكمة التي يزعم انه سعى اليها .
3- كما ارى ان جعل القضاء وكما اطلق عليه ( القضاء الشرعي الجعفري ) لغير القضاة فيه مخالفة صريحة لأحكام الدستور لان العمل القضائي هو حصرا بيد القضاء والقاضي لا يمكن ان يمارس عمله ما لم يمر بعدد من مراحل الدراسة والتأهيل والتدريب ومن ثم يصدر له مرسوم جمهوري بتنصيبه حتى يكون قاضيا، لان مركز القاضي القانوني يختلف عن سائر المناصب التنفيذية او التشريعية، فضلا عن مبدأ الفصل بين السلطات، وعمل القضاء في الاحوال الشخصية لا يقف عند احكام الطلاق والزواج التي يرى البعض ان رجل الدين هو الاعلمم بها من القاضي، واني بحكم عملي في قضاء الاحوال الشخصية (قاضيا ومحاضرا وباحثا) وجدت عدد من عقود الزواج والطلاق التي ينظمها رجال الدين في المكاتب الشرعية ينطوي على مخالفات لأحكام الشريعة والمذهب الجعفري وأصدرت احكاما بعد شرعية هذه الطلاقات او الزواجات، وهذا يدل على ان من يتولى امر القضاء ليس بالضرورة ان يكون لابسا لكسوة رجل الدين وإنما لابد ان يتوفر على عدد من العلوم الشرعية والقانونية .
4- ان عمل القضاء في الاحوال الشخصية لا يقف عند قانون الاحوال الشخصية فقط وإنما يصادف قاضي الاحوال الشخصية عدة قوانين اخرى منها قانون رعاية القاصرين ، قوانين الاوقاف ، قانون رعاية الاحداث ، القانون المدني وقانون الاثبات الذي اعطى لمسائل الاحوال الشخصية خصوصية على وفق حكم المادة (11) اثبات وقضايا اخرى منها الاثاث البيتية التي تخضع لأحكام القانون المدني وليس لقواعد الاحوال الشخصية، كما يصدر قاضي الاحوال الشخصية عشرات الانواع من الحجج منها حجة الحجر والقيمومة وتنصيب الوصي وحجة الوصاية والتولية على الاوقاف ، الولادة ، الوفاة ، زيادة المهر وإنقاصه، القسام الشرعي ، اثبات النسب وحجة مجهول النسب وسواها من الحجج، وهذه لا يتمكن القاضي من اصدارها مالم يتوفر على المعرفة بالعلوم القانونية والقوانين الأخرى، لذلك ارى ان حكمة مشروع القانون المزعوم قد انتفت لان ما يصبوا اليه في اصدره ( على فرض حسن النوايا ) متوفر في القانون النافذ والقضاء الحالي ولا يوجد مبرر لذلك، بل على العكس سيفقد الطائفة التي يزعم الدفاع عنها مزايا توفرت لها بموجب القانون النافذ، ومن ذلك فان حكمة التشريع غير متوفرة فيه اطلاقا ويقول الرومان ((ان التشريع اذا فقد حكمته فقد حكمه)) وأرى ان الشعب العراقي بحاجة الى قوانين تعزز من وحدته وتقوية اواصره تجاه محاولات التقسيم وتفتيت اللحمة والنسيج الاجتماعي وادعوا مخلصا على من تصدى لإصدار المشروع ان يرجع عن خطواته تلك كما ان الامل كبير في السلطتين التنفيذية والتشريعية بالوقوف تجاه تمريره لان اغلبيه الشعب العراقي لا يمكن ان تختزل برأي وزير او مجموعة من النواب وينصبون انفسهم قيمون على هذه الاغلبية من ابناء الشعب وإذا كانوا على صدق في نواياهم ان يعرضوا المشروع للاستفتاء والوقوف على رأي الشعب بدلا من التفرد في القرار والعودة الى الديكتاتورية المقيته التي تصادر رأي الاغلبية وقانون الاحوال الشخصية يختلف عن كل القوانين سواء التي تنظم شكل الدولة او التي تتعلق بالجانب الاقتصادي لان هذه القوانين لا تتعامل مع الجميع وإنما لفئة معينة او لظرف زماني او مكاني محدد بينما قواعد الاحوال الشخصية تمس كل مواطن مهما كان وفي اي مكان منذ لحظة انعقاد النطفة في رحم الام ولغاية مماته وحتى بعد الممات وهذه الاهمية لابد وان تراعى عند التعامل مع مثل هذه القوانين.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً