التطبيقات الشرعية للودائع المصرفية ومجال توظيفها والصعوبات التي تواجهها
لقد بدأت أول تجربة عملية في مصر لبنك لا يتعامل على أساس ربوي وفائدة ربوية ببنك ناصر الاجتماعي، وهو الذي أنشئ كهيئة عامة حكومية عام 1971 بالقاهرة، ويتعامل في القروض على أساس الحصول على عمولة لا على فائدة، وعلى أن يستقبل هذا البنك ودائع العملاء على أساس استخدامها في مشروعات مشاركة تدريجيًّا، وهذا البنك من سياسته ألا يقوم بتحديد الربح الذي يدفعه إلى عملائه مقدمًا، وإنما يقوم باستخدام أموال العملاء في المشاركة في المشروعات الناجحة، وفي نهاية السنة يقوم بتحديد مركزه من هذه الأرباح التي حققها وموقف مصروفاته وتحديد الربح الذي يخص مبالغ العملاء المساهمين فيه، وبذلك يحصل كل عميل على نصيب في الربح بقدر ماله.
مفهوم الودائع المصرفية
تعتبر الوديعة المصرفية بمثابة تطور جديد لمفهوم الوديعة العادية سواء بالنسبة للفقه الإسلامي أو القانون الوضعي، فالأصل في الوديعة العادية أنها أمانة تقوم على حفظ الشيء المودَع ورده إلى صاحبه، إلا أنها مع تطورها انصبت في العمل المصرفي على النقود ليس بقصد حفظها وردها بذاتها، وإنما بهدف استعمالها استعمالاً يحقق مصلحة الطرفين المودع والمودع لديه، سواء كان ذلك على سبيل الاقتراض أو على سبيل الإذن بالاستعمال لغاية معينة.
مجال توظيف الوديعة المصرفية في المجالات الاستثمارية دون فائدة
إن عملية توظيف الوديعة في الميادين الاستثمارية المختلفة بدون فائدة لم تكن مقصورة على الفقه الشرعي الحديث، بل امتدت أيضًا إلى الفقه القانوني والاقتصادي.
فيري جانب من الفقه القانوني أنه حتى تتخلص الوديعة من الفائدة يجب أن تتملك الدولة جميع المصارف، لأن النقود لا ينبغي أن تكون لغير الدولة، فيجب أن تكون النقود في يد الدولة بمعنى أن تكون بيدها بيت المال ودار الصك والصيرفة التي تخلق النقود الائتمانية، ويرتب هذا الرأي على ذلك كنتيجة لتملك الدولة للمصارف أن يعطى الائتمان بغير فائدة، ويتم استعواض هذه الفائدة من خلال الضرائب التي تستقطعها الدولة على الأنشطة الاستثمارية؛ لأن في هذا الإقراض بلا فائدة تشجيعًا للصناعة.
كما أضاف جانب آخر من الفقه الشرعي الاقتصادي تجربة عملية للاقتراض بغير فائدة، وصورة ذلك أن يتم تأسيس مؤسسة أو هيئة أو جمعية من خلال مشتركين فيها أو مساهمين في رأس مالها، ويتم دفع قيمة الأسهم على أقساط شهرية، فيتوفر شهرًا بعد شهر رأس مال، ثم يتم تكوين احتياطي لهذه المؤسسة أو الجمعية، ويتم من خلال رأس مال هذه المؤسسة إقراض المشروعات المنتجة دون فائدة، كما تقوم هذه الجهات بأخذ الضمانات التي تكفل عدم تبذير القرض في مشاريع غير إنتاجية، ويمكن عمل ذلك على نطاق إسلامي واسع كإقامة مؤسسة بمكة كنظام إسلامي متكامل.
كما أكد البعض من الفقه الشرعي الاقتصادي على ضرورة إيجاد صيغة جديدة من صيغ المضاربة، لتخليص ارتباط الوديعة بالفائدة الربوية التي ترتبط بها البنوك التجارية في معاملاتها، خاصة وأن الإقراض بفائدة قد أثبت الاقتصاديون أنه يلحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد القومي؛ لأنه يقوم بخلق قوة شرائية وهمية، وتخلق نقودًا مصطنعة هي ما يسمونها بالائتمان التجاري.
ويتجه البعض تأييدًا لما سلف فكرة إقامة مشروع إسلامي يعتمد على عقد المضاربة وعقد المرابحة، بحيث يبين فيه كيف أن المصارف الإسلامية يمكن أن تحقق نصيبًا من ربح العمليات الاستثمارية على أساس أن البنك يستفيد في تمويل عمليات المضاربة ويحصل على الربح الذي يقوم مقام الفائدة الربوية للودائع المصرفية.
كما يمكن أن يكون الإقراض بضمان أو بغير ضمان على أن يكون بغير فائدة، فإذا كان المشروع إنتاجيًّا يعطى القرض على أساس المشاركة واقتسام العائد، وإن كان القرض لمشروع استهلاكي فيكون من أموال الزكاة. فيري البعض من الفقه المعاصر: أن إيجاد مفهوم جديد لسياسة الدولة نحو العمل بالشريعة الإسلامية وتطبيقها على كافة مجالات التعامل المصرفي، والعمل علي نشر الوعي الديني والخلقي لدي المتعاملين مع البنوك يعتبر من أهم الضوابط التي يستعان بها في تقويم الاقتصاد والعمل على إيجاد سوق مصرفي إسلامي يتفق وروح العصر الحديث، ويلي ذلك وجود ضوابط أخرى تتمثل في حسن استغلال واستخدام الموارد.
الصعوبات التي تواجه توظيف الوديعة المصرفية في الميادين الاستثمارية
تتمثل الصعوبات التي تواجه الوديعة الاستثمارية في نطاق تشغيلها واستثمارها في نطاق البنوك الإسلامية، إذ أن تشغيل واستثمار الوديعة إنما يكون في أحد أمرين هما عقد المضاربة أو عقد المرابحة، أو في كلاهما معاً، وتظهر هذه الصعوبات في مجال عقد المضاربة عندما تستخدم كوسيلة أو أداة من أدوات استخدام الوديعة المصرفية.
ثنائية عقد المضاربة
يعتبر عقد المضاربة في الفقه الإسلامي أحد الأساليب الشرعية لاستثمار الأموال ، ويعتمد علي الجمع بين عنصري العمل ورأس المال في تكامل اقتصادي عادل يستهدف تحقيق مصلحة المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال ومصلحة المجتمع في آن واحد ، ويقوم عقد المضاربة في صورته التقليدية على ثنائية طرفيه، بمعنى أن يكون اتفاقًا ثنائيًّا بين طرفين: الأول هو رب المال، والثاني المضارب، ولا يجوز لطرف ثالث أن ينضم إليهما بعد بدء العمل بمال المضاربة لعدم جواز خلط مالين بعقدين منفصلين، لأن ذلك يؤدي إلى فساد المضاربة، في حين أن الاستثمارات الحديثة العصرية تعتمد على الصورة الجماعية للاستثمارات وتقلص الصورة الثنائية، إذ إن هذه الاستثمارات تعتمد على مشاركة العديد من الأموال متعددة الملكية في العملية الاستثمارية، فضلا عن أن البنك ـ في حالة اعتباره صاحب مال ـ فإنه يقوم بتجميع الأموال من آلاف المودعين والمدخرين ويقوم بضخها إلى آلاف المستثمرين من أصحاب الحاجة إلى التمويل المالي، بما يشكل عقبة عملية في تطبيق نظام المضاربة بشكلها التقليدي { ثنائية المضاربة } بما من شأنه أن تكون ثنائية عقد المضاربة صعوبة تواجه البنوك الإسلامية في توظيف الوديعة المصرفية للاستثمارات المختلفة .
اشتراط التنضيض لتوزيع الربح
كما أن من شروط المضاربة في صورتها التقليدية عدم جواز اقتسام الربح قبل التصفية الكاملة للمال ليعود أولاً إلى ربه ثم يتم اقتسام الربح، وهو ما يعرف بتنضيض المال، أي يجب أن يسترد رب المال رأس ماله بصفة أولية، ثم يتم بعد ذلك عملية قسمة الربح المتبقي لأن الربح وقاية لرأس المال، إلا أنه في ظل الاستثمارات الحديثة لا سيما طويلة المدة فإنها تتطلب ضرورة استمرار النشاط والمشروع لفترة زمنية طويلة لتغطية نفقاته، والواقع العملي لا يجيز إمكانية تصفية المشروع الاستثماري حتى يتم حساب الربح من خلاله، بما يشكل ذلك صعوبة أمام استثمار الوديعة في صورة عقد المضاربة .
تقييد رب المال للمضارب ببعض الشروط
من المستقر فقهيًّا أن من حق رب المال أن يقيد المضارب ببعض الشروط التي تجعله لا يضارب إلا في سلعة معينة أو مكان معين، والتي يراها مناسبة لحفظ ماله من الضياع وهو ما يعرف بالمضاربة المقيدة، في حين أننا إذا نظرنا إلى الاستثمارات العصرية وطبيعتها فإنها لا يمكن لها أن تقبل هذا التقييد.
عدم جواز خلط أموال المضاربة
فالمضاربة التقليدية لا تسمح بدخول شخص ثالث بعد تمام الاتفاق بين الطرفين وبدء العمل من قبل المضارب؛ لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى جهالة الربح والخسارة للأموال المختلطة، وهذا يتعارض مع أعمال المصارف فيما تعتمد عليه من خلط لأموال المودعين والقيام بعملية تمويل المشروعات الاستثمارية المختلفة.
الضمان في المضاربة
من المقرر فقهًا أن يد المضارب يد أمانة على المال وليست يد ضمان إلا في حالة التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة، بمعنى أن ضمان المضارب يتمثل في أمانته وكفاءته، فالعامل الشخصي في المضاربة هو الضمان الذي من أجله سلم رب المال إليه ماله ليضارب به، ومن ثم فإن المضاربة تقتضي توافر قدر كبير من الأمانة والثقة في المضارب كي يسلِّم له ماله ليعمل فيه، في حين أن الاستثمارات العصرية لا تعتمد فقط على هذا الضمان الشخصي في التعامل، فلا يمكن لبنك أن يسلم ماله لشركة أو مستثمر لمجرد ثقته الشخصية فيه إلا في حالات خاصة استثنائية.
نخلص من ذلك أن التطبيقات الشرعية للوديعة المصرفية في نطاق أعمال البنوك الإسلامية تؤدي إلي تطبيق البدائل الشرعية للفائدة الربوية من خلال استخدام عقدي المضاربة والمرابحة في العمليات المصرفية إلا أن تطبيق هاتين الصورتين في نطاق الاستثمارات من شأنه أن يؤدي إلي صعوبات عملية في التطبيق العملي وذلك نظرا لاختلاف طبيعة عقد المضاربة في صورته التقليدية وصورته الحديثة في التعاملات البنكية، والتي تستلزم أن يتم تعامل المصرف مع أكثر من مستثمر في آن واحد وأن يتعامل المصرف مع أكثر من مودع وأكثر من وديعة شخص ، وهو الذي يتعارض مع الطبيعة التقليدية لعقد المضاربة ، كما أن عقد المضاربة في صورته التقليدية يستلزم ألا يتم اقتسام الأرباح قبل رد رأس المال إلي المودع أي يجب أن يسترد رب المال رأس ماله بصفة أولية، ثم يتم بعد ذلك عملية قسمة الربح المتبقي، في حين أن الصورة المعاصرة لاستثمار الوديعة يقتضي استمرار المشروع وتقسيم الأرباح دون استلزام رده إلي رب المال، كما أن تقييد المضارب ببعض الشروط التي يضعها رب المال قد تؤثر علي حسن سير المضاربة، كما أن عقد المضاربة في صورته التقليدية لا يسمح بخلط المال أي لا يسمح بدخول شخص ثالث بعد تمام الاتفاق بين الطرفين وبدء العمل من قبل المضارب في حين أن الصور الحديثة لاستثمار المال تقضي بذلك، وأخيرا فإن المضاربة بصورتها التقليدية تتعارض مع شرط الضمان للمضاربة في صورتها الحديثة، إذ أن يد المضارب يد أمانة على المال وليست يد ضمان إلا في حالة التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة وهو ما يتنافى مع الصور الحديثة للاستثمارات والتي تستلزم أن يكون يد البنك علي الوديعة المصرفية هي يد ضمان وليس يد أمانة، الأمر الذي يستلزم توفيق البدائل الشرعية للفائدة الربوية وهما عقدي المضاربة والمرابحة وعقد القرض حتى يتفقوا مع الصورة العصرية للاستثمارات واستخدام الوديعة المصرفية في شكلها الحديث، وهو ما ألجأ البنوك الإسلامية إلي تغيير بعض شروط البدائل الشرعية في بعض شروطها والتي تتفق مع الاستثمارات وسرعة ضخ رأس المال في المشروعات الاستثمارية المختلفة.
مستشار دكتور ، إيهاب محمد شحاتة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً