تعد المحادثات الشخصية ومنها المحادثات الهاتفية من مظاهر الحق في الخصوصية ، وذلك لما تتضمنه هذه الاحاديث من دقائق الاسرار ، وتناقل الافكار الشخصية دون حرج او خوف من تنصت الغير ، وفي مأمن من فضول استراق السمع (1) ويمكن اجراء نوع من القياس بين نشر المراسلات الخصوصية والمحادثات الهاتفية ، اذ ان الفقه (2) استقر على ان للمرسل الحق في السرية اذ كانت الرسالة تتضمن سراً يخصه والمرسل اليه ملزم باحترام واجب السرية ولا يجوز له انتهاك حرمتها ، فيجب الا يذيع الاسرار الخاصة التي تتضمنها الرسالة الا بعد الحصول على رضا المرسل بنشرها (3) .
ومما لا جدل فيه ان الصورة لا تختلف عن حالة من تتداخل وقائع خصوصياتهم (4) ، فمن الامور المستقرة فقهاءاً وقضاءاً (5) ان لكل فرد ان ينشر ما يشاء من اسرار له ، لأنه وحده القادر على اعطاء الرضاء ، وله وحدة الحرية في ان يسمح بنشر صورته من قبل الاخرين ويحدد النطاق الذي يكون عليه النشر (6) ، ومن ثم يكون الرضاء بنشر ما يتصل بالخصوصية سبباً لاباحة الكشف عن هذه الخصوصيات المتقدمة. فبالنسبة الى المحادثات الخاصة (الشخصية) او التي تدور عبر الهاتف تتميز بانها تتم بين شخصين ، ومن ثم يثار التساؤل عمن يجب ان يصدر منه الرضاء بتسجيلها حتى يكون مشروعاً ، فهل يشترط رضاء كل من الطرفين ام يكفي رضاء أحدهما ، وفي هذا السياق او من الناحية الواقعية فان الشبه كبير بين الرسالة والمحادثة سواء كانت شخصية ام هاتفية ، ولهذا فلا يجوز التسجيل او النشر الا بموافقة طرفي المحادثة ، واذا ما رضي احدهما للغير بالتسجيل او التنصت او النشر فإنه يعد اعتداءاً على حق محدثه بالخصوصية ، ومن ثم يسأل المتحدث الذي يصدر منه الرضاء ومن قام بالتنصت او التسجيل او النشر فكل منهما قد اعتدى على حق المتحدث بالخصوصية (7) .
وبعبارة اخرى إذا كان من حق الشخص ان ينشر او يذيع اسراره وخصوصياته فانه لايجوز له في الوقت ذاته ان ينشر خصوصيات الغير ، اذ يجب ان ينظر الى الخصوصيات ليس من جانب احد اطرافها فحسب، بل من جانب كل ممن تخصهم لو تعددوا فيجب الحصول على رضاء اصحاب الشأن جميعاً . اما فيما يتعلق بالحق في الصورة ، فانه يخول صاحبه سلطة الاعتراض على انتاج صورته او نشرها دون رضاءه ، اما اذا تم الانتاج او النشر برضاء صاحب الصورة فيعد ذلك عملاً مشروعاً ، اي ان الرضاء يعد قيداً على الحق في الصورة (8) ، فالرضاء الذي يبيح الافعال المتقدمة يجب ان تتوافر فيه الشروط التي تتطلبها القواعد العامة (9) وهي كون الرضاء سابقاً او معاصراً على الأقل للفعل ، وان يكون صادراً من شخص قادر على الادراك والتمييز وان يكون لمن صدر الرضاء عنه صفة في اصداره .
وكما يكون الرضاء صريحاً شفاهةً او كتابةً ، اوضمنياً يستنتج من الظروف المحيطة بالواقع سواء كان الرضاء بتسجيل الحديث ونقله ام الرضاء بالتصوير والنشر ، كما في طبيعة العلاقة بين صاحب الحديث او الصورة وبين من ينقل الحديث او يلتقط الصور او ينشرها ، ومثال ذلك ، اذا قام صديق بتصوير شريط فديو لصديقه للإحتفاظ به للذكرى مستنداً الى رضاء ضمني من جانب من تم تصويره ، ولكن يجدر التنبيه في هذه الحالة الى ان الرضاء بالتصوير لا يعني بالضرورة الرضاء بنشر التصوير الى عامة الناس ، فالرضاء بالتصوير والنشر أمران متلازمان ، اذ ان الانسان يرضى للغير بالتقاط صورته دون ان يمتد هذا الرضاء الى النشر بيدان الرضاء الضمني بنشر الصورة قد يستنتج من الظروف التي التقطت فيها الصورة (10) وقد يكون الرضاء مفترضاً ، فاذا صدر فعل التسجيل او التصوير في اثناء الاجتماع على مرأى او مسمع من الحاضرين فان رضاءهم يكون مفترضاً ، اذ يعتبر بعضهم(11) ان هذه القرينة قرينة قاطعة لا تقبل اثبات العكس ، غير ان ذلك أمر لا ينسجم مع منهج القانون الجنائي ، لذلك يعد بعضهم الآخر(12) – وهو الغالب من الفقه – إنها قرينة بسيطة تقبل اثبات العكس بكافة طرق الاثبات استناداً الى العلة من الافتراض هو عدم الاعتراض ، و الرضاء هو عدم الاعتراض ، فإذا صدر الاعتراض عن رهبة او خشية من المتهم فأن ذلك الافتراض لا يكون له محل ، وان الرضاء بانتهاك حق الخصوصية لا يعد تنازلاً عن حرمتها وانما هو ازالة لسريتها (13) .
فضلاً عما تقدم يجب ان يكون الرضاء في الافعال محل البحث محدداً تحديداً دقيقاً ، فلو رضي انسان ان ينقل حديثاً له عن موضوع معين ، ثم نقل عنه موضوعاً آخر ، فان الرضاء في هذه الحالة لا يكون متوافراً ولا أثر له على قيام الجريمة ، كذلك لا يكفي مجرد الرضاء بفكرة التصوير بل يجب ان يحدد صاحب الحق في الصورة تحديداً كافياً ما يدخل في الصورة(14) فإذا صدر الرضاء مستوفياً لشروط صحته، سليماً وبارادة حرة خالياً من عيوب الغلط او الاكراه او التدليس سابقاً او معاصراً لوقوع الجريمة ، فان الرضاء يبيح الجريمة ومن ثم يكون سبباً من اسباب اباحتها . ولا يفوتنا في هذا المقام الاشارة الى حدود مشروعية الرضاء بنشر بعض وقائع الحق في الخصوصية ، اذ يعد الرضاء بالنشر المخالف للنظام العام اوالآداب باطلاً ، لا اثر له اذا تعلق بالحياة الجنسية للشخص، وهذا ما استقر عليه القضاء (15) ، ومن جهة اخرى يجب إلتزام من حصل على الرضاء بنشر وقائع الحق في الخصوصية مراعاة واجبات المستفيد منه (اي الشخص صاحب الرضاء) ، كالالتزام بالوقائع التي كانت محلاً للرضاء ، فلا يملك من حصل على الرضاء ، التعرض لوقائع اخرى غير تلك التي تمت الموافقة على نشرها ، فاذا رضي شخص على التقاط صورته مع اسرته في بيته فان هذا الرضاء لا يمتد الى نشر الاحاديث التي دارت بين افراد الاسرة اثناء التصوير (16) ،كما يجب الالتزام بالوسيلة التي كانت محلاً للرضاء ، فنشر الاحاديث الخاصة يمكن ان يتم بوسائل مختلفة سواء أكات شفوية ام كتابية ام سمعية ام بصرية ، اذ ينبغي ضرورة التزام من حصل على الرضاء بالنشر بوسيلة معينة ان يلتزم عند النشر باتباع هذه الوسيلة دون غيرها (17) .
_________________
1- ينظر: د. ممدوح عبد الحميد ، سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية ، دراسة
مقارنة ،مطابع الطوبجي التجارية القاهرة ،1992 ، ص 539 .
2- ينظر: د. نعيم مغبغب، مخاطر المعلوماتية والانترنت، بدون مكان طبع، 1998م ، ص 75 وما بعدها .
3- ينظر: د. حسام الدين الاهواني ، الحق في احترام الحياة الخاصة ، دار النهضة العربية ،
القاهرة ،1978م ، ص 220 .
4- ينظر: د. سعيد جبر ، الحق في الصورة ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1986م ، ص 15 .
5- ينظر: حكم محكمة استئناف باريس في 17/مارس/1966م . وقد اشار اليه د.حسام الدين الاهواني ،
مصدر سابق ، ص203 هامش رقم (1) .
6- ينظر: د.سعيد جبر، مصدر سابق ، ص50 وما بعدها .
7- ينظر: د.حسام الدين الاهواني ، مصدر سابق ، ص 219-221
8- كما ان هناك حالات معينة يتم فيها انتاج صورة الانسان او نشرها دون رضائه ، ورغم ذلك تعد مشروعة
وتجد هذه الحالات أساسها في ضرورات الحق في الاعلام ، ولكن لا يتسع بحثها في هذا السياق لذا يقتصر
بحثنا على أثر الرضاء في الحق في الصورة .
ينظر: بشأن ذلك تفصيلاً د.سعيد جبر ، مصدر سابق ، ص 49 .
9- ينظر:ص(313-315) من هذه الاطروحة .
10- ينظر: د.سعيد جبر ، مصدر سابق ، ص 50 وما بعدها . مشيراً الى حكم من يرتدي موديل (بدلة شعبية) تمثل اقليماً معيناً ، قد رضي بناءاً على طلب احد الهواة بان يجلس امام المصور لإلتقاط صورة له بهذا
الزي ، ومن ثم فانه يكون قد رضي ضمناً بان يقوم طالب هذه الصورة باضافتها الى مجموعة لديه وان
يقوم بنشرها على نطاق ضيق ضمن مجموعة الصور التي تتعلق بهذا الاقليم الذي ينتمي اليه صاحب
الصورة . المصدر نفسه ، ص51 .
11- ينظر: د. كمال عبد الرزاق خريسات ، رضاء المجني ودوره في المسؤولية الجنائية ،
ط(1)، دار آفاق للنشر والتوزيع ، عمان ، 1995م ، ص 294 .
12- ينظر: د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات / القسم الخاص ، جرائم الاعتداء
على الأشخاص ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1978م ، ص775 ، وكذلك د.ممدوح ، مصدر سابق ، ص 357 .
13- ينظر: د.احمد فتحي سرور ، الوسيط في شرح قانون العقوبات ، القسم الخاص ، ط(1991م)، ص764.
14- ينظر: د.كمال خريسات ، مصدر سابق ، ص 294 .
15- وقد قضي في فرنسا ببطلان عقد بين شركة سينمائية وفتاة تظهر عارية في فيلم سينمائي وخضوعها لوشم على جزء خارجي من جسمها يظهر عارياً امام الجمهور ، وذلك لبطلان السبب ، اي كونه مخالف للنظام
العام اوالآداب . قرار محكمة استئناف باريس في 8/11/1973م ، مجموعة دالوز القضائية الفرنسية 1975م ، ص401 . وعلى عكس ذلك فقد برأت محكمة باريس بتاريخ 23/11/2003م ، ثلاث
مصورين قاموا بإلتقاط صور للأميرة البريطانية ديانا ورفيقها دودي الفايد بعد وقوع حادث اودى
بحياتهما، مما اضطر بوالد دودي الفايد والمدعو بـ محمد الفايد لرفع دعوى امام القضاء الفرنسي على
اساس انتهاك الحق في الخصوصية ، الا ان المحكمة قررت براءة المصورين الثلاثة على اعتبار ان
التصوير في الطريق العام لأغراض الأعلام امور تهم الجمهور ولا يعد من قبيل الحق في
الخصوصية. وللمزيد تفصيلاً ينظر: سعد صالح شكطي الجبوري ، مسؤولية الصحفي الجنائية عن جرائم
النشر، رسالة ماجستير مقدمة الى كلية القانون ، جامعة الموصل، 2000 م ،ص85.
16- ينظر: د. طارق احمد فتحي سرور ، الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر ،
دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1991م ، ص76 ، مشيراً كذلك الى انه اذا رضيت فنانة على نشر صورتها ، فان هذا الرضاء لا يسمح بنشر خبر مؤداه ان الفنانة المذكورة قد اجرت عملية جراحية لتغيير جنسها ، وان هذا النشر يعد مساساً باسرارها الخاصة ، محكمة باريس في 20/ابريل/1979م ينظر :المصدر نفسه ص77 هامش رقم (2) .
17- ينظر: المصدر السابق ، ص77.
المؤلف : علي احمد عبد الزعبي
الكتاب أو المصدر : حق الخصوصية
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً